أزمة الدواجن تكشف هشاشة سياسات المقاطعة
بكر ياسين اشتية
محاضر بقسم الاقتصاد – رئيس القسم سابقا
جامعة النجاح الوطنية
نابلس - فلسطين
بعد أكثر من سبعة أشهر من الخسائر المتتالية لمزارعي الدجاج اللاحم والبيّاض في الضفة الغربية، ومع هشاشة قدرة مؤسساتنا الاقتصادية الرسمية على امتصاص الأزمة، تبرز الحاجة لإعادة صياغة مكونات المشهد القاتم لفكر السلام الاقتصادي الفلسطيني الإسرائيلي القائم على فروض التبعية المجحفة بغلاف الشراكة الاقتصادية غير الكفؤة بين طرفين يلعب فيها أحدهما دور القطب المتفرد برسم قواعد اللعبة بعيدا عن مصالح واحتياجات الطرف الآخر.
قبل الخوض بأي تفاصيل، لا بد من الاتفاق أولا على ضرورة إعادة تعريف فكر المقاطعة الفلسطينية للمنتجات الإسرائيلية على قاعدة التركيز على المكاسب الاقتصادية التي سيجنيها الاقتصاد الفلسطيني منها بدلا من الخوض في خسائر الطرف الإسرائيلي من تلك المقاطعة، هذا إضافة لتحديد المنتجات والقطاعات الاستراتيجية التي يمكن للقاعدة الإنتاجية الفلسطينية إحلالها كبديل للمنتجات الإسرائيلية التي تشكل أكثر من (70%) من مجموع الواردات الفلسطينية من العالم الخارجي.
فبناءا على تقارير وأرقام صادرة عن الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، نجد أن وارداتنا من الجانب الإسرائيلي للعام (2015) قد تجاوزت 4 مليار دولار، حصة المنتجات الغذائية منها أكثر من مليار دولار. ومع الأخذ بالاعتبار محدودية قدرة القاعدة الإنتاجية الفلسطينية على تأمين بدائل كاملة لتلك الواردات في المدى القصير، تبرز الحاجة لرسم حدود وملامح فكر المقاطعة للمديين القصير والمتوسط من وجهة نظر رسمية بعيدا عن الشعارات والمزاودات المؤطّرة.
فالمستوى الرسمي الفلسطيني في علاقاته الاقتصادية يتنقل بين تناقضات لا أفهم مغزاها. إذ كيف يستوي قرار مقاطعة منتجات خمس شركات غذائية إسرائيلية أوائل العام 2016 حتى اللحظة مع لقاءات واتفاقيات وتعاقدات الشراكة الاقتصادية بين الطرفين؟! وكلا الخيارين مشوّه. فإن كان خيار الشراكة المتمم لفكر السلام الاقتصادي هو خيارنا الاستراتيجي (ولست من أنصاره)، فلم المقاطعة إذن؟ أما إن كانت المقاطعة هي خيارنا، إذن فعلينا أن نتقن فن اللعب مع الكبار.
كلنا يعي أهمية المقاطعة على المستويين الوطني والاقتصادي. فعلى المستوى الوطني هي تعبير جماهيري عن رفض الاحتلال وإفرازاته المعيشية، وعلى المستوى الاقتصادي هي وسيلة للتحرر والانعتاق من خلال خلق فرص عمل، وتوسيع لقاعدة الوعاء الضريبي المغذي للخزينة العامة. وبحسبة اقتصادية بسيطة، يمكننا القول أن مقاطعة المنتجات الغذائية الإسرائيلية وحدها كفيلة بخلق (35) ألف فرصة عمل للفلسطينيين. لكن المشكلة تكمن بمدى جاهزية واستعداد مكونات الخارطة الاقتصادية الفلسطينية على استيعاب سياسات المقاطعة.
فبالعودة للقرار الفلسطيني مقاطعة منتجات خمس شركات غذائية إسرائيلية، تبرز هشاشة الموقف الرسمي الفلسطيني من المقاطعة، والقائم على ردات الفعل الآنيّة دونما استراتيجية محسوبة. فليس مطلوبا من السلطة الفلسطينية إعلان خطاب المقاطعة دون دراسة وافية لعواقب ردات الفعل الإسرائيلية المتوقعة، وطالما كان الحديث عن ضرورة أن تلعب مؤسسات السلطة الفلسطينية ممثلة بوزارات المالية والاقتصاد والزراعة وكل من غرف التجارة والصناعة ومؤسسة المواصفات والمقاييس، دورت مساندا للمجهودات الشعبية في معركة المقاطعة لا المتصدر لها.
الجانب الإسرائيلي يمتلك معظم أوراق اللعبة، وبيده مفاتيح الاقتصاد الفلسطيني التي أعطيناه إياها باتفاقيات وشراكات وتبعية مطلقة لكامل مفاصله. فبمجرد أن أعلنت السلطة الفلسطينية قرار المقاطعة، لجأ الجانب الإسرائيلي لتفعيل قانونه للعام 2005 المتعلق بمنع دخول منتجات مزارع البيض الفلسطيني للأراضي الإسرائيلية، وهو قانون سار منذ ذلك العام، لكن الجانب الإسرائيلي كان يغض الطرف عن دخول فائض الإنتاج الفلسطيني لأراضيه، حتى وصل الإنتاج لقرابة (139%) من احتياجاتنا الاستهلاكية، أي بفائض (39%) كانت تستوعبه الأسواق الإسرائيلية.
وفي ذات الوقت، وجه الجانب الإسرائيلي كامل فائض إنتاجه من الدواجن (خاصة تلك القائمة في مستوطناته على أراضي الضفة الغربية) للسوق الفلسطيني، ونظرا لمحدودية خيارات الشراكة لدينا، ولضعف السيادة الاقتصادية لجهاز الضابطة الجمركية الفلسطيني على أراضينا، أُغرقت الأسواق الفلسطينية بفائض الإنتاج الفلسطيني من البيض وفائض الإنتاج الإسرائيلي من الدواجن للحد الذي تكبد فيه قطاع يخلق أكثر من (12) ألف فرصة عمل خسائر مستمرة منذ سبعة أشهر وحتى اللحظة، دون أي استراتيجيات معدة سلفا لخلق شراكات وأسواق عربية بديلة.
ففي الوقت الذي سمحت فيه وزارتي الزراعة والاقتصاد الفلسطينيتين بمنح تصاريح إضافية لمنتجي الدجاج البياض، أوغضت فيه الطرف عن تهريب كميات إضافية من الدجاج البياض للمزارع الفلسطينية، فإنها لم تعي أهمية وضرورة خلق شراكات مع دول الجوار العربي كأداة لمواجهة قانون منع دخول منتج البيض الفلسطيني للأسواق الإسرائيلية، وإن كان القانون مع وقف التنفيذ.
خلاصة القول أنني أفترض بالحكومة الفلسطينية أن تعي أن فكر المقاطعة الملقى على عاتقها لا يتمثل بقرارات مفرغة من مضمونها، ولا يتطلب منها مواجهة مباشرة مع الجانب الإسرائيلي بقدر ما يتطلب إتقان فن التحايل عليه من خلال سياسات وقرارات اقتصادية تعزز من قدرة وصمود وخيارات المنتج الفلسطيني بما يتيح لكافة الفعاليات المدنية والشعبية والأهلية إنجاح جهدها المبذول في مجال المقاطعة دونما مسوّغ أو مبرر إسرائيلي للرد المباشر. الأمر الذي يمكن صياغته من خلال السياسات التالية: