جدوى إنتاج واستخدام البلاستيك القابل للتحلل بيولوجيا
لو أغمضنا أعيننا لبرهة من الزمن وتخيلنا حياتنا خالية من البلاستيك، فسرعان ما ستتلوث الصورة النقية من البلاستيك في أذهاننا؛ لأن كل المنتجات تقريبا التي نستخدمها يوميا تحتوي على مكونات بلاستيكية: السيارات، الأثاث، التغليف، الأجهزة المنزلية، لعب الأطفال، أدوات المطبخ وغيرها.
د. جورج كرزم
المصدر الوحيد تقريبا لتصنيع البلاستيك هو مكونات نفطية أجري عليها ما يعرف بعملية البلمرة؛ أي إنتاج سلاسل كيميائية طويلة من وحدات متشابهة، والنتيجة عبارة عن مادة متينة ومعمرة جدا تتميز بمجموعة واسعة من الصفات التي يمكن السيطرة عليها؛ مثل المرونة، الشفافية، الليونة وغير ذلك. عالميا، يتم إنتاج 300 مليون طن من المكونات البلاستيكية سنويا.
وتعتبر متانة البلاستيك مصدرا لمشاكل بيئية خطيرة، لأن هذا البلاستيك، في كثير من الأحيان، غير قابل للتحلل، حيث أن بقايا منتجاته التي لا تدفن بشكل صحيح في مكبات النفايات، تولد تلوثا يتغلغل إلى السلسلة الغذائية.
في الواقع، منذ ثلاثينيات القرن الماضي اُكتشفت إمكانية إنتاج البلاستيك من مصادر إضافية، مثل البكتيريا والنباتات. مثل هذه البوليمرات يمكنها التحلل بيولوجيا بشكل كامل؛ لذا، فقد تحلّ لأول وهلة، مشكلة الأضرار التي يتسبب بها البلاستيك العادي. وقد سارعت بعض الشركات التجارية إلى تسويق أكياس ومنتجات بلاستيكية أخرى تحت عنوان "منتجات قابلة للتحلل". لكن، كي نفهم فيما إذا كانت تلك المواد قادرة فعلا على حل المشكلة، لا بد أن ندقق في المسألة من منظور أشمل. وكما جرت العادة، سنجد بأن الصورة أكثر تعقيدا، إذ أن المواد البلاستيكية القابلة للتحلل قد تكون مفيدة لحماية البيئة، لكن، في ظل ظروف محدودة فقط.
خلال عملية إنتاج البلاستيك، تمر الجزيئات العضوية بعملية كيميائية تحولها إلى سلاسل طويلة يمكن للمنتج أن يشكلها حسب الرغبة. وفي حال تغيير الجزيئات الأساسية وإضافة المعادن وغيرها من المواد إلى البلاستيك، عندئذ يكتسب الأخير مزايا فريدة حسب الحاجة. بعد استخدام المنتج يتم التخلص منه عموما في القمامة، وهنا تحديدا تبدأ المشاكل.
المشكلة الكبيرة أنه، من الناحية البيولوجية، لا توجد تقريبا إمكانية لتفكيك هذه السلاسل، لأنه لا يوجد إنزيمات يمكنها التعامل مع البوليمرات الاصطناعية المشتقة من النفط. وبين الحين والآخر يتم اكتشاف بكتيريا تستطيع تفكيك بعض أنواع البلاستيك واستخراج الطاقة منها؛ إلا أن معظم هذه البكتيريا يعمل ببطء شديد ويتطلب شروطا خاصة. وردا على هذه المشكلة، أضاف المصنعون للبوليمرات، مع مرور الزمن، عوامل محفزة لتفكيك البلاستيك فيزيائيا، وأساسا بواسطة الأشعة فوق البنفسجية.
بعد تعرضها لأشعة الشمس تتفتت هذه المنتجات البلاستيكية إلى جسيمات غير مرئية؛ كما يحدث، على سبيل المثال، للأكياس التي نحصل عليها من السوبر ماركت. إلا أن هذه الجسيمات لا تتحلل تماما، بل تبقى مستقرة وتتناثر في البيئة؛ وحاليا تتسبب هذه الجسيمات بأضرار جسيمة، لا سيما للنظم الإيكولوجية البحرية التي يصل إليها جزء كبير من هذه الجسيمات.
هناك بالطبع طرق أخرى للتخلص من البلاستيك، وعلى سبيل المثال بواسطة الحرق، لكن هذه الطريقة فعالة فقط في درجة حرارة عالية جدا، وإلا فإنها تتسبب بإطلاق مواد سامة في البيئة، وبالطبع فإنها تتطلب أيضا قدرا كبيرا من الطاقة. طمر البلاستيك في التربة قد يمنع أيضا إطلاقه للبيئة، لكن لهذه الطريقة محدوديتها، ولا سيما احتمال حدوث تسرب للمواد السامة إلى المياه الجوفية، إضافة إلى المساحة الكبيرة التي تشغلها.
كما أن تدوير البلاستيك الذي ينظر إليه باعتباره عملية تعود بالفائدة على البيئة، يتسبب بأضرار كثيرة بسبب استهلاكه كما هائلا من الطاقة، فضلا عن استخدامه مواد خطرة. يضاف إلى ذلك أن جودة البلاستيك المعاد تدويره متدنية نسبيا بالمقارنة مع المواد الخام الأصلية.
منتجات بلاستيكية مشتقة من مواد بيولوجية
إن إمكانية إنتاج منتجات بلاستيكية مشتقة من مواد بيولوجية مثل البكتيريا والنباتات تعتبر جذابة للغاية، والبحث في هذا المجال جار منذ بضعة عقود. وتتلخص الفكرة في أن نأخذ الجزيئات التي تنتجها الكائنات الحية وأن نجري عليها عملية البلمرة التي ينتج عنها البلاستيك. ميزة هذه المواد أنها، في معظم الحالات، يمكن أن تتحلل بيولوجيا بشكل كامل بواسطة الكائنات الحية الدقيقة؛ وفي نهاية المطاف ينبعث إلى الهواء جزيئات ثاني أكسيد الكربون والماء.
"البولي أكتيد" (PLA) تحديدا، هو عبارة عن بوليمر بلاستيكي يتم إنتاجه من حامض اللاكتيك، وهو ذات الحامض الذي يمنح اللبن مذاقه المميز. المصدر الرئيسي الأكثر شيوعا لحامض اللاكتيك هو نشا الذرة؛ إذ يلزم حوالي 2.5 كغم من الذرة لإنتاج كيلوغرام واحد من PLA. مادة شعبية أخرى هي "بولي هيدروكسي ألكنويْت" (PHA) وهي عبارة عن بوليمر طبيعي تماما يتم إنتاجه بواسطة البكتيريا كمصدر للكربون عند الحاجة، وأحيانا تصل نسبة هذا البوليمر إلى 80% من كتلة البكتيريا الجافة. يمكن تربية هذه البكتيريا بشكل صناعي لإنتاج جزيئات البلاستيك منها.
تستخدم هاتان المادتان على نطاق واسع نسبيا في تشكيلة منوعة من المنتجات، وميزتهما الرئيسية، بالمقارنة مع البلاستيك المشتق من النفط، أنهما تستطيعان التحلل بيولوجيا بشكل كامل. أي لو وضعنا منتجات بلاستيكية من PLA أو PHA في كومة الكمبوست المتحكم به، فإن المادة ستتحلل بالكامل، خلال بضعة أشهر، إلى ثاني أكسيد الكربون والماء. بيد أنه بسبب تكلفتها المرتفعة نسبيا، فإن هذه المنتجات غير شائعة حاليا؛ إلا أن سعرها يهبط باستمرار، ومن المتوقع، في غضون بضع سنوات، أن يتساوى سعرها مع البلاستيك العادي.
مشكلة البلاستيك البيولوجي وكيفية التغلب عليها
العيب الرئيسي في استخدام المنتجات البلاستيكية القابلة للتحلل بيولوجيا هو أنه ينبغي التحكم بعملية التحلل. فإذا ما وصل هذا البلاستيك إلى مكب النفايات العادية، ودفن تحت أكوام القمامة، بحيث تصبح بيئته لا هوائية، أي عديمة الأكسجين؛ فعندئذ، في مثل هذه الظروف، ستتحلل المواد العضوية بواسطة البكتيريا، لينبعث نتيجة ذلك غاز الميثان الذي يعتبر من غازات الدفيئة السامة والقابلة للاشتعال ويتسبب بأضرار أكبر بكثير من ثاني أكسيد الكربون. وبما أن البلاستيك العادي لا يتحلل بتاتا، فقد يقول البعض بأن ضرره على البيئة أقل من البلاستيك البيولوجي.
الطريقة الوحيدة للاستفادة من مزايا البلاستيك القابل للتحلل تكمن في فصله عن النفايات غير العضوية والتعامل معه في منشأة كمبوست متحكم به. هذا الشرط يقيد بشكل جدي استخدام هذا النوع من البلاستيك، لأن مثل هذه المنشآت غير متوفرة حاليا للجميع، وهي تستلزم فصلا صارماً جدا لأنواع النفايات.
مشكلة أخرى هي تنظيمية، إذ لا يوجد حاليا في المستوى الفلسطيني، أية مواصفة ملزمة للشركات المصنعة والمسوقة، كشرط لاستعمالها تعبير "قابل للتحلل" على منتجاتها البلاستيكية. لذا، يستحيل ضمان أن يكون المنتج المسمى "قابلا للتحلل" هو فعلا قابل للتحلل البيولوجي بشكل كامل دون مخلفات ملوثة.
الخلاصة أن المنتجات البلاستيكية القابلة للتحلل بيولوجيا يمكن أن تساهم فعلا في حل المشاكل الناجمة عن استخدام البلاستيك المشتق من النفط وغير القابل للتحلل. ومع ذلك، للاستفادة من مزايا هذه المنتجات يجب إقامة بنية تحتية للتخلص من النفايات المركبة، وإلا فإن البلاستيك البيولوجي قد يتسبب بأضرار أكثر من المنافع.
*** مدير وحدة الدراسات والأبحاث في مركز العمل التنموي/ معا