لماذا يتفاقم تآكل الأراضي الزراعية الفلسطينية؟
تفاقم في السنوات الأخيرة تآكل التربة الزراعية في أنحاء مختلفة من الضفة الغربية وقطاع غزة. مزارعون فلسطينيون كثيرون لاحظوا ويلاحظون منذ سنوات طويلة، من خلال تجربتهم الشخصية، عملية تآكل وتعرية متواصلة لأراضيهم الزراعية. فكلما تهطل الأمطار الكثيفة لفترة قصيرة على أراضيهم، يشاهدون أجزاء من حقولهم وقد تراجعت خصوبتها بسبب انجراف التربة الناتج عن التدفق العنيف والقصير لمياه الأمطار. هذه الظاهرة المتفاقمة أصبحت مألوفة في العديد من البلدان؛ ما حدا بالأمم المتحدة إلى الإعلان عن سنة 2015 باعتبارها السنة العالمية للترب الزراعية، بهدف زيادة الوعي حول خطورة ظاهرة تآكل الترب الزراعية.
تآكل التربة يحدث أساسا بسبب التعرض للمياه الغزيرة المكثفة أو الرياح. هذه الظاهرة كانت قائمة دائما في الطبيعة أو في الأراضي المحروثة. لكن في السنوات الأخيرة تفاقمت الظاهرة بسبب الزراعات المكثفة لمساحات كبيرة، ترافقت مع استخدام المعدات الثقيلة والكيماويات الزراعية؛ ما أدى إلى زعزعة استقرار الأرض وتوازنها.
ويبدو أن التغير المناخي يعد عاملا إضافيا جلب معه في السنوات الأخيرة، بشكل متكرر، أمطارا متطرفة لفترات قصيرة مع تدفقات مائية عنيفة. فعلى سبيل المثال، بعض مناطق الخليل التي تحوي أراض زراعية كثيرة وصلت كمية الأمطار فيها إلى 65 ملمترا خلال نصف ساعة فقط (في شهر تشرين ثاني الماضي)، وفي شمال قطاع غزة بلغت كمية المطر خلال ذات الفترة 67 ملمترا.
التذبذبات الكبيرة في النظام المناخي، لوحظت بشكل واضح خلال السنوات الأخيرة؛ حيث غالبا ما كانت المناطق الجنوبية من فلسطين تواجه شحا في الأمطار. وخلافا لذلك، انقلبت الحالة المطرية جذريا خلال الموسم الأخير (2015-2016)؛ ففي مناطق الخليل تجاوزت نسبة الأمطار المعدل السنوي التراكمي (حتى كتابة هذه السطور)، فوصلت في يطا إلى 163%، وترقوميا 138%، وبيت أولا 131%، وبيت أمر 122% (الأرصاد الجوية الفلسطينية). كذلك الأمر في قطاع غزة، حيث تجاوزت نسبة الأمطار في معظم المناطق المعدل السنوي التراكمي؛ فوصلت في رفح إلى 205%!، وخانيونس 198%!، ودير البلح 171%، وغزة الرمال 156%، وفي بيت حانون وجباليا 140% (المصدر السابق).
وفي المقابل، معظم مناطق شمال الضفة الغربية ووسطها والأغوار لم تتجاوز فيها نسبة الأمطار 87% من المعدل السنوي التراكمي؛ ففي رام الله والبيرة وصلت النسبة إلى 87%، وفي نابلس وجنين 82%، وفي سلفيت 81%، وفي أريحا 78%، وفي طولكرم 71%، وفي طوباس 59% (المصدر السابق).
تدمير أخصب الترب الزراعية
تعاني حاليا مساحات كبيرة من الأراضي الزراعية من مخاطر تآكل التربة؛ علما أن قدرة الأراضي المتآكلة على استرداد وضعها الطبيعي بطيئة للغاية. ففي حين أن الأرض الزراعية قد تخسر 10 سم من تربتها خلال ساعات قليلة، فإن العمليات الطبيعية لاسترداد هذه الكمية من التربة قد تستغرق ألفي سنة. الأضرار التي تلحق بالمحاصيل في مثل هذه الحالات قد تصل إلى فقدان 30٪ من العائد المحصولي. الأضرار اللاحقة بالتربة السطحية قد تؤثر ليس فقط على إنتاج الغذاء، بل قد تضرب أيضا مزايا أخرى مثل نظام تدفق مياه الفيضانات وتنوع الحياة النباتية والحيوانية، وآفاق الأنشطة الترفيهية والاستجمامية.
خطورة هذه الظاهرة تكمن في أن التربة الصالحة للزراعة التي بلغ عمقها 100 سم في الأغوار الشمالية في الخمسينيات، تقلصت اليوم بأكثر من الربع (قياسا بتلك الفترة). التربة المتآكلة تتسبب في انسداد منافذ القنوات والتصريف، إضافة إلى نشر المبيدات والأسمدة الكيميائية. لذا، فإن فحصا مخبريا للترب المتآكلة والمعالجة بشكل مكثف بالكيميائيات الزراعية (مثلا: أريحا والأغوار، قلقيلية، جنين، الخليل) قد يبين لنا احتوائها على متبقيات خطيرة للعديد من المبيدات.
تدمير ما كان يعتبر أخصب الترب الزراعية الفلسطينية حدث ويحدث بشكل تراكمي منذ عشرات السنين. التدمير قد يحدث بسبب أحداث مناخية فجائية (فيضانات، رياح عنيفة...إلخ)، أو بسبب عملية طويلة الأمد (تغير مناخي، كيماويات زراعية...).
الزراعات الكيميائية المكثفة في مناطق مثل جنين وطولكرم والأغوار وقطاع غزة، ساهمت إلى حد كبير في تدمير خصوبة التربة وتآكلها. الجودة المتدنية للتربة لم تكن موجودة أصلا في أراضينا الزراعية بشكل طبيعي منذ الأزل. وعلى سبيل المثال، يزعم البعض بأن "ترب بلادنا شديدة الفقر بالعناصر الغذائية وذات محتوى جد متدن من المواد العضوية". الغريب أن هذا الزعم يتجاهل تماما بأن أحد الأسباب الهامة لظاهرة فقر الترب وتآكلها وجفافها وتصحرها، يكمن تحديدا في استعمال المبيدات الكيميائية والمعقمات الكيميائية للتربة والأسمدة الكيميائية؛ علما أن المخصبات الكيميائية زادت الطين بلة؛ إذ إنها زادت الأذى الذي لحق بالتربة بسبب العوامل المناخية وفاقم تدهورها. ذلك أن الأسمدة الكيميائية تعمل على قتل ما تبقى من كائنات حية موجودة في التربة الآخذة في التصحر، والتي، أي الكائنات، تعد مكونا أساسيا من مكونات التربة وضرورية جدا لتحليل المادة العضوية فيها.
الكيماويات، وبخاصة الأسمدة الكيميائية، تعرض خصوبة التربة للتآكل على المدى الطويل وتتسبب في انخفاض محتوى المادة العضوية والمعادن وغيرها من العناصر الغذائية الهامة مثل البوتاسيوم والفوسفات.
وفي المحصلة، ازدادت عملية استنزاف المادة العضوية في التربة، وبالتالي تراجعت قدرتها على امتصاص الماء، بسبب القضاء على المادة العضوية فيها، وبالتالي القضاء على ما تبقى من خصوبتها. والنتيجة الحتمية هي أن التربة أصبحت عالية الحساسية للأمراض وبالتالي غير صالحة للزراعة. لذا فإن المخصبات والأسمدة الكيميائية لا تعد جزءا من الحل لتآكل التربة وجفافها وتصحرها، بل هي جزء من المشكلة. والحل البيئي يكمن في استخدام الأسمدة العضوية؛ حيث إنها تمد التربة الفقيرة غذائيا والجافة بالمادة العضوية وبالكائنات الدقيقة التي تفتقر إليها بسبب حالة التآكل والجفاف والتصحر التي تعاني منها، وفي المحصلة ستتحسن خواص التربة وخصوبتها.
إن استعمال الكيماويات الزراعية (المبيدات، معقمات التربة والأسمدة الكيميائية) يؤدي على المدى الطويل، إلى هبوط واضح في إنتاجية التربة؛ ذلك أن الكيماويات الزراعية تقتل الكائنات الحية والجزيئات الحيوية النافعة للتربة والضرورية لتخصيبها وتحليل المواد العضوية فيها، وبالتالي تؤدي الكيماويات إلى تراجع كبير في جودة التربة. وإلاّ، لماذا أصبح العديد من الأراضي في مناطق أريحا وقلقيلية وغيرها عقيمة وغير صالحة للزراعة، ما يرغم المزارعين باستمرار على تغيير أماكن الدفيئات البلاستيكية؟ كما أن الاستخدام المكثف للمبيدات الكيميائية إجمالا، يتسبب، على المدى الطويل، في خسائر بالمحصول. ولهذه الظاهرة علاقة بما يعرف "دوامة الآفات"، حيث تتزايد الآفات مع تزايد استخدام المبيدات، بسبب قتل الأخيرة للأعداء الطبيعيين الذين يتحكمون بالآفات ويتركونها تحت سيطرتهم. بمعنى أن استعمال المبيدات الكيميائية لمكافحة الآفات والحشرات التي تنافسنا على الغذاء والشراب، يعد، بكل المقاييس، حربا كيميائية خاسرة، نظرا لكون الحشرات سريعة التكيف.
خطورة المشكلة لا تكمن فقط في تآكل التربة الزراعية، بل أيضا في تآكل المعارف الخاصة بالممارسات الزراعية البيئية التقليدية لدى الأجيال الفلسطينية الشابة. وفي ذات الوقت، تسببت الزراعات الكيميائية الأحادية والمدخلات الخارجية المرتفعة (وبخاصة في المناطق المروية) وأصناف البذور الغريبة (المهجنة) التي حلت مكان البذور البلدية- تسببت في تآكل التربة والتنوع والتداخل اللذين سادا أنماط الإنتاج السابقة، وبالتالي اختلت ميكانيزمات السيطرة البيولوجية والإيكولوجية الطبيعية على الآفات؛ الأمر الذي أدى إلى هجوم آفات زراعية جديدة وكثيرة لم نعرفها قبل سنوات قليلة خلت، وتفاقم استخدام الكيماويات الزراعية وتلاشت تقريبا طرق تخصيب التربة التقليدية المتوازنة والناجحة.
الأنماط الزراعية المعززة لاستقرار التربة وتماسكها
تعتبر الأرض الزراعية بالنسبة لنا، كشعب فلسطيني رازح تحت نير احتلال عسكري استيطاني اقتلاعي- تعتبر العمود الفقري لأية بنية اقتصادية وتنموية مقاومة، تحررنا من تحكم الاحتلال بعملية إطعامنا وتجويعنا. لذا، يفترض بنا أن نفهم بعمق خطورة المشاكل المتصلة بتقهقر تماسك وتوازن وخصوبة الأرض الزراعية؛ وبالتالي إحداث تغيير جذري في توجهنا وسلوكنا نحوها. هذا يعني ضرورة اتباع الطرق الوقائية التي تتضمن أنماطا زراعية طبيعية وعضوية تعزز استقرار التربة وتماسكها وخصوبتها. وقد يتطلب الأمر، على سبيل المثال، استثمارا بسيطا في شراء معدات يمكنها تنفيذ عملية البذر دون الحاجة إلى الحراثة الأولية للتربة السطحية.
ومن الأساليب الزراعية التي تعزز خصوبة التربة وتماسكها، عدم ترك مساحات أرضية عارية بين الصفوف المزروعة، بل الاستفادة المكثفة أكثر من مثل هذه المساحات، وذلك من خلال تعبئتها بنباتات إضافية وتنويع الأنماط المحصولية التي تدمج أنواعا نباتية تكمل بعضها بعضا. هذا النمط الزراعي يقلل من مدى الاحتكاك بين قطرات المطر والتربة. استخدام غطاء نباتي إضافي يعمل على جذب الحشرات التي تعتبر عدوا طبيعيا لآفات ضارة وبالتالي تُنَفِّر تلك الآفات أو تفترسها؛ ما يعني بأن لا ضرورة لاستعمال المبيدات الكيميائية. وتعتبر زراعة النباتات المختلطة أو المترافقة جزءا أساسيا من الزراعة المتنوعة والمتداخلة؛ وتساهم هذه التقنية في إعاقة وردع الآفات وضبط انتشارها.
ومن الأهمية بمكان التنويه إلى ضرورة استعمال البذور البلدية؛ إذ أن النباتات النامية من البذور المهجنة أو الصناعية تسبب تآكلا متواصلا في خصوبة التربة وتحتاج إلى الكثير من المياه، بينما تنمو البذور البلدية جيدا مع السماد البلدي أو الكُمْبوست (مخصب عضوي)، وهي مقاومة للآفات الزراعية وحاجتها للمياه قليلة؛ وبالتالي تحافظ على بنية التربة الخصبة والغنية بالمغذيات.
ولا بد أيضا من زراعة أصناف نباتية تتحمل الجفاف والحرارة المرتفعة وتتأقلم مع البيئة المحلية، وتحتاج إلى قليل من المياه.
وبهدف تعزيز تماسك التربة وتثبيت استقرارها، يمكننا تغطية التربة بالكمبوست. وقد نقلل الحراثة إلى الحد الأدنى، ذلك أنها تعمل على إضعاف النشاط البيولوجي داخل التربة، من خلال تحطيم بعض المكونات البيولوجية والأحياء الدقيقة المفيدة والمخصبة للتربة. لذا، يجب التقليل، قدر الإمكان، من ممارسة الحراثة؛ علما أن هناك آلات تحرث بطريقة تقلل من تفكك جسيمات التربة.
الحراثة المفرطة تسيء للتربة؛ إذ أنها تدفع إلى الأعلى الطبقة الفقيرة بالمغذيات، في حين تضغط التربة الغنية إلى الأسفل. الزراعة دون حراثة لا بد أن تترافق مع تشجيع نمو النباتات الأخرى التي تعمل جذورها على تقوية التربة.
يضاف إلى ذلك، حفر قنوات لتصريف المياه، مع أنبوب لتنظيم التدفق المائي. يمكننا أيضا ترك قطعة الأرض دون زراعة لفترة معينة من السنة (وبخاصة في الأراضي البعلية)، بهدف "ترييحها" والحفاظ على استقرارها وتماسكها. وهذا ينطبق على الأراضي التي لا يتجاوز سمك تربتها الأكثر خصوبة 30 سنتيمترا.
هذا النهج الزراعي المعتمد على الجمع بين الوسائل الزراعية الطبيعية والميكانيكية السابقة، يقلل إلى حد كبير من مدى تآكل الأراضي الزراعية وتدهورها.
***مدير وحدة الدراسات والأبحاث، مركز العمل التنموي/ معا