استحقاقات التنمية التحررية في فلسطين
بكر ياسين اشتية
أستاذ الاقتصاد في جامعة النجاح الوطنية
ثلاثة وعشرون عاما انقضت من عمر السلطة الفلسطينية وسط مؤشرات اقتصادية مخيبة للآمال، فمن تراجع مخيف في قدرة القطاع الزراعي على تكوين الحسابات القومية (3.2% من الناتج المحلي الإجمالي) إلى ضعف عام في أداء القطاع الصناعي، مرورا بعجز مخيف في الميزان التجاري يقدر بـ (4.3) مليار دولار، وصولا لمديونية عامة لمالية السلطة الفلسطينية تجاوزت (4.6) مليار دولار. وصاحب تلك المؤشرات ارتفاع في معدلات البطالة وصلت إلى (27.2%) من مجموع القوى العاملة، مع ارتفاع خجول في معدلات نمو الناتج المحلي الإجمالي لم تتجاوز (3.9%)، وهي نسبة بالكاد تغطي نسبة الزيادة الطبيعية في عدد السكان.
وفي الوقت الذي نقف فيه عاجزين عن تحميل فاتورة التدهور الاقتصادي الفلسطيني على الكيان الإسرائيلي بصفته العائق الأكبر في طريق التنمية التحررية، نجد فينا ذات العجز عن توجيه دفة الموارد المالية والاقتصادية المتاحة نحو استغلال أمثل وفقا لأولويات تنموية مدروسة، الأمر الذي يضعنا أمام استحقاقات مطلبية من كافة فئات ومكونات المجتمع الفلسطيني، استحقاقات عمالية وإنتاجية وتعليمية وصحية ووحدوية، أو باختصار أكبر، استحقاقات التنمية التحررية.
مفهوم التنمية التحررية
ترتكز التنمية التحررية على إيجاد صيغة عمل وطنية تمكن الإنسان الفلسطيني من إحداث استدامة تنموية ضمن الموارد الاقتصادية والبشرية المتاحة ضمن سيناريو يقود إلى انعتاق فكري يسبق الانعتاق الاقتصادي عن الاحتلال الإسرائيلي.
فالمتتبع للواقع الفلسطيني المعاش يلاحظ تحولا جوهريا في هم الشارع الفلسطيني وسقف مطالبه من مطالب سياسية ترمي لإزالة الاحتلال إلى مطالب اقتصادية تستمرئ العناق غير الصحي مع دولة الاحتلال بغية استدامة مواردنا المالية القائمة على التبعية المفرطة لمكونات الاقتصاد الإسرائلي.
هذا التحول الخطير يستدعي تضافر الجهود من قبل مكونات العمل الوطني الفلسطيني باتجاه تعزيز مواردنا المحلية ضمن استراتيجية اقتصادية وطنية شاملة طالما أخفقت مؤسسات السلطة الفلسطينية على رسمها لأسباب تعود لغياب الرؤيا طويلة الأمد لمستقبل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، الأمر الذي قاد إلى تشوهات هيكلية في كافة قطاعات الاقتصاد الفلسطيني، وبالتالي تراجع قدرتها على قيادة اقتصاد الصمود والمقاومة القائم أساسا على مفهوم التنمية التحررية.
أولويات العام الجديد
من الضرورة بمكان أن نبني استراتيجية التنمية التحررية على قاعدة المزايا النسبية لمكونات الاقتصاد الفلسطيني بعيدا عن الشمولية المفرطة في صياغة خطط الإنفاق التي عادة ما كانت تعيد إنتاج تبعية الاقتصاد الفلسطيني لنظيره الإسرائيلي وللمساعدات والقروض والمنح ضمن قوانين الموازنات الإغاثية المرتكزة على مصادر التمويل الخارجي.
في هذا الجزء من المقال سأحاول تسليط الضوء على أولويات الإنفاق التنموي التي يمكن تلخيصها بالمحاور التالية:
محور الأمن الغذائي
وضمن هذا المحور تكمن مواطن الخلل في سلسلة التصنيع الزراعي القائمة على قطاعي الزراعة والصناعة، والاستراتيجية الأبرز هنا تكمن في جسر الفجوة الحادة في منتجات ومدخلات إنتاج اللحوم الحمراء في الأسواق الفلسطينية، حيث تغطي تلك المنتجات (65%) تقريبا من الاحتياجات الاستهلاكية، علما أن (70%) من تكاليف إنتاج اللحوم عبارة عن أعلاف، (80%) منها يأتينا من الجانب الإسرائيلي. أي أن جزءا كبيرا من الإنتاج النهائي والنسبة الأكبر من مستلزمات الإنتاج للثروة الحيوانية يأتيان من دولة الاحتلال.
ومع استحضار حقيقة أن (62%) من الأراضي الفلسطينية مصنفة أراضي (ج)، أي يمنع التصرف فيها في مجالات البناء والتصنيع إلا بموافقة إسرائيلية، تبرز أهمية استغلال تلك الأراضي كمراعي خضراء، وزراعتها بمحاصيل الحبوب اللازمة لصناعة الأعلاف، الأمر الذي لا يتطلب أي موافقة إسرائيلية. تلك الآلية تضمن إلى حد ما ارتباطنا زراعيا بالأراضي المهددة بالمصادرة والاستيطان، وتعمل على توفير مدخلات الإنتاج اللازمة لصناعة الأعلاف، كما وستضمن تلك الآلية تزويد صناعات اللحوم والألبان الفلسطينية بمدخلات اللحوم والحليب من المزارع الفلسطينية، وبالتالي زيادة القدرة على تنمية الثروة الحيوانية والصناعات الغذائية بكلفة أقل من جهة، وبموارد فلسطينية ذاتية من جهة أخرى.
يضاف إلى كل ذلك أولوية تخفيض مخاطر الاستثمار الزراعي من خلال إنشاء مؤسستي تسويق وتأمين زراعيتين بالشراكة بين القطاعين العام والخاص، تضمنان نفاذا أكبر لفائض الإنتاج الزراعي لأسواق العالم من جهة، وضمانا لمخاطر التقلبات السعرية والمخاطر الطبيعية من جهة أخرى.
محور التشغيل
تجاوز عدد العاطلين عن العمل في الأراضي الفلسطينية (340) ألفا، في الوقت الذي تضاءلت فيه الطاقة الاستيعابية لسوق العمل الفلسطيني من مجموع الداخلين الجدد لسوق العمل، الأمر الذي ينذر بمزيد من التبعية لسوق العمل الإسرائيلي، ومزيدا من هجرة الشباب والعقول للخارج.
وفي ظل ضعف قدرة القطاع الخاص على التشغيل، وحالة الترهل الوظيفي في مؤسسات القطاع العام، تبرز أهمية ريادة الأعمال وحاضنات الأعمال كمفاتيح تنموية لم تأخذ حقها فلسطينيا نظرا لضعف الرغبة وغياب الإرادة لدى مستوى القرار الاقتصادي، فلم تزل ثقافة ريادة الأعمال غائبة عن مراكز التخطيط الاستراتيجي رغم توفر كافة مقومات نجاحها. فالجامعات تعج بالخبرات ومراكز الأبحاث الهندسية والفنية والاقتصادية والمالية، وغرف التجارة والصناعة حبلى بعقود من التجارب والنجاحات والخبرات على مستوى محافظات الوطن، والفرص الاستثمارية في قطاعات الصناعة والزراعة والخدمات وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات كثيرة، ومئات من المؤسسات المانحة والتمويلية تملؤ أزقة الوطن.
إلا أن غياب الإرادة والاستراتيجية الموجهة نحو الموارد والإمكانات البشرية الفلسطينية المتاحة أدى إلى تشتتها دونما أثر يذكر على مستويي الإنتاج والتشغيل، والأصل هنا أن تبدأ السلطة الفلسطينية بإنشاء منفذ موحد (الشباك الواحد) لتبسيط إجراءات الدعم والترخيص والتشغيل، وعنوان معلن لكل باحث عن فرصة استثمارية أو مصدر تمويل، فجل المؤسسات المانحة والفرص التمويلية تتكدس في العاصمة السياسية رام الله، ومن هناك يتم توزيع الفرص على أسس شخصية ومناطقية وتنظيمية، ما يفقدها الأثر التنموي المنشود على مستويات الإنتاج والتشغيل.
ولضمان نفاذ أمثل لمنتجات المشاريع الريادية للأسواق المحلية والأجنبية، لا بد من البدء فورا بتأسيس أرض للمعارض تتبنى منتجات تلك المشاريع على مدار العام، الأمر الذي سيعزز من ثقة المستهلك بالمنتج الوطني، وينشر ثقافة المنتجات الوطنية كبديل عن المنتج الإسرائيلي.
محور الجباية والموارد المالية
وهنا نعود للتذكير بما كنت قد نشرته على موقع الجزيرة نت في مقال كان بعنوان "الضابطة الجمركية الفلسطينية ومفاتيح الأمن الاقتصادي"، حيث تبين أن مجموع التسرب المالي من خزينة السلطة الفلسطينية إلى الخزينة الإسرائيلية في إيرادات المقاصة تقدر بنحو (505) مليون دولار سنويا، وهو مبلغ كفيل بسد كامل العجز في بند الرواتب والأجور، الأمر الذي يتطلب إعادة النظر في آلية عمل جهاز الضابطة الجمركية وحجم الإمكانات البشرية واللوجستية المتواضعة المخصصة لهذا الجهاز المسؤول عن ضبط كامل الموارد المالية المهدورة.
هذا إضافة لضرورة بذل مجهودات دبلوماسية باتجاه الضغط على الجانب الإسرائيلي لإعادة فتح بنود بروتوكول باريس المنظم للعلاقات الاقتصادية الفلسطينية الإسرائيلية من جهة، وضمان تطبيق عادل للنصوص الواردة فيه من جهة أخرى، حيث تكمن كافة مكامن الخلل في التسرب المالي الفلسطيني إلى البنود المجحفة في البروتوكول، وإلى الالتفاف الإسرائيلي على بنوده، ما عزز من درجة الانكشاف المالي والاقتصادي الفلسطيني.
خلاصة القول أن التنمية التحررية المنشودة للحالة الفلسطينية يجب أن تستند إلى مواردنا البشرية والمالية المتاحة، إضافة إلى إحلال مكوناتنا الفكرية والتاريخية والتعليمية والثقافية والتنظيمية محل هيمنة الاحتلال الإسرائيلي على مفاصل صناعة القرار الفلسطيني.