من جنوب أفريقيا إلى فلسطين... أسوار الأبرتهايد والغيتو
بكر ياسين اشتية
محاضر بقسم الاقتصاد – رئيس القسم سابقا
جامعة النجاح الوطنية – نابلس - فلسطين
لم يكن لدولة الاحتلال الإسرائيلي أن ترسي ركائز قواعدها الإنتاجية في كافة النواحي الاقتصادية دونما اعتماد شبه مطلق على العمالة الفلسطينية في تعزيز المنافسة السعرية للمنتج الإسرائيلي. ولم تكتف بضخ العمالة الفلسطينية الرخيصة نسبيا بعجلة الإنتاج في العمق الإسرائيلي، بل تجاوزت ذلك إلى استخدام العمالة الفلسطينية في مستوطنات الضفة الغربية من جهة، وبالتعاقدات من الباطن التي أتاحت للجانب الإسرائيلي استغلال العمالة الفلسطينية داخل أراضيهم عن طريق تحويل (70%) من قطاعات الإنتاج الفلسطيني في الضفة الغربية إلى قطاعات مكملة ومساندة لماكنة الإنتاج الإسرائيلي بأقل كلفة متاحة من جهة أخرى، الأمر الذي أتاح للجانب الإسرائيلي التحكم بكامل مفاصل الاقتصاد الفلسطيني من خلال تبعية مفرطة قوّضت كل جهد يرمي لانعتاق اقتصادي للفلسطينيين عن دولة الاحتلال، وأتاح لدولة الاحتلال الاستفادة من كامل مقومات الاحتلال الرخيص.
أبرتهايد مكتمل الأركان
تعود جذور مصطلح الأبرتهايد كنظام فصل عنصري ممنهج إلى العام (1948)، حين أقرت حكومة المستعمرين الهولنديين والبريطان البيض في جنوب أفريقيا فصل السكان السود الأصليين في معازل على أسس عرقية، منحتهم فيها تصاريح خاصة بالتنقل لباقي المناطق وفقا لاحتياجات الوحدات الإنتاجية للمستعمرين البيض من العمالة السوداء الرخيصة.
وجاء نظام الأبرتهايد الذي صادق عليه برلمان الأقلية البيضاء شاملا من حيث الفصل الديمغرافي والسياسي، فقد حدد النظام معازل جغرافية عشر للأغلبية السوداء ضمن نظام (الحكم الذاتي) منزوع السيادة، تم إعلان أربعة منها في العام (1974) دولا مستقلة من قبل الحكومة المركزية البيضاء، الأمر الذي لم يلق ترحيبا دوليا لاعتبارات عنصرية.
وأدعي هنا أن دولة الاحتلال الإسرائيلي حاولت على مدى عقود قبل أوسلو أن تنزع عن نفسها الصبغة العنصرية في تعاملاتها مع السكان الأصليين من الفلسطينيين لتحافظ على الصورة التي طالما حاولت تسويقها عنها للعالم على أنها دولة ديمقراطية تنتمي لمنظومة العالم الحر، وقد نجحت في ذلك إلى حد كبير ضمن ممارسات جمّلت في ظاهرها صورة الاحتلال، وعمقت في باطنها تبعية الاقتصاد الفلسطيني للاقتصاد الإسرائيلي. فمن فرص عمل للفلسطينيين في عمق الاقتصاد الإسرائيلي، إلى معدلات دخول مرتفعة، إلى بنى فوقية وتحتحية متطورة، وصولا لجغرافيا مفتوحة دونما حواجز أو تصاريح. غير أن المتتبع لتلك التسهيلات يدرك أن نتائجها قادت إلى تكريس مفهوم الاحتلال الرخيص، وسهلت للجانب الإسرائيلي الاستيطان على الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967.
لكن الأمور بدأت تبتعد عن سياقها خلال الفترة ما بعد أوسلو، حيث بدأت مقاربات دولة الأبرتهايد الجنوب أفريقية تطفو على السطح. ويمكن ملاحظة ذلك بالممارسات التالية:
* تقسيم المناطق الفلسطينية إلى مناطق (A) و (B) و (C) وعزلها عن بعضها وعن التجمعات الإسرائيلية على أسس عرقية.
* جدار الفصل العنصري وحواجز التفتيش.
* مسارات وطرق للمركبات والمشاة خاصة بالإسرائيليين ومحظورة على الفلسطينيين.
* تصاريح العمل وتصاريح التجارة التي تحد من قدرة الفلسطينيين على التنقل.
* مستوطنات ممتدة تطوق التجمعات الفلسطينية وتحد من قدرتها على التوسع.
ويذكر هنا أن المناطق المصنفة (C)، والتي تشكل (62%) من أراضي الضفة الغربية، تخضع للولاية الأمنية والإدارية الإسرائيلية، تم تخصيص (70%) منها للمستعمرات الإسرائيلية، و(29%) أراضي دولة ومناطق عسكرية ومحميات طبيعية، و(1%) فقط للفلسطينيين. أي أن الحدود التنظيمية للمستعمرات الإسرائيلية باتت تبتلع (44%) من مساحة الضفة الغربية، وتفصل التجمعات الفلسطينية في معازل جغرافية غير قادرة على التواصل والحياة إلا من خلال تصاريح وحواجز ومعابر ومنتجات إسرائيلية.
أسوار الغيتو
المتتبع لليهودية عبر التاريخ يجد وبكل وضوح أن اليهود اعتادوا العيش في تجمعات أو حواري (غيتوات) تفصلهم طوعا أو قسرا عن باقي التجمعات السكانية للدول المضيفة. ومصطلح الغيتو الموازي في أدبياتنا لمصطلح حواري اليهود يعود لأكثر من 500 سنة مضت من حي غيتو الإيطالي الذي اتخذته الحكومة الإيطالية آنذاك لتوطين اليهود فيه، الأمر الذي انتشر لاحقا في باقي الدول الأوروبية، حيث كانت تحاط تلك الغيتوات بأسوار وحراسات تمنع اختلاط اليهود بباقي السكان لاعتبارات عرقية ودينية، وكانت ذروة ذلك النظام في ألمانيا النازية التي أحكمت الخناق على اليهود فيها في معازل أشبه ما تكون بالسجون العرقية الجماعية.
فليس غريبا إذا أن نجد اليهود في الضفة الغربية محاطين بأسوار الغيتو التي اعتادوا عليها في مستوطناتهم "مع الفارق التاريخي في موازين القوى"، وليس غريبا أيضا أن نجد الاحتلال الإسرائيلي يعيد إسقاط ما اعتبروه معاناة تاريخية لليهود على الفلسطينيين من خلال أسوار وجدر تذهب في امتدادها لأبعد مما نعي وندرك.
فمن خلال تحليل الخارطتين الديموغرافية والاستيطانية لليهود في الضفة الغربية، نجد أن معدل نمو اليهود في مستوطنات الضفة الغربية تجاوز (9.5%) سنويا خلال السنوات العشرين الماضية، مع تراجع لمعدلات نمو الفلسطينيين فيها لقرابة (2.5%) سنويا. ونجد كذلك أن ما يمكن وصفه حاليا بالغيتوات الاستيطانية اليهودية المعزولة والمنفصلة عن بعضها البعض بأسوار وجدر، ستشكل قريبا وفقا لما أعلنت عنه حكومة الاحتلال مستوطنات متصلة وممتدة جغرافيا على معظم أراضي الضفة الغربية، مع تراجع حاد لقدرة المدن الفلسطينية على التواصل الجغرافي والسكاني، لتشكل تلك المدن بدورها "مُكرهةً" غيتو من نوع جديد، يجعل أصحاب الأرض محاطين بأسوار تُبنى على أسس دينية، تحد من قدرتهم على التوسع أو التواصل فيما بينهم أو مع العالم الخارجي ضمن سياسة التضييق المكاني على الفلسطينيين.
وذات الأمر ينطبق على قطاع غزة التي أوشك الإسرائيليون "وبمباركة مصرية" من الانتهاء من وضعها في معزل أمني خانق يفتقر لأدنى مقومات الحياة، تمهيدا لتجسيد فكر يهودية الدولة العبرية.
مقاربات ومفارقات تاريخية
يبدو أن أسوار الغيتو ونظام الأبرتهايد الذي أمعن الاحتلال الإسرائيلي في تكريسه على الأغلبية الفلسطينية من أصحاب الأرض والذي كرّس تبعية اقتصادية وسياسية فلسطينية مفرطة للجانب الإسرائيلي، سيضعنا أمام مقاربات ومفارقات تاريخية تثير تساؤلات أخلاقية على منظومة القيم الدولية، مقاربات استعمارية إسرائيلية جنوب أفريقية فيها الكثير من الإسقاطات العنصرية، ومفارقات قيميّة قوّضت ركائز الأبرتهايد في جنوب أفريقيا عام (1993) بجهود ومباركة دولية، لتعيد استنساخه في ذات العام على الأراضي الفلسطينية كباكورة إخفاقات اتفاقية أوسلو الفلسطينية الإسرائيلية.