من اقتصاد النفط إلى ألعاب «البوكيمون» !
لم يكن هوس لعبة الـ Pokemon Go التي راجت خلال الأيام الفائتة مجرد هوس بلعبة مجانية لفتت انتباه التقنيين وهواة الألعاب الإلكترونية فقط. يصفها البعض باللعبة الخطيرة المشتتة للانتباه التي تعارض الكثير من مبادئ الخصوصية، بينما يراها آخرون لعبة إيجابية تشجع على الحركة وممارسة الرياضة وتدمج الواقع الحقيقي بالواقع الافتراضي بطريقة إبداعية جميلة. أسهمت اللعبة التي تستخدم تقنية الـ augmented reality أو "الواقع المعزز" وتمكن المستخدم من جمع الوحوش الافتراضية الظريفة من الشوارع والأحياء الحقيقية في رفع أسهم شركة نينتندو اليابانية بما يقارب 50 في المائة خلال الأسبوع الفائت وحصدت انتباه وسائل الإعلام العالمية والمحللين الاقتصاديين، فامتلأت صحف ومجلات مثل "وال ستريت جورنال" و"الإيكونوميست" ومواقع "سي إن بي سي" و"فوربس" وغيرها بالمقالات المتعجبة والناقدة لهذا النوع من الخبطات التقنية.
بمثل هذه النماذج الاستهلاكية التي تقدم قيمة ترفيهية حقيقية، يتساءل البعض: هل تخدم التقنية اقتصاداتنا لتحقيق قيمة أفضل؟ أم أنها تدمر القيمة الحقيقية المحسوسة وتقدم حلولا تضيع الوقت وتزيد الناس فقرا؟ بعدما كان الجدل يتمحور حول قدرة الدول على التحول من بيع ثرواتها الطبيعية كالنفط إلى التصنيع والإنتاج المحسوس وتطوير أعمال تقديم الخدمات، وبعد ضربات لم تقدر الدول الغربية على تجاوزها مثل قضايا الهجرة والأيدي العاملة، تحول النقاش اليوم إلى هذا النموذج التقني الجديد، الخفي والمؤثر.
سيطرت اللعبة المجانية التي عرضت في متاجر الولايات المتحدة وأستراليا ونيوزيلندا خلال الأيام الفائتة على سوق التنزيلات في متاجر ألعاب الجوال وعلى المشتريات داخل الألعاب، وهما سوقان مختلفان. تقول التقديرات إن شركة نينتدو تصنع يوميا ما يزيد على مليون دولار من المبيعات داخل اللعبة التي توجد اليوم على ما يقارب 3 إلى 5 في المائة من الهواتف الذكية في الولايات المتحدة. تجاوز عدد مستخدمي اللعبة في الولايات المتحدة عدد مستخدمي تطبيق "تويتر" ويقترب من تجاوز متوسط عدد دقائق الاستخدام اليومي لـ "فيسبوك" عند 50 دقيقة (الواتساب 30 دقيقة، وإنستجرام وسناب شات ما بين 23 و 25 دقيقة، على التوالي).
يثار الكثير من الأسئلة عندما تستحوذ التطورات التقنية ــــ خصوصا تلك المرتبطة بالترفيه ــــ على انتباه الجميع. يتساءل بعضهم عما إذا كانت هذه الأنشطة مفيدة للاقتصادات المحلية، فهي تقوم بسحب المكاسب وتودعها في شركات محدودة تستقر في دول أخرى بعيدة، بينما كانت تؤدي برامج الترفيه التقليدية الكثير من الفوائد للاقتصاد المحلي ـــ سواء كانت ناديا رياضيا أو مجمعا للترفيه؛ إذا لم تكن التطورات التقنية بتلك الفائدة، هل يجب أن نشجع وجودها؟! بطبيعة الحال، لا تصنع تطبيقات الجوال الكثير من الوظائف ولا توطن المهارات التي يمكن استخدامها لصناعات أخرى مشابهة. كذلك يتحدث آخرون عن قضايا الخصوصية والمشكلات الأخلاقية التي تثيرها هذه التطبيقات. تمتد القضايا إلى الجوانب بالمتعلقة بالإنتاجية والسلامة والصحة. يشير كثير من الدراسات إلى أن تطور تطبيقات الترفيه على الأجهزة الذكية يؤثر بطريقة مباشرة في الإنتاجية اليومية للعاملين، وهي كذلك باب للوقوع في مشكلات صحية جسدية ونفسية ناهيك عن إشكالات جديدة مثل السقوط في الحفر ودخول أماكن لا يسمح بدخولها ـــ كما حدث بعد انتشار تطبيق لعبة البوكيمون.
تنجح شركات الإنترنت الرشيقة في إحداث الفوضى وتهز الأسواق من حين لآخر، وهي بالتأكيد تقدم قيمة حقيقية للمستهلكين وتنجح في صنع الأرباح بطرق استثنائية غير معهودة. ولكن هل تعتبر نماذج داعمة للاقتصاد والمجتمع؟ هذا السؤال الذي يطرحه البعض عند نجاح منطقة جغرافية متفوقة تقنيا تقدم نفسها كمصدر لهذه التقنيات في حين تستمر بقية المناطق والمجتمعات مستهلكة لما تنتج الأولى، هل سيتجه النموذج الاقتصادي نحو المزيد من الرفاهية؟ هل الكفاءة الناتجة عن التقنية تدعم التوزيع العادل للثروات؟ مثل هذه الأسئلة لا تزال تطرح كل يوم تشكيكا في مراحل التحول الذي تمر به الرأسمالية والثورات التقنية والمعرفية المتسارعة. قد يستطيع بعض صناع القرار التأثير ولو قليلا في هذه الموجات التي يصعب الوقوف في وجهها، ولكن على الأرجح سينشغل البقية في تحميل آخر التطبيقات والألعاب شغفا بما يحصلون به على الاهتمام والإثارة.
طلال الجديبي- الاقتصادية