قواعد أسواق النفط تغرق في متاهات السياسة
تشهد أسواق النفط تذبذبا في الأسعار يغلب عليه التوجه نحو الانخفاض، نتيجة لتخمة في المعروض تتجاوز الطلب، بحسب آخر البيانات الإحصائية، بنحو مليوني برميل يوميا، وفي سياقها تعيش اقتصاديات، تنهل حركيتها بنسب مائوية عالية من مداخيل النفط، حالة نزيف لمدخراتها وارتباك في موازناتها.
ويبدو ضبط والتحكم في تدفقات السوق ، كمخرج أولي لدعم الأسعار، أمرا ضروريا، لكنه قد يكون، في ظل مجموعة من العوامل الراهنة، بعيد المنال، خاصة وأن قواعد السوق الضابطة للأسعار غالبا ما تغرق، بحسب المحللين، في متاهات السياسة في علاقة تتجاوز الأرقام والتكهنات، وتقع غالبا رهينة للعبة المصالح الظاهرة والخفية في الآن والاستقبال.
ولوقف تدهور هذه الأسعار، التي انخفضت بنحو 70 في المائة خلال 18 شهرا الماضية، يتفق غالبية كبار المنتجين على ضرورة كبح جماح الإنتاج بما يتناسب مع الطلب، لكنهم يقفون، وكأقصى ما يمكن السعي إليه في الوقت الحالي، عند رهان تثبيت الإنتاج عند مستويات يناير المنصرم ( 32,31 مليون برميل يوميا)، ولعله أهم محور في أجندة أشغال اجتماع هؤلاء المنتجين من داخل وخارج منظمة "أوبك" المقرر اليوم الأحد بالدوحة.
أسئلة كثيرة تتناسل بحثا عن قراءة لهذا الوضع، وعن مخرجات اجتماع الدوحة والأثر القريب لذلك قبل البعيد على آليات اشتغال السوق وحركية الاقتصاد العالمي.. فهل سيفلح هذا الاجتماع في اعتماد قرار تثبيت الإنتاج وضمان التزام كبار المنتجين على الأقل داخل "أوبك" بذلك؟.. وقبل هذا وذاك هل بمقدور القيمين على الاجتماع ضمان مشاركة جميع كبار المنتجين؟.. ثم هل يكفي تثبيت الإنتاج عند المعدل المذكور آنفا لدعم الأسعار؟.
بحسب قطر، البلد المضيف للاجتماع، أبدت 15 دولة على الأقل من داخل وخارج منظمة "أوبك"º أي منتجون ل73 في المائة من النفط العالمي، تأييدها لدعم مبادرة تجميد الإنتاج.
أما وزير الطاقة الروسية، الكسندر نوفاك، فقد أكد، في تصريح صحفي عقب لقاء جمعه، خلال هذا الأسبوع، بالدوحة، مع وزراء نفط المملكة العربية السعودية وفنزويلا وقطر، أن "أي اتفاق يتم التوصل إليه يوم 17 أبريل بالعاصمة القطرية من شأنه أن يعجل باستعادة التوازن في أسواق النفط العالمية خلال الثلاثة أو الستة أشهر القادمة". ونتيجة لذلك، توقع المسؤول الروسي أن ترتفع أسعار النفط الخام إلى 50 دولارا متم العام الجاري، وإلى ما بين 60 و65 دولارا للبرميل خلال 2017 -2018 .
ومن جهته، قال وزير البترول السعودي، علي النعيمي، في تصريح مماثل، إن تجميد إنتاج النفط عند مستويات يناير الماضي ( 32,31 مليون برميل يوميا) سيكون كافيا لتحسين أوضاع سوق الخام، مشددا على أن الأهم هو "أننا لا نريد تقلبات كبيرة في الأسعار ونريد تلبية الطلب، والاستقرار لسعر النفط".
وعن واقع حال خارطة إنتاج منظمة أوبك، تفيد الأرقام بأنها أنتجت في شهر مارس المنصرم 32,47 مليون برميل يوميا، مقابل 32,37 مليون برميل يوميا خلال فبراير، بعدما كانت ألغت، في رابع دجنبر الماضي، قرار إنتاجها يوميا ل30 مليون برميل، وهو السقف الرسمي الذي كان متفقا عليه بين أعضائها.
وانطلاقا من هذا المعطى، يرجع محللون جانبا من أسباب تدهور أسعار النفط إلى دول "أوبك" نفسها، التي لم يبد أي عضو منها استعداده لتقليص حصته، واكتفت الأغلبية بالحديث عن تثبيت الإنتاج عند مستويات يناير الماضي، وذلك مع اشتراط انخراط باقي كبار المنتجين في هذا التوجه، فيما تحفظ آخرون أو أحجموا عن الإعلان عن مواقفهم، كالنرويج وكازاخستان واذربيجان والمكسيك.
وفي مقابل ذلك، بدت إيران، الخارجة لتوها من مرحلة عقوبات دولية عصيبة، والتي ترى في تجميد إنتاجها عند مستويات يناير تمديدا لهذه العقوبات، مصممة على زيادة إنتاجها، وفق ما أكده وزيرها في النفط، بيجن زنغنه، حين أعلن، خلال شهر يناير المنصرم، عن قرار بلاده الزيادة في الإنتاج بنحو 500 ألف برميل يوميا.
هذه الاختلافات بين المنتجين داخل أوبك وبالقدر نفسه بين من هم خارجها تجعل من إمكانية الاتفاق على تثبيت الإنتاج أمرا صعبا، ولكنه يبقى حلا قابلا للتفاوض، وغير مستحيل.
وبحثا عن مخرج لهذه المعضلة في زيادة الطلب العالمي، أكد خبراء هذه السوق أن احتمال تفوق الطلب على العرض خلال هذه السنة يبقى خارج الإمكان والتوقعات، خاصة مع دخول منتجين جددا كانوا من قبل من المستوردين كالولايات المتحدة، وانضمام إيران بعد رفع العقوبات عنها، واحتمال عودة اندونيسيا التي خرجت من دائرة كبار المنتجين، بعد أن أوقفت صادرتها واكتفت بتغطية حاجياتها الداخلية.
وفي هذا الصدد، تتوقع منظمة "اوبك" أن يصل الطلب العالمي اليومي على النفط خلال 2016 إلى 94,21 مليون برميل، بارتفاع قدره 1,25 مليون برميل يوميا مقارنة مع سنة 2015، ليبقى الفارق كبيرا بين العرض والطلب في اتجاه الزيادة في تخمة السوق.
لكل هذه الأسباب وغيرها تدعم توقعات عدد من المحللين الاقتصاديين أن تظل أسعار النفط منخفضة خلال ما تبقى من هذا العام، خاصة في ظل ارتفاع الدولار المرتبط عكسيا بسعر النفط (ارتفاع العملة الأمريكية يجعل السلع الأولية المقومة بها أغلى ثمنا لحائزي العملات الأخرى)، وتباطؤ وتيرة النمو العالمي التي تصب في مزيد من تراجع استهلاك النفط، وكذا تسجيل زيادة في مخزونات النفط الأمريكية، وأيضا التوجه العالمي لتوسيع حجم الاعتماد على الطاقات البديلة الصديقة للبيئة.
وكخلفية تاريخية لها تأثيرها البالغ أيضا على حركية الاقتصاد وأسعار المواد الأولية والقدرة الشرائية للأفراد والدول، لا ينبغي إغفال ما يشكله من استنزاف للطاقات وضبابية لأفق الاستقرار والسلم العالميين، واقع إرهاب جامح ومقيت عابر للحدود، وأوضاع جيو-استراتيجية في حالة تحول بالقوة والفعل نتيجة لذلك، وانتشار لا محدود للمعلومة المواكبة منها للأحداث والناسجة لرؤى بموازاتها تفسيرا أو تعليلا أو تغليطا أو للتشويش وخلق الوهم، ادعاء أو دعاية لهذا الطرف أو هذه الأطروحة.
وبإزاء ذلك، وكقاعدة ثابتة فإن ما يصنع الفارق في سلم تحديد أثمان جميع السلع، كلفتها من إنتاج ونقل وحجم معروض وطلب، وضمن هذه المعادلة الصعبة التوازي تأتي موارد الطاقة من نفط وغاز ومعادن لتشكل عاملا مصيريا متحكما في نسب التداول وميزانيات الإنتاج والأسر والدول.
ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل في الأعم الأغلب يصبح الذهب الأسود وموارد الطاقة الأخرى محددا لمصائر اقتصاديات العالم وتوازنات القوى وعنصر جذب واستبعاد في العلاقات بين الدول، ومحورا خلفيا محركا لمعارك شتى لا يبرز منها إلا ما يطفو من جبل الجليد العائم على السطح.
بهذه الخلفية وتلك الوتيرة، تتجدد يوميا معارك اقتصادية، ذات بعد تجاري بهموم لا تغيب عنها السياسة، حول حصص تسويق المواد الأولية وأيضا المنتجات في أشكالها النهائية الصنع، تشهد بعضا من نتائجها، المباشرة منها وغير المباشرة، الجلسات اليومية للبورصات العالمية، متجسدة في حركة ارتفاع وانخفاض للأسعار، وبالنتيجة تراكم للأرباح أو الخسائر في هذا الجانب أو ذاك، ولا تمس تلك النتائج فقط النفط أو الغاز أو المعادن كمواد محركة وحاسمة لجغرافية التداول، وإنما تتعداها إلى جميع المواد الناظمة للحياة.