دفعات الحكومة للموردين تحرك قطاع الأعمال
رغم أن متأخرات موردي السلع والخدمات للحكومة من القطاع الخاص كانت تاريخيا الأقل من بين مكونات المديونية العامة، إلا أنها الأخطر على الاقتصاد.
على مدى سنوات تراكم هذه المتأخرات جراء الأزمة المالية، اضطرت شركات، خاصة في قطاع المقاولات، إلى إغلاق أبوابها، وأخرى سرحت عددا من مستخدميها، وعزفت الكثير منها عنالعطاءات الحكومية، وإن تقدمت لها فإنها تعرض أسعارا تفوق القيمة الحقيقية لها، لتغطية التسهيلات التي قد تضطر للحصول عليها من البنوك.
هذه الصورة تغيرت بشكل ملحوظ منذ بداية العام الحالي، في ظل العمل بآلية جديدة لتسديد مستحقات القطاع الخاص، بأذونات دفع (كمبيالات) تستحق خلال ستة أشهر، ويمكن تسييلها فورا عبر البنوك.
الحكومة دخلت العام الجاري بمديونية للقطاع الخاص مقدارها حوالي 245 مليون دولار، وحتى نهاية شهر تموز الماضي، سددت ما قيمته 263 مليون دولار، منها حوالي 110 ملايين دولار (400 مليون شيقل) عبر اذونات الدفع، والباقي نقدا (153 مليون دولار)، لكن الرصيد بقي 196 مليون دولار مستحقة مع إدخال معاملات جديدة إلى نظام وزارة المالية، سواء لتعاملات جديدة خلال الأشهر السبعة الأولى من العام، أو لتعاملات تمت في فترات سابقة وأنجزت معاملاتها وأدخلت إلى النظام خلال العام الحالي.
عمليات التسديد، بحسب المحاسب العام أحمد صباح، طالت مختلف القطاعات: الصحة (موردي الأدوية والخدمات الطبية)، والمطابع (خاصة موردي خدمات الطباعة لوزارة التربية والتعليم)، وشركات المقاولات، وموردي مستلزمات الأمن، خاصة إطعام قوات الأمن.
إقبال على العطاءات وانخفاض في الأسعار
وقال صباح: "هذا عزز الثقة بين وزارة المالية والقطاع الخاص، فأصبحنا نلمس إقبالا على عطاءات الحكومة، بعد أن كان العطاء يعاد مرتين وثلاث مرات دون أن يتقدم له احد، كما أن الأسعار التي يتقدم بها الموردون لهذه العطاءات انخفضت، فعلى سبيل المثال، فإن الأسعار التي تقدمت بها شركات الأدوية لهذا العام منخفضة بنسبة تصل إلى 30% عن السنوات السابقة".
وأضاف: إن انتظام الدفع وفقا للآلية الجديدة، عزز ثقة البنوك بالنظام المالي، حيث تقدم خدمة تسييل اذونات الدفع قبل استحقاقها مقابل عمولة، كما أصبحت البنوك أكثر ثقة في تقديم تسهيلات ائتمانية للموردين.
"هناك ارتياح من قبل المتعاملين مع وزارة المالية لتطبيق هذا النظام. نشعر أن هناك تغييرا قد حدث"، قال رئيس اتحاد الغرف التجارية، خليل رزق.
وأضاف: "صحيح أن هذه الدفعات تذهب في معظمها لتسديد تسهيلات كان الموردون حصلوا عليها من البنوك بسبب تأخرها ما يجعل من أثرها المباشر على الاقتصاد محدودا، لكن بالمجمل فإن العمل بهذا النظام إيجابي".
فإضافة إلى التأثير الإيجابي على النشاط المباشر للشركة/ المورد، لجهة العملية الإنتاجية والتوظيف، أو على الأقل عدم تسريح موظفين، قال رزق: "بتنا نلمس إقبالا ومنافسة على عطاءات الحكومة، كما أن أسعار هذه العطاءات باتت أقل، لأن المتقدم للعطاء في السابق يحمل فوائد أي تسهيلات قد يحصل عليها من البنوك بسبب تأخر الحكومة بالدفع، إلى أسعار العطاء نفسه".
وأضاف: العمل بالآلية الجديدة جيد، لكن نحتاج إلى خطوات أخرى، المطلوب إجراءات تساهم في إحداث تنمية، كصندوق مشترك بين وزارة المالية والقطاع الخاص بـ250 مليون دولار، على سبيل المثال، وهو مقترح يناقش حاليا، لتمويل مشاريع ذات أثر على التنمية.
اتحاد المقاولين: إجراء إيجابي ولكن!
قطاع المقاولات كان من أكثر القطاعات تأثرا بتأخر وزارة المالية بدفع مستحقات منفذي المشاريع العامة، فاضطرت الكثير من الشركات إلى التوقف عن العمل، أو طرأ انخفاض كبير في نشاطها وتسريح عدد من العمال لعزوفها عن الدخول في العطاءات العامة، وفي أفضل الأحوال تضطر للحصول على تسهيلات من البنوك للوفاء بهذه المشاريع، ما يترتب على ذلك دفع فوائد عالية كانت تحمل جزءا منها للمشاريع التي تنفذها، فكان أول المستفيدين من اتباع الآلية الجديدة في تسديد المستحقات، ويأمل المقاولون في وضع آليات مماثلة لحل باقي القضايا العالقة بين وزارة المالية والمقاولين.
وقال رئيس اتحاد المقاولين مروان جمعة: "الوضع المالي تحسن، لكنه ما زال دون المستوى المطلوب".
وأضاف: هناك إنجاز فيما يتعلق بأذون الصرف، وهذا ساهم في إقبال المقاولين بشكل أكبر على الدخول في العطاءات الحكومية، وكذلك خفض أسعار هذه العطاءات. في السابق كان المقاولون يضعون أسعارا عالية ليتمكنوا من الوفاء بالتزاماتهم للبنوك مقابل التسهيلات التي كانوا يحصلون عليها بسبب تأخر الصرف، في هذا الجانب هناك تحسن ملحوظ".
غير أن جمعة أشار إلى مشكلة أخرى لدى المقاولين ما زالت عالقة مع وزارة المالية، تتمثل في الرديات الضريبية، التي تراكمت على مدى سنوات لتصل إلى 150-200 مليون شيقل.
وقال: القانون يلزم وزارة المالية بالرد سلبا أو إيجابا على أية مطالبة بالرديات الضريبية خلال مدة أقصاها 45 يوما، لكن المعاملات تستمر لسنتين أو ثلاث سنوات.
ودعا وزارة المالية إلى الالتزام بالضخ اليومي للسيولة إلى الوزارات المختلفة، فعلى سبيل المثال، هناك تراجع كبير في حجم الضخ اليومي إلى وزارة الأشغال العامة والإسكان من مليون شيقل يوميا إلى 100 ألف يوميا فقط.
أولوية الرواتب لا تعجب القطاع الخاص
الحكومة أعلنت منذ اليوم الأول لتسلمها مهامها أواسط عام 2013 أن أولويتها، في الجانب المالي، تتمثل بالدفع المنتظم وفي الموعد المحدد، لرواتب الموظفين، وأظهرت على مدى السنوات الثلاث الماضية التزاما تاما بذلك، باستثناء الفترة من شهر كانون الأول 2014 ونيسان 2015 عندما جمدت إسرائيل تحويل عائدات الضرائب الفلسطينية إلى خزينة السلطة عقابا على توجه القيادة الفلسطينية نحو الانضمام إلى محكمة الجنايات الدولية، ويبدو أن هذا الالتزام لا يعجب القطاع الخاص لتأثيره على باقي التزامات الحكومة.
وقال جمعة: "أولوية الحكومة هي دفع الرواتب، وما يتبقى يدفع للقطاع الخاص. المطلوب تخصيص نسبة محددة من الإيرادات للقطاع الخاص شهريا، بغض النظر عن توفر فاتورة الرواتب".
ارتياح كبير لدى منتجي الأدوية
قطاع الصحة، خاصة منتجي الأدوية، تأثر بشدة جراء تأخر الحكومة بتسديد أثمان الأدوية الموردة إلى وزارة الصحة، خاصة أن الأدوية المحلية تحوز على حصة تبلغ نسبتها حوالي 15% من عطاءات وزارة الصحة، أي حوالي 10 ملايين دولار من أصل 70 مليون دولار سنويا قيمة عطاءات الأدوية لوزارة الصحة.
وقال مدير عام شركة دار الشفاء لصناعة الأدوية باسم خوري، إن العمل بأذونات الدفع قوبل بارتياح كبير لدى منتجي الأدوية، ووفر سيولة كانت الشركات بأمس الحاجة لها لتعزيز إنتاجها، وهذا ساهم إلى حد كبير في خفض أسعار الأدوية الموردة إلى وزارة الصحة، معربا عن أمله باستمرار هذه الآلية في دفع المستحقات.
البورصة تستفيد أيضا
الأثر الإيجابي لدفعات "المالية" لموردي السلع والخدمات لم يقتصر على القطاعات الإنتاجية، بل امتد إلى القطاع المالي، فبحسب وسطاء ماليين، فإن هذه الدفعات كانت، من بين أمور أخرى، سببا في تحسن أداء سوق الأوراق المالية، سواء في مؤشرات الشركات المدرجة، أو في أداء البورصة نفسها من حيث النشاط وحجوم التداول.
وعلى صعيد أداء الشركات، فقد أظهرت نتائجها للنصف الأول من العام الحالي نموا ملحوظا في حصيلة الأرباح بنسبة 17% لتصل إلى 162.5 مليون دولار في الأشهر الستة الأولى من العام مقارنة بنحو 139 مليون دولار في الفترة المقابلة من العام 2015، رغم استمرار التراجع في مؤشرات الاقتصاد الكلي (تباطؤ النمو، وبقاء معدلات البطالة والفقر عند مستويات مرتفعة)، وكان القطاع المصرفي الأوفر ربحا، كما هو الأكثر استفادة من دفعات وزارة المالية، حيث يُحصّل فائدة على التسهيلات المقدمة للموردين من جهة، كما يُحصّل فائدة تتراوح بين 1.5% و4.5% على تسييل أذون الدفع، التي يستخدم جزء منها لتسديد هذه التسهيلات.
أما على صعيد النشاط، فقد شهدت البورصة هذا العام ارتفاعا كبيرا في معدلات التداول، إذ ارتفع إجمالي التداولات في النصف الأول من العام الحالي إلى حوالي 242.4 مليون دولار بمعدل 1.9 مليون دولار للجلسة الواحدة، من حوالي 141.7 مليون دولار في النصف الأول من العام الماضي، بمعدل 1.15 مليون دولار للجلسة الواحدة.
وقال الرئيس التنفيذي لشركة "سهم" للاستثمارات والأوراق المالية سمير زريق، وهي إحدى شركات الوساطة الأعضاء في بورصة فلسطين، إن "هذا الارتفاع في معدلات التداول يعود لجملة من الأسباب، من بينها انتظام وزارة المالية بدفع مستحقات القطاع الخاص، ما عزز السيولة لدى الشركات، التي ضخت جزءا منها في البورصة".
جعفر صدقة- وفا