العجز التجاري.. استهداف الصادرات أم إحلال الواردات؟
بتتبع هيكل الميزان التجاري الفلسطيني مع العالم الخارجي نلاحظ أن أجزاء من صورة الخارطة الاقتصادية تتكشف عن تشوهات تراكمت على امتداد خمسين عاما من التبعية التجارية والإنتاجية مع دولة الاحتلال، كرستها ممارسات اقتصادية غير مسؤولة من قبل المؤسسات ذات العلاقة في السلطة الفلسطينية..
د. بكر اشتية- بوابة اقتصاد فلسطين
مع بدايات الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية وقطاع غزة، أيقن الجانب الإسرائيلي أن الطريق للضم الجيوسياسي للأراضي الفلسطينية محفوفة بقرارات ومواقف أممية ترفض الاعتراف المباشر بكيان احتلالي يتعارض مع أبسط مبادئ العالم الحر، لكنها قد تمرر حالة مجمّلة للاحتلال تحت مسميات المصالح المشتركة والتعايش السلمي والسلام الاقتصادي، الأمر الذي أيقن الكيان الإسرائيلي أنه يمر أولا بالاحتلال الاقتصادي المشروع دوليا، وهو ما نجح في تكريسه تحت مسمى "الاحتلال الرخيص" منذ سنوات الاحتلال الأولى وحتى اللحظة.
ويبدو أن أدوات الاحتلال الاقتصادي تطورت من تبعية مباشرة في التجارة الخارجية وسوق العمل خلال الفترة ما قبل أوسلو، إلى "شرعنة" التبعية وتوجيهها بمراكز القوى والشراكات الفلسطينية الإسرائيلية، الأمر الذي كرّس عجزا مزمنا في الميزان التجاري الفلسطيني كان سقفه (650) مليون دولار قبل أوسلو، ليتجاوز (4.7) مليار دولار عام (2014).
حين نفقد الإرادة الاقتصادية
على الرغم من التضييق الاقتصادي الذي مارسته دولة الاحتلال على المناطق الفلسطينية خلال الفترة ما قبل أوسلو، من ضرب للقواعد الإنتاجية الفلسطينية وإغراقها بالضرائب والرسوم، إلى منع الاستيراد والتصدير المباشر إلا بوكيل أو وسيط إسرائيلي، وصولا إلى تحريم العمق التجاري العربي على الفلسطينيين بسبب مقاطعة الدول العربية للكيان الإسرائيلي في ذلك الوقت. على الرغم من كل تلك الممارسات التي أدت لتعميق التبعية التجارية للجانب الإسرائيل، إلا أن الإرادة الاقتصادية للشعب الفلسطيني كانت حاضرة وبقوة خلال سنوات الانتفاضة الأولى.
فبعد أن كانت المنتجات الإسرائيلية تشكل أكثر من (91%) من هيكل الواردات الفلسطينية عام (1987)، وبعد أن كانت الزراعة الفلسطينية تشكل أقل من (20%) من الناتج المحلي الإجمالي، قامت القوى والفعاليات الوطنية الفلسطينية حينها بالدعوة لمقاطعة المنتجات الزراعية الإسرائيلية من خلال توجيع العمالة الفلسطينية في إسرائيل للعودة لأراضيهم وزراعتها، وكانت حينها البيانات الفصائلية الموحدة هي السلطة الفلسطينية الحاكمة على الأرض. عندها قفزت مساهمة القطاع الزراعي الفلسطيني عام (1989) إلى (44%) من الناتج المحلي الإجمالي، محققا فائضا في إنتاج المحاصيل الحقلية بلغ حد الاكتفاء الذاتي والاستغناء عن المنتجات الزراعية الإسرائيلية.
المحزن في الأمر أنه وبالرغم من وجود سلطة فلسطينية، ووزارات زراعة ومالية واقتصاد، وإغاثة زراعية، ومليارات الدولارات من المساعدات الأجنبية، إلا أن أي من السنوات ما بعد أوسلو لم تتمكن من الوصول لحجم الإنتاج الذي وصلناه قبل أوسلو، لا بالقيمة المطلقة للقيم المضافة التي لم تتجاوز (280) مليون دولار، ولا بنسبة الإنتاج الزراعي إلى الناتج المحلي التي اقتصرت على (3.2%)، وذلك للعام (2015).
استراتيجية التصدير أم إحلال الواردات؟
من الواضح أن الجانب الإسرائيلي كان وما زال يحقق نجاحات كبيرة في تحويل الفلسطينيين إلى سلة استهلاك للمنتجات الإسرائيلية، أداته الأولى في ذلك كانت تكريس التعاقدات الإنتاجية الفلسطينية من الباطن مع قطاعات الإنتاج الإسرائيلي، وبالتالي تحويل الصناعات الفلسطينية إلى صناعات مكملة لأجزاء من عمليات الإنتاج الإسرائيلي بهدف الحصول على أقصى مقومات المنافسة السعرية المتأتية من انخفاض أجور العمالة الفلسطينية في المناطق الفلسطينية مقارنة بنظرائهم في الجانب الإسرائيلي.
أما الأداة الثانية فكانت ضرب الزراعة الحقلية من خلال دعم وتشجيع الزراعة التصديرة "كالورد والفراولة" التي أغرت غالبية المزارعين الفلسطينيين في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي ممن قاموا بتجريف حقولهم وبياراتهم لتحويلها لزراعات تصديرية كان المتحكم بتصريفها وتسعيرها وكلاء إسرائيليون نجحوا بتحويل الغالبية العظمى من مزارعيها إلى عمال بالسخرة في أراضيهم. والمحصلة كانت تحكّم الجانب الإسرائيلي بفوائض الإنتاج الزراعي الفلسطيني، وغزو المنتجات الزراعية الحقلية الإسرائيلية للأسواق الفلسطينية.
ويبدو أن كلا الأداتين راق لرجالات المرحلة من الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي خلال الفترة ما بعد أوسلو، فالتعاقدات من الباطن بدأت تأخذ أشكالا أكثر تطورا وتعقيدا امتدت لشراكات فلسطينية إسرائيلية طالت المستعمرات الإسرائيلية في الضفة وباقي المناطق الفلسطينية، وبعض شركات التعبئة والتغليف الفلسطينية تشهد على انحطاط في العلاقة وصل حد تبييض المنتجات الزراعية الإسرائيلية بمسميات وشهادات منشأ فلسطينية لتسهيل دخولها للأسواق الأوروبية، هذا إضافة لارتفاع الأصوات الفلسطينية المنادية بالعودة للتركيز على الاستثمارات الزراعية التصديرية المحكومة على الحواجز والمعابر بأهواء ومصالح إسرائيلية، متناسين أهمية التركيز على الزراعة الحقلية، أو ما يمكن تسميته بزراعة الاكتفاء الذاتي.
وحري بنا في هذا المجال تحديد استراتيجيات وأولويات الإنتاج الفلسطيني بشكل عام، فهل تكون الأولوية للتصدير أم لإحلال الواردات؟ هل الاستراتيجية الأنسب "في ظل سيطرة إسرائيلية كاملة على نقاط الشحن والعبور وفي ظل إغراق أسواقنا بالمنتجات الإسرائيلية" هي بتسليم ما تبقى من مقوماتنا الإنتاجية الصناعية والزراعية للجانب الإسرائيلي؟ هل استراتيجية الزراعة التصديرية هي الأنسب في ظل تفتت الملكيات والحيازات الزراعية وغياب استراتيجيات التسويق الزراعي؟ جزء من الإجابة على تلك التساؤلات يكمن بدراسة هيكل الميزان التجاري الفلسطيني.
تشوهات في هيكل الميزان التجاري
بالرجوع لهيكل وتفاصيل الميزان التجاري الفلسطيني مع العالم الخارجي، فإننا نلاحظ الأمور التالية:
أولا: بلغت وارداتنا من العالم الخارجي "بما فيها دولة الاحتلال" (5.68) و(5.22) مليار دولار للعامين (2014 – 2015) على التوالي. وباحتساب قيمة الإنفاق الاستهلاكي للأسر المعيشية الفلسطينية للعامين المذكورين نجد أن مجموع الواردات يشكل (88%) و(78%) من مجموع الاستهلاك الفلسطيني للعامين المذكورين على التوالي. الأمر الذي يشكل ضغطا عكسيا على ميزان المدفوعات الفلسطيني، ويؤكد ضرورة اعتماد استراتيجية إحلال الواردات في سياساتنا الإنتاجية.
ثانيا: الواردات الفلسطينية تبلغ ستة أضعاف الصادرات، (70%) منها يأتي من الجانب الإسرائيلي، علما أن (50%) من وارداتنا تذهب لبند الطاقة (الكهرباء والمحروقات) والتي تأتينا بالكامل من الجانب الإسرائيلي. الأمر الذي يتطلب توجيه ما أمكن من مواردنا باتجاه إنتاج الطاقة الكهربائية، وبالأخص مصادر الطاقة البديلة التي أثبتت كافة الدراسات تناسبها مع طبيعة المناخ الفلسطيني.
أما في مجال المحروقات، فلا أقل من استبدال الاحتكار الطوعي لشركة باز الإسرائيلية للأسواق الفلسطينية بخطوط إمداد أردنية، علما أن الجانب الإسرائيلي وحسب بنود بروتوكول باريس الاقتصادي وبأكثر من تصريح له، لا يمانع استيراد السلطة الفلسطينية للمحروقات من أي دولة تقيم علاقات اقتصادية مع الجانب الإسرائيلي.
ثالثا: لا تشكل الصادرات الفلسطينية إلى دول الجوار العربي أكثر من (6.3%) من مجموع الصادرات، في حين أن تلك الصادرات الموجهة لدولة الاحتلال تشكل (84%) من إجمالي الصادرات الفلسطينية، (75%) منها عبارة عن أجزاء من مراحل إنتاج إسرائيلية بأيدي فلسطينية وعلى الأراضي الفلسطينية، وهو ما اصطلحنا على تسميته بالتعاقدات من الباطن.
من الواضح هنا أن أي استراتيجية إنتاج تصديرية في المناطق الفلسطينية لا بد أن تمر بالجانب الإسرائيلي سواء بالتصدير المباشر له أو من خلاله أو بالتعاقدات من الباطن، في حين أن استراتيجية إحلال الواردات لا تتطلب أكثر من تعزيز جودة المنتج الوطني ودعم قواعد إنتاجه بهدف الوصول لتبعية اقتصادية أقل مع الجانب الإسرائيلي، والابتعاد بأكبر قدر ممكن من دورة النقود الفلسطينية عن التسرب للعالم الخارجي.
خلاصة القول أنه بتتبع هيكل الميزان التجاري الفلسطيني مع العالم الخارجي نلاحظ أن أجزاء من صورة الخارطة الاقتصادية تتكشف عن تشوهات تراكمت على امتداد خمسين عاما من التبعية التجارية والإنتاجية مع دولة الاحتلال، كرستها ممارسات اقتصادية غير مسؤولة من قبل المؤسسات ذات العلاقة في السلطة الفلسطينية، كانت ذروتها غياب الدور الرقابي والقانوني للمجلس التشريعي الفلسطيني، لتحل نيابة عنه نخب من أصحاب المصالح والنفوذ ممن احتكروا صلاحيات التشريع الاقتصادي بما يخدم مصالحهم المالية التي تتعاظم مع تعاظم التبعية الاقتصادية مع الجانب الإسرائيلي.