الهمّوز في نابلس: المقهى الذي لا يَنسى ولا يُنسى
عن قرنٍ وأربعة وعشرين عاماً، وحقبٍ تاريخية مترامية الأطراف، يروي مقهى "الهموز" التاريخيّ المتربع في مدينة نابلس. هو يُعدّ أحد أبرز معالمها شعبياً وثقافياً وفنياً وحتى وطنياً، وترتبط أجيال كثيرة وجدانياً ونفسياً بزوايا هذا المقهى.
في زوايا ذلك المقهى وغرفه، يشعر المرء بالقدرة على لمس الزمن، إذ إن شيئاً ما مختلفٌ هنا. رائحة التنباك العجمي، العلم التركي القديم، راديو "الترانزستور" الذي يتوسط الطاولة، ناهيك عن الطراز العمرانيّ النادر، والحجارة العتيقة، والصور بالأبيض والأسود المنتشرة في كلّ مكان. إن اجتماع ذلك كله يولّد إحساساً بأننا لسنا في مقهى فحسب.
عن قرنٍ وأربعة وعشرين عاماً، وحقبٍ تاريخية مترامية الأطراف، يروي مقهى "الهموز" التاريخيّ المتربع في مدينة نابلس. هو يُعدّ أحد أبرز معالمها شعبياً وثقافياً وفنياً وحتى وطنياً، وترتبط أجيال كثيرة وجدانياً ونفسياً بزوايا هذا المقهى.
برفقة أخبار فلسطين، وفيها
يستعيد أيمن الهموز، أحد مالكي المقهى، ظروف التأسيس: "المقهى تعود ملكيته لإثنين من أشقائي، ويعتبر أقدم مقهى في فلسطين، حيث أنشئ في العام 1892 م. في عهد الدولة العثمانية، ولا يزال يحتفظ بمعالم بارزة تشير للعهد التركي، مثل البوّابات والبناية، والراديو القديم الذي تُشّغله بطاريات السيارات. عاصر المقهى حقباً متعددة بدءاً من العهد التركي مروراً بالاستعمار الإنكليزي، ثم الحكم الأردني وصولاً إلى عهد السلطة الفلسطينية".
يكمل الهموز: "في الأربعينيات من القرن الماضي، كان رواد المقهى وزائروه من أعيان نابلس ووجهائها يجتمعون ليستمعوا إلى القرآن الكريم المُذاع من العاصمة المصرية بصوت الشيخ محمد رفعت".
أقفل المقهى لبضعة أشهر في العهد البريطاني، خلال الأربعينيات، وتحوّل إلى ثكنة عسكرية بمتناول الجنود البريطانيين في ظل اضطراباتٍ شهدتها البلاد حينها. ثم أصبح المقهى مقراً للدعاية في إطار الانتخابات البرلمانية الأردنية. وقبيل قدوم السلطة الفلسطينية، كان المقهى يشكل معقلاً للمقاومة الشعبية ضد الاحتلال الإسرائيلي. ففي الانتفاضة الأولى، كان مركزاً لتجمع الشباب المقاوم، ومكاناً لتنفيذ بعض النشاطات والمهمات التنظيمية، "وكذلك مقراً لما يمكن تسميته بمدارس التعليم الشعبي خلال انتفاضة الحجارة الأولى، كأسلوبٍ للتصدي ضد تعطيل الاحتلال للمدارس عبر فرض حظر التجول وإغلاق جامعة النجاح"، وفق الهمّوز.
ويضيف: "عند إغلاق جامعة النجاح، كانت الهيئة التدريسية تعقد الدوام الجامعي اليومي في أماكن عدة منها مقهى الهموز، حيث كانت توكل لمجموعة من الطلبة مهمة مراقبة محيط المقهى خوفاً من مداهمة الاحتلال للمكان. وفي الداخل، الأساتذة يعطون المحاضرات وحتى الامتحانات لطلبة الجامعة. هذه الخطوات كانت للحفاظ على حياتهم كطلبة جامعيين، وحرصاً على استمرار التعليم في الضفة الغربية".
"يا بدر اختفِ"
تاريخ المقهى زاخر بالحفلات الفنية لعمالقة الغناء العربي. فقد استقبل مسرحه عشرات الفنانين المصريين من مطربين وموسيقيين، كما أن أم كلثوم غنّت أغنية "يا بدر اختفِ" على مسرح المقهى بحسب الهموز. أما فيروز فهي الوحيدة التي صدحت على أعتاب المقهى، وغنت أمامه ولم تدخله. كذلك، استقبل المقهى فريد الأطرش وأسمهان ومحمد عبد الوهاب وغيرهم من أعلام الفن العربي القديم.
ويلفت أحد مسؤولي المقهى ماهر الطقطوق إلى أن "المقهى لم يكن يجذب الفنانين فحسب، بل كان يجمع الأدباء والشعراء والمفكرين، مثل: إبراهيم طوقان، أكرم زعيتر، محمد عزت دروزة، وعادل زعيتر، وغيرهم من كبار الكتاب والمثقفين قديماً".
يتحدث الطقطوق عن اجتماعات السياسيين في مقهى الهموز: "المقاهي إجمالاً كانت تجمع السياسيين، فهم أخذوا مجداً في الهموز. وكما هو متداول، فإن دور المقهى برز خلال الاضراب الكبير في الثورة الفلسطينية الكبرى عام 1936، حيث كانت مدينة نابلس السباقة وصاحبة المبادرة في تشكيل اللجنة العربية من أجل الاشراف على الاضراب، والتي جرى تعميمها على مختلف المدن الفلسطينية وقاد اللجنة الحاج أمين الحسيني".
على الرغم من أن الماضي القريب هذا صار أقرب إلى أثر دارسٍ في ظل شكل الحياة الراهنة في المنطقة، يؤكد الهموز استمرارية توارث المقهى وصونه مستقبلا: "سنحافظ على عراقة المقهى، أولادي وأولاد أشقائي سيحافظون على المقهى ليبقى كما هو، لأنه مرآة لمدينة نابلس بتاريخها الطويل القديم. هذا المكان العريق لن يكون سوى مقهى الهموز، أدفع عمري من أجل أن يبقى المقهى قائماً، هذه رسالة والدي من قَبلي وهي ذات الرسالة لأولادي".
إطلالة الموقع تجذب الزوار من الفئات العمرية كافة، ولا يزال المقهى يقدّم "التنباك" الأصيل، والمشروبات الساخنة والباردة، كما يمتاز بأنه مستمر بتقديم القهوة في الركوة النحاسية العتيقة، ما أصبح نادراً في معظم المقاهي الفلسطينية. رواده يرتبطون به، حتى أن الطقطوق يتذكر "رجلاً عجوزاً ضريراً كنت أحضره من بيته يومياً إلى المقهى، فقط كي نقدم له التنباك العجمي فيجلس هنا لساعات. الجلسة أصبحت جزءا من يومه وارتبط نفسيا بالمقهى".
الحياة فيه، راهناً
يجذب المقهى اليوم زواره المعتادين. وهو يجذب أيضاً طلاب "جامعة النجاح" الذين يراجعون دروسهم فيه. وترى الناس من أهواء محافظة وطبقات اقتصادية مختلفة تقصده، لبقائه أميناً على ماضٍ يسميه الجميع "جميلاً". تغييرات كثيرة أصابت المكان، طبعاً، بفعل الحياة والزمن. فـ "تم هدم مسرح المقهى، كما قال لي المالكون، منذ حوالي 41 عاماً، لأن الهدف من وجوده انتهى ولم تعد هناك حاجة له. فاليوم لا وجود للحفلات الغنائية التي يحييها المطربون كالماضي، واستعاض المقهى عن المسرح بشاشات العرض للتلفزيون وشبكة الوايرلس للانترنت"، بحسب الطقطوق.
أما وائل حجاب الذي يعمل في المقهى منذ نحو ثلث قرن فيروي توالي الأيام حتى يومنا هذا: "أعمل في المقهى لتلبية طلبات الزبائن منذ العام 1984. وقد بدأنا بتقديم المعسل في النرجيلة منذ منتصف التسعينيات فقط، حيث كان ولا يزال المقهى يحافظ على وجود التنباك العجمي. هناك سيّاح أجانب ومغتربون فلسطينيون يأتون في زيارات لمقهى الهموز لعيش لحظات برفقة الذكريات". فـ "المقهى يشكل مصدر رزق لأصحابه ولنا. ومن خلاله أيضاً، يمكنك أن ترى الناس من كل الشرائح المجتمعية، كالأدباء والمثقفين والعمال والمغتربين والسياح الأجانب"، وفق حجاب.
(السفير اللبناني)