مسارات الاقتصاد الفلسطيني من منظور إسرائيلي
يرتكز هذا المقال في محوره الأساس على إعادة قراءة 49 عاما من الاقتصاد الفلسطيني الموجه بأدوات وخطط إسرائيلية رسمت ملامح التشوه الهيكلي في كافة مكوناته وتفاصيله، وصولا لاستقراء المسارات التي يحاول الاحتلال الإسرائيلي رسمها تحت مظلة السلام الاقتصادي، بما يضمن له قدرة أكبر على التحكم في خيوط ومفاصل الاقتصاد الفلسطيني بأقل كلفة وأعلى عائد، وهو ما سعت له دولة الاحتلال جاهدة منذ عقود من خلال ترسيخ خطة الضم الاقتصادي والفصل السياسي للتجمعات الفلسطينية المعزولة التي ستمنح لنا في الضفة الغربية، مع فصل كامل لقطاع غزة، إلا من أسواقه التي ستبقى وفقا للأدبيات الإسرائيلية سوقا كبيرا لمنتجات الاحتلال الإسرائيلي.
خطة الاحتواء
مع نهاية حرب يونيو/حزيران عام 1967، انقسم الإسرائيليون بشأن وضع الضفة الغربية وقطاع غزة بين مؤيد لضم كامل لتلك المناطق إلى إسرائيل، ومعارض للضم لدواع ديموغرافية وأمنية، فكان الحل الأكثر خبثا على الإطلاق مع بدايات سبعينيات القرن المنصرم من خلال خطة احتواء الضفة الغربية وفصل قطاع غزة.
ونذكر هنا أن أدوات الاحتواء الاقتصادي أخذت في الاعتبار مبدأ "الاحتلال الرخيص"، فكان أن تم احتواء قطاعي الإنتاج الصناعي والزراعي الفلسطينيين باحتياجات الماكينة الإنتاجية الإسرائيلية من خلال ما يعرف بالتعاقد من الباطن، أي تحويل قطاعات الإنتاج الفلسطينية إلى أنشطة مكملة لاحتياجات قطاعات الاقتصاد الإسرائيلي بأقل كلفة ممكنة. هذا إضافة إلى استغلال جيش من العمالة الفلسطينية في الأسواق الإسرائيلية بأقل أجر وأعلى إنتاجية.
وقد نجح الجانب الإسرائيلي في تحويل المناطق الفلسطينية إلى سوق استهلاكي للمنتجات الإسرائيلية، مستفيدا بذلك من تزايد اعتماد الفلسطينيين على مصادر التمويل الخارجي، سواء كان ذلك بتحويلات العمالة الفلسطينية من إسرائيل والخارج، أو بتحويلاتمنظمة التحرير الفلسطينية باعتبارها وسيطا بين المساعدات المقدمة من دول العالم وبين الشعب الفلسطيني، حيث ضمنت إسرائيل مع كل تلك التحويلات طلبا أكبر من قبل الفلسطينيين للمنتجات الإسرائيلية.
واكتملت حلقات الاحتواء من خلال مستوطنات إسرائيلية أقيمت على أسس اقتصادية وديموغرافية في عمق الضفة الغربية، مهدت لنوع جديد من التعايش الاقتصادي من خلال عمالة وشراكات اقتصادية فلسطينية إسرائيلية اكتملت ملامحها المشبوهة ببنود اتفاقية أوسلو وإفرازاتها.
إفرازات أوسلو
لا شك في أن أوسلو وإفرازاتها لم تحُلْ دون كبح جماح مسارات النفس الطويل التي رسمتها إسرائيل مع بدايات سبعينيات القرن الماضي، بل على العكس من ذلك، ذهبت ماكينة الاقتصاد السياسي الإسرائيلي إلى أبعد من ذلك بكثير ضمن مسارات تسعى من خلالها إسرائيل لتشكيل ملامح العلاقات الفلسطينية الإسرائيلية عبر خطط معلنة تكرس فكر السلام الاقتصادي ليكون جسرا آمنا لتعايش المصالح المشتركة التي ستقود ضمنا إلى اكتمال حلقات خطة الضم، واستخدمت في سبيل ذلك الأدوات التالية:
أولا: تعزيز شراكات مالية واقتصادية مع مراكز القوى الفلسطينية بما يضمن قدرة أكبر على التحكم في مفاصل الاقتصاد الفلسطيني بأدوات وقوى فلسطينية. ويظهر ذلك جليا سواء بالاستثمارات المشتركة فيالمستوطنات وفي الداخل الفلسطيني، أو من خلال التعاقدات من الباطن في مناطق الضفة الغربية. ويكفي أن نعرف هنا أن تقديرات حجم الاستثمارات الفلسطينية في المستوطنات الإسرائيلية المقامة على أراضي الضفة الغربية فقط تصل إلى 500 مليون دولار، وأن 73% تقريبا من الصناعات التحويلية الفلسطينية قائمة على أسس التعاقد مع الباطن الإسرائيلي، الأمر الذي يعني ارتباط المصالح الاستثمارية الفلسطينية بنظيرتها الإسرائيلية.
ثانيا: فتح الأسواق الإسرائيلية للعمالة الفلسطينية، مع اتباع سياسة التدرج في منح تصاريح العمل وفقا للاحتياجات والدواعي الأمنية أولا، ومن ثم الاقتصادية. حيث يلجأ الجانب الإسرائيلي لخلق جيل فلسطيني متعايش اقتصاديا واجتماعيا من خلال التلويح بـ"جزرة" تصريح العمل التي سيكسب من خلالها تدفقا آمنا لعمالة هي العليا إنتاجية والدنيا تكلفة للأسواق الإسرائيلية.
ويقدر عدد تصاريح العمل الممنوحة للجانب الفلسطيني بنحو 100 ألف تصريح، سيضاف إليها 30 ألف تصريح جديد وفقا للتوصيات الأخيرة للمجلس الوزاري الإسرائيلي المصغر.
ثالثا: إقامة المناطق الصناعية الحدودية المشتركة التي ستدشن مرحلة جديدة من التعايش والسلم الاقتصادي ضمن رؤية وغلبة إسرائيلية. فتلك المناطق ستضمن انصهار المصالح الفلسطينية في الضفة الغربية بالوجود الإسرائيلي فيها، سواء من حيث الشراكات والتعاقدات المشتركة، أو من خلال فرص العمل التي ستخلقها الأموال الإسرائيلية هناك.
سياسات مدروسة
لم يكتف الجانب الإسرائيلي بمسارات القوى الناعمة التي تنسج خيوط السلام الاقتصادي المزعوم، بل تعدى ذلك إلى سياسات مدروسة تحقق له السيطرة المنشودة على الأرض، وذلك في ظل منهج تسويف ومماطلة في مفاوضات الحل النهائي مع حكومة رام الله، وعزل كامل لقوى المقاومة الغزية عن المشهد السياسي للضفة الغربية.
هذا الفصل الممنهج لقوى المفاوضات والمقاومة، الذي تمثل جليا بالانقسام الفلسطيني، ضمن للمتحكمين في مفاصل اللعبة من الجانب الإسرائيلي قدرة أكبر على التوسع الأفقي للمستوطنات، مع تضييق أكبر على الفلسطينيين في التوسع على الأراضي المصنفة "ج" التي تشكل 65% من أراضي الضفة الغربية، وبالتالي ضمان قدرة أكبر للاحتلال الإسرائيلي على التحكم في مواردها الطبيعية.
هذا إضافة إلى اعتماد سياسات الباب المفتوح لفلسطينيي الضفة الغربية، فعمليات الشد والجذب التي تمارسها إسرائيل على الشعب الفلسطيني تهدف فيما تهدف للحفاظ على التوازن الديموغرافي الفلسطيني الإسرائيلي، وصولا إلى تفوق إسرائيلي على المدى المنظور من خلال زيادة أعداد المهاجرين الشباب من الأراضي الفلسطينية، في الوقت الذي تتزايد فيه الهجرات اليهودية إليها.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن الجزء الأهم من مسارات المخططات الإسرائيلية يستند إلى خلفية ديموغرافية. فـبحسبة بسيطة للفترة 1994-2015 نجد أن متوسط النمو السنوي للإسرائيليين في الضفة الغربية بلغ 9.5% ضمن أدنى تقدير، بينما يصل معدل نمو الفلسطينيين هناك إلى 2.5% فقط، أي أن العشرين سنة القادمة ستشهد تفوقا لأعداد الإسرائيليين في الضفة الغربية على أعداد الفلسطينيين فيها، الأمر الذي سيقودنا لا محالة إلى تقبل سياسة الأمر الواقع في كافة المناحي الاقتصادية والسياسية والأمنية.
من كل ما سبق يَظهر جليا التفوق الإسرائيلي في تمرير مخططات مستقبل العلاقات الفلسطينية الإسرائيلية، نتيجةً حتمية لغياب المشهد الفلسطيني الموحد. وتظهر كذلك أهمية البعد الاقتصادي في تمرير تلك المخططات الرامية لامتصاص النفس الفلسطيني المفاوض والمقاوم من خلال شبكة مصالح مالية يقودها فريق من المنتفعين وقوى الضغط. ولا أعتقد أن اللاعب الفلسطيني قادر على تغيير قوانين اللعب إلا في حالة واحدة، حالة الاتفاق والإجماع الفلسطيني على توحيد الرؤى بين شقي الوطن على أسس شعبية وجماهيرية، وهو أمر أصبح مرهونا بشخوص وأجندات حزبية تارة، وقوى وتجاذبات إقليمية تارة أخرى.
*** محاضر بقسم الاقتصاد في جامعة النجاح الوطنية في نابلس ورئيس القسم سابقا