ما وراء مؤشرات سوق العمل الفلسطيني
بكر ياسين اشتية
محاضر بقسم الاقتصاد – رئيس القسم سابقا
جامعة النجاح الوطنية
نابلس - فلسطين
تطل علينا سنويا أرقام ومؤشرات من الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني عن أداء سوق العمل، لكن عادة ما تفتقر تلك الأرقام للتحليل الاقتصادي الرصين والمتسق مع باقي مؤشرات الأداء الاقتصادي للمناطق الفلسطينية، وهو ما لاحظته من خلال مراجعة أدبيات سوق العمل للفترة ما بعد أوسلو، حيث اقتصر الكثير من تلك الأدبيات على قراءة وصفية سطحية للجداول بمعزل عن سياقها الزمني وارتباطاتها البنيوية مع باقي الحسابات القومية. الأمر الذي سنحاول التطرق لبعض من تشعباته الهيكلية في هذا التحليل.
مؤشرات قطاعية
في الوقت الذي تقترب فيه معدلات العاملين في القطاع العام بالدول المستقرة اقتصاديا من (7%) من مجموع العمالة مدفوعة الأجر، وصلت تلك النسبة إلى (22%) في الأراضي الفلسطينية. والمعروف أن ارتفاع معدلات العاملين في القطاع العام لأي اقتصاد يعبر عن ضعف في قدرة القطاع الخاص على امتصاص أزمات تقلبات سوق العمل، وتعاظم الدور الملقى على المالية العامة للدولة في سبيل علاج الإخفاقات الاقتصادية للبلد، ما يخلق عبئا إضافيا على المديونية العامة.
ويظهر ذلك جليا عند المقارنة بين الضفة الغربية وقطاع غزة، حيث نسبة العاملين في القطاع العام من قطاع غزة وصلت إلى (31.5%) و (36.9%) للعامين (2000) و (2015) على التوالي، بينما استقرت تلك النسبة عند (14.2%) و (16%) في الضفة الغربية. ولا شك أن ظروف الحصار المفروض على قطاع غزة، إضافة لحرمان أسواقها من العمل في إسرائيل منذ العام (2006) عاظم من العبء والدور الملقى على الموازنة العامة للحكومة الفلسطينية تجاه مواطني غزة. علما أن (16.5%) من العمالة الفلسطينية للضفة الغربية يعملون في إسرائيل.
وفي ذات السياق المقارن، نلاحظ أن متوسط الأجر اليومي لفئة الموظفين والعمال في القطاع الخاص كان قد تفوق على متوسط أجور ورواتب الموظفين العموميين خلال الفترة (1994 – 2004)، وكانت الفجوة آخذة بالانحسار خلال تلك الفترة، لكن بدءا من العام (2005) حتى اللحظة بدأت الأمور تأخذ منحى مغايرا، فمعدلات الزيادة السنوية الإسمية في رواتب الموظفين العموميين كانت أكبر بكثير من قدرة عمال القطاع الخاص على المطالبة بذات الزيادة، ما أدى لاختلالات واضحة في توزيع الأجور قطاعيا، فعادة ما يكون القطاع الخاص وفقا للمؤشرات العالمية أكثر قدرة على استقطاب الخبرات والمهارات الباحثة عن معدلات أجر مرتفعة، الأمر الذي لم يتحقق في الحالة الفلسطينية.
فإذا ثبتنا العام (2004) كسنة أساس، وأضفنا معدل التضخم التراكمي للفترة (2004 – 2015) والبالغ (43.2%)على الأجور الإسمية السائدة خلال العام (2004) وقارناها بمعدلات الأجور السائدة خلال العام (2015) للقطاعين العام والخاص، نصل للنتائج التالية:
أولا: ارتفاع متوسط الأجر الحقيقي (القوة الشرائية للرواتب) للموظفين العموميين لتلك الفترة بنسبة (5%)، حيث ارتفع متوسط الأجر الاسمي من (66.2) شيكل يوميا إلى (99.6) شيكلا ما بين العامين (2004 – 2015). الأمر الذي قد يعزى للقوة التفاوضية لنقابات الموظفين العموميين خلال تلك الفترة، مع الأخذ بالاعتبار أن نسبة الزيادة تلك حسبت على أساس جدول غلاء المعيشة، ولم تأخذ بالاعتبار تغير أنماط الاستهلاك لشريحة الموظفين العموميين خلال تلك الفترة.
ثانيا: تآكلت القوة الشرائية لشريحة عمال القطاع الخاص الذين يشكلون (66%) من مجموع العمالة الفلسطينية بنسبة (21.5%) خلال الفترة (2004 – 2015)، فلم ترتفع متوسطات الأجور الاسمية لتلك الشريحة إلا بنسبة 12.3% (من 67.3 شيكل إلى 75.6 شيكل يوميا) في الوقت الذي ارتفعت فيه الأسعار بنسبة (43.2%). وهو ما يبرر كون شريحة العمال في القطاع الخاص الفلسطيني الشريحة الأكثر فقرا بين الموظفين العموميين والعاملين في إسرائيل.
حسابات الجندر
تشير الأرقام الصادرة عن الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني لتفاوت ملحوظ في كل من نسبة القوى العاملة المشاركة في سوق العمل، ومعدلات البطالة بين الذكور والإناث لصالح الذكور. فقد بلغت نسبة المشاركة بالقوى العاملة للعام 2015 (71.9%) و (19.1%) لكل من الذكور والإناث على التوالي، ما يعني أنه من بين كل مئة أنثى فلسطينية أتمت 15 سنة، هناك 19 أنثى تعمل أو تبحث عن عمل، مع نسبة بطالة في صفوف الإناث تجاوزت (39%) لنفس العام، علما أن نسبة المشاركة لدى الإناث لم تتجاوز (10.4%) خلال العام (2001) في الوقت الذي كانت فيه معدلات البطالة لديهن (13.9%).
أي أنه في الوقت الذي بدأت تحقق فيه الإناث تقدما في مدى تقبل المجتمع لفكرة عمل المرأة من خلال زيادة نسبة مشاركتهن بمقدار الضِّعف، ارتفعت معدلات البطالة لديهن بحوالي ثلاثة أضعاف، بينما انخفضت معدلات البطالة لدى الذكر من (27%) إلى (22.5%) لذات الفترة. الأمر الذي يدعونا للوقوف على أبز المعيقات التي تحول دون قدرة المرأة الفلسطينية على الانخراط في سوق العمل، والتي يمكن إيجازها بالتالي:
1- التمييز السعري في الرواتب والأجور بين الجنسين (خاصة في القطاع الخاص) لصالح الذكور، حيث بلغ متوسط الأجر اليومي المدفوع لكل من الذكور والإناث للعام 2015 (108) و (82) شيكلا على التوالي، أي أن متوسط أجر النساء لا يتجاوز (76%) من متوسط أجر الذكور. مع نسبة نساء عاملات في القطاع الخاص بأجر يقل عن الحد الأدنى للأجور بلغت (42%) مقابل (35%) للذكور.
2- ارتفاع نسبة أفراد الأسرة غير مدفوعي الأجر من النساء عن نظرائهن الذكور، حيث بلغت النسبة لدى النساء (17.1%) من النساء العاملات للعام 2015، مقابل (4.7%) للذكور لذات الفترة. الأمر الذي يعكس تكريس استغلال جهود النساء في المشاريع العائلية دون أي مقابل.
3- ضعف البيئة المساندة المؤهلة للنساء في النواحي التمويلية والتسويقية والفنية للانخراط في قطاع الأعمال بمشاريع خاصة، فقد بلغ معدل النساء المصنفات تحت بندي عاملات لحسابهن وصاحبات عمل (14%) و (2.1%) على التوالي من مجموع النساء العاملات للعام (2015) مقابل (19.1%) و (7.1%) للذكور.
4- انخفاض العائد على التعليم لدى النساء، فنسبة النساء المتعطلات (وبالتالي الباحثات) عن عمل من حملة الشهادات الجامعية بلغت (84.5%) مقابل (23.5%) لدى الذكور. وهو ما يمكن إرجاعه للعديد من الأسباب، لعل أبرزها غياب الجهود التوعوية للطالبات حول التخصصات المطلوبة، واقتصار التفكير لدى الشريحة الأوسع من الطالبات في التخصصات المؤهلة لسلك التربية والتعليم، ما جعل أعداد المتقدمات لوظائف التربية والتعليم للعام (2015) يتعدى (450%) من أعداد المتقدمين الذكور لتلك الوظائف.
اختلالات هيكلية
يتضح من كل ما سبق الخلل الواضح في بنية وتركيبة سوق العمل الفلسطيني، مع ضعف في مؤشراته العامة، ويظهر ذلك في اختلال العلاقة بين الذكور والإناث، ومؤشرات قطاعات كل من إسرائيل والقطاعين العام والخاص، إضافة للثنائية الواضحة بين مؤشرات سوق العمل في كل من الضفة الغربية وقطاع غزة.
حيث تشير الأرقام لاتساع الهوة في معدلات البطالة بين شقي الوطن التي بلغت (17.3%) و (41%) لكل من الضفة الغربية وقطاع غزة على التوالي، وهي سمة كل السنوات للفترة ما بعد أوسلو، لكنها كانت أكثر وضوحا واتساعا ما بعد الانقسام الفلسطيني الفلسطيني، حيث فقد الاقتصاد الغزي حينها قدرته على التواصل مع سوق العمل الإسرائيلي، وانقطعت علاقات التعاقد من الباطن بين قطاعاته الإنتاجية وقطاعات الأعمال الإسرائيلية، إضافة لحرمانه من سوق الضفة الغربية الذي كان يشكل الملاذ الأوسع لمنتجاته الصناعية والزراعية، هذا ناهيك عن حالة الحصار المفروضة على كافة معابر ومداخل قطاع غزة الدولية.
ومن الاختلالات الهيكلية كذلك الارتفاع الملحوظ في معدلات البطالة بين سكان المخيمات الفلسطينية في كل من الضفة الغربية وقطاع غزة، حيث ارتفعت معدلات البطالة لديهم خلال العام (2015) إلى قرابة (32.5%) مقابل (21.5%) لباقي التجمعات السكنية، الأمر الذي ساعد في تدهور مؤشرات الفقر والتعليم والصحة والجريمة داخل مخيمات اللجوء الفلسطيني، ما يدعو للوقوف على خطط وآليات كفيلة باحتواء ودمج تلك المخيمات اقتصاديا واجتماعيا بمحيطها الفلسطيني.