الرئيسية » في دائرة الضوء »
 
17 أيار 2016

كيف أصبحت حياة الإنسان رخيصة في قطاعٍ عماده الفلسطينيون؟

مطلع الأسبوع الماضي؛ نشرت وزارة الاقتصاد الإسرائيلية تقريراً حول حوادث العمل: 54 وفيّة هو العدد الإجمالي لوفيّات العمال خلال العام المنصرم، 34 منهم في قطاع البناء وحده، وهو عدد ليس بالقليل قياساً بالعام الذي سبقه؛ وقياساً أيضاً بنسبة الوفيّات في هذا القطاع في الولايات المتحدة وأوروبا.

\

ترجمة مالك سمارة- بوابة اقتصاد فلسطين

يصبح هذا الأمر محلّ تساؤل إذا أدركنا أن العمال الفلسطينيين يمثّلون الشريحة الأبرز في هذا القطاع؛ يليهم العمال المنتدبون من دول أجنبية. صحيفة "كالكاليست" العبريّة أعدّت تحقيقاً موسّعاً حول هذه القضيّة، وأجرت مقابلات مع عائلات بعض الضحايا من العمّال، ولربّما ليست مصادفةً أنّ تكون كل الأصوات المتحدّثة في التحقيق فلسطينية.

تقول الصحيفة إن كلّا من وزارة الاقتصاد والشّرطة يلقي بالمسؤولية على الآخر، وإن ثمة 12000 موقع بناء في الدولة يشرف عليها 17 مفتشاً فحسب، ولا يزورون إلّا عدداً قليلاً منها. بناءً على ذلك، سعى التحقيق للإجابة على السؤال التالي: كيف أصبحت حياة الإنسان أرخص ما في سوق العقارات؟

"منذ وقوع الحادث لم نتلقّ أية معلومات من أية جهة مؤهّلة؛ لا أعرف ما إذا كان أخي قد اتكأ على (درابزين) غير ثابت، أو إذا لم يكن ثمّة (درابزين) من الأساس. وزارة الاقتصاد ما زالت تفحص الأمر، والشرطة أيضاً كانت في المكان، لقد أغلقوا الموقع لخمسة أيام من ثمّ عاودوا العمل". هذا ما قاله صابر شلبي، شقيق ظاهر شلبي من قرية دير حنّا، وهو أحد ضحايا حوادث العمل في قطاع البناء.

ظاهر، ابن السبعة والثلاثين عاماً، ترك وراءه زوجة وثلاثة أبناء، أكبرهم لا يزال في الحضانة، يقول شقيقه: "ليس ثمّة جهة تمدّ يد العون، حتّى من قبل الشركة التي شغّلته. لم يزره أحد بعد الحادث ويظهر لنا بعض الاهتمام".

في السنوات الأخيرة باتت أسعار الشقق تتجاوز مرّة تلو المرة كلّ سقف متوقّع. كلّ الشقق غالية؛ سواء أكانت شققاً كبيرة أو صغيرة، في المركز كانت أو في الضواحي، بذا؛ تصبح حياة الإنسان في هذه المهنة وحدها الرخيصة.

هذا ما تكشفه تقارير العمل لوزارة الضمان الاجتماعي ووزارة الاقتصاد، فمنذ سنة 2000 حتى 2014 لقي 445 عامل بناء مصرعهم في حوادث مختلفة، وفي سنة 2015 وحدّها توفّي 34 آخرون، بذلك يصبح العدد الإجمالي 479 وفيّةً، أي بمعدّل 30 وفيّةً شهريّاً، ما معناه أن هذا القطاع يشهد حالة وفاة كلّ 12 يوماً تقريباً.

في هذه السّنة لا يزال رقم الوفيّات متوقّفاً عند 10، بالإضافة إلى أكثر من ستين إصابة بين المتوسطة والخطيرة.

عدد الوفيّات في هذا القطاع يزيد بما يقارب الضعف عن عددهم في قطاع الصناعة، ويزيد بنسبة كبيرة عن قطاع الزراعة.

عمّال البناء يدفعون حياتهم ثمناً للفوضى في هذا القطاع، وعدم وجود هرمية منتظمة بين الجهات الرقابية، وغياب الرقابة الصارمة والشاملة، والأهم من ذلك، هو عدم وجود من يتحمّل مسؤولية مباشرة عن الحوادث، كما لم يسبق وأن تطرّق أي وزير اقتصاد سابق إلى هذه القضية.

ربّما في قطاع كهذا، حيث التأخير في تسليم الشقق يمكن أن يجرّ غرامات على المتعهدين، تصبح مسألة السلامة مجرّد ترف.

انعدام القانون من جانب السلطات يتجلّى على أرض الواقع، ففي نهاية مارس الماضي توفّي ربيع أبو ذياب، ابن السبعة والثلاثين عاماً من قرية طرعان، حينما سقط من الطابق الخامس في إحدى الشقق التي تتكفل ببنايتها شركة "ديزنغوف"، تلك كانت الحادثة الثالثة في الموقع ذاته خلال نصف عام، والسابقتان لم تكونا قاتلتين.

وبعد مرور أسبوع، توفّي العامل عطا صلاحات، ابن الأربعين عاماً، حينما سقط من شرفة لم تكن مؤمّنة بحاجز واقٍ، بينما في السابع من ابريل الماضي؛ سقطت الضحية العاشرة خلال هذا العام، حينما وقع أحد العمال عن سطح إحدى المنازل التي كانت تحت الترميم في كفر قاسم.

الملاحظ هو أن ثمّة زيادة في عدد الوفيّات، لكن للقضية وجه آخر كذلك؛ فهنالك إصابات كثيرة تنتهي بالعجز الدائم.

في هذا السياق، تقول المحامية هداس تغري، التي شكلت "التحالف للنضال ضد حوادث العمل"، إن البيانات التي أصدرها التحالف تظهر أن "أرقام الحوادث في اتّجاه تصاعدي، وأن عدد المصابين هو الأعلى من بين قطاعات العمل كلها. في 2014 بلغ عدد المصابين المسجّلين ضمن قوائم وزارة الضمان الاجتماعي كمستحقين "لبدل إصابة" حوالى 7,060 عامل بناء (ربّما لا تشمل هذه الأرقام، وكذلك التعويضات، العمال الفلسطينيين من خارج الخط الأخضر).

إزاء هذه المعطيات، تبرز مسألة التهرب من تحمّل المسؤولية من قبل الجهتين المسؤولتين بشكل مباشر عن ذلك: وزارة الاقتصاد، والشرطة الإسرائيلية. هذا الأمر يتجلّى بوضوح في الرسالة التي بعثها الرئيس التنفيذي في وزارة الاقتصاد، عميت لانغ، إلى المفتش العام للشرطة، روني الشيخ، ووصلت إلى "كالكاليست" نسخة عنها.

في الرسالة يطلب لانغ التدخل المباشر لمفتش الشرطة في قضايا التحقيق في حوادث البناء، بحكم أن قاضي التحقيق يجب أن يحضر إلى كلّ حادث، ويسجّل إفادات الشهود. يشكو لانغ في رسالته من مشكلتين أساسيتين: أن أفراد الشرطة غير متمرّسين في عملهم كمحققين، وأنه يجد صعوبة في صياغة حدود المسؤولية بين وزارة الاقتصاد والشرطة.

غر أنّ الشرطة في ردّها ألقت بالمسؤولية على وزارة الاقتصاد، قائلة إن "شرطة إسرائيل تفتتح تحقيقاً جنائياً فقط بالحوادث التي تحمل آثاراً لجريمة ما؛ مثل التسبب في الوفاة أو الإصابة عن طريق الإهمال، وهذا بالاعتماد على تقارير الحوادث التي يدوّنها محققو وزارة الاقتصاد، أمّا لوائح الاتهام فينبغي أن تصدر من النيابة العامة".

غير أن غياب التعاون، وانعدام حدود المسؤولية بين وزارة الاقتصاد والشرطة يؤثّر لاحقاً على اتّخاذ الإجراءات القانونية اللازمة.

السؤال الذي يُطرح هو لماذا لا تصدر النيابة سوى عدد محدود من لوائح الاتهام؟ تجيب المحامية هداس دفني، من مكتب النائب العام، على هذا السؤال خلال جلسة عقدت في الكنيست لمعالجة هذه القضية بالقول: "أنا بحاجة إلى أدوات وتقارير لأذهب بها إلى المحكمة.. لكن عناصر الشرطة ومحققي وزارة الاقتصاد في بعض الحالات لم يصلوا إلى موقع الإصابة في الوقت المناسب".

تبعاً لذلك، فإن النسبة الضئيلة للوائح الاتهام تثير الكثير من الشكوك، تقول المحامية هداس تغري: "أقلّ من 10% من حوادث الوفاة في مواقع البناء تصدر فيها لوائح اتهام، ونسبة قليلة منها أيضاً تصل إلى مرحلة الإدانة، وغالباً ما تنتهي بتقديم التماسات للمحكمة، أو بغرامات سخيفة لا تتجاوز قيمتها قيمة حزام الأمان".

معدّة التحقيق: دافنا هارئيلكافير، صحفيّة متخصصة في الشأن الاقتصادي، ومحرّرة رئيسية في جريدة غلوبس الاقتصادية.

مواضيع ذات صلة