التضخم الاقتصادي في فلسطين
بقلم د. فريد نعيم المحاريق
تعاني فلسطين من أزمات اقتصادية خطيرة وكثيرة، وطبعا العامل الأساسي في جميع الازمات الاقتصادية التي تعاني منها فلسطين هو الاحتلال الجاثم على الارض وعلى الاقتصاد الفلسطيني، ومن أهمها البطالة وضعف الاستثمارات الداخلية والخارجية والتضخم الاقتصادي, و تفشي الفساد وغيرها . ولم تستطع الحكومات الفلسطينية المتعاقبة من حل هذه المشكلات . ولكن هل من حلول لبعض المشاكل الاقتصادية؟ وهل اسرائيل هي فقط المسؤولة عن الأزمات التي نعاني منها ؟
لننظر إلى غزة , غزة دمرت بالكامل، ومر على انتهاء الحرب أكثر من تسعة شهور، ولم يتم اعادة الاعمار او البدء بعجلة اعادة الاعمار , بعد انتهاء مؤتمر المانحين الدولي في شرم الشيخ لإعادة اعمار ما دمرته اسرائيل، فقد وضعت وقتها الحكومة خطة اقتصادية لإعادة الاعمار تتكون من خمس مراحل، و حتى الآن لم يتم البدء بالمرحلة الاولى, والمعوق في اعادة الاعمار طبعا الحصار الإسرائيلي على غزة وعدم غض البصر عن الخلافات الفلسطينية الداخلية .
إن صغر حجم الاقتصاد الفلسطيني هو احد معوقات استيعاب الايدي العاملة في السوق الفلسطيني و هي ايد عاملة قوية وبناءة الا ان فلسطين تعاني من البطالة العالية في الضفة قطاع غزة , وخصوصا بعد الانقسام الفلسطيني الداخلي عام 2006 م و ظهور أزمة جديد تسمى ( الموظفين المستنكفين ) تعاني الحكومة من هذه المشكلة كون أن هناك من يتقاضى راتبة و هو لا يعمل، وهناك من يعمل و لا يتقاضى راتبة , وطبعا سبب هذه الأزمة هي سياسية فلسطينية بحته لا علاقة للاحتلال فيها , و قد اقدمت سويسرا على تقديم خطة اقتصادية من اجل حل هذه المعضلة و قد وافقت جميع الاطراف الفلسطينية عليها الا ان هذه الخطة لم تر النور حتى الآن و السبب الخلافات السياسية الداخلية .
و في هذا المقال سأتحدث عن التضخم الاقتصادي الفلسطيني كون ان التضخم الاقتصادي قد لا يعاني أسبابا سياسية داخلية كثيرة، ومن الممكن ايجاد بعض الحلول لتخفيف العبء الاقتصادي على الموطن , وفي هذا نبتعد عن ازمة الموظفين واعادة الاعمار و البطالة و غيرها من المشاكل الاقتصادية التي سببتها الخلافات السياسية قد تكون حل أزمة التضخم هي أول خطوه للحلول الباقية , ويمكن من خلال حل أزمة التضخم أن تستطيع الحكومة تقديم أي شيء جديد ورفع أهم أزمة اقتصادية وهو تخفيف الغلاء المعيشي في فلسطين .
تعريف التضخم : أنه ارتفاع مستمر في المستوى العام للأسعار ولفترة طويلة، مع ملاحظة أن يحتوي على الآتي :- 1- ارتفاع في المستوى العام للأسعار . 2- استمرار ارتفاع في المستوى العام للأسعار لفترة طويلة، وهذا يعني أن قفزة في الأسعار لا تسمى تضخما . و بحسب الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني ، إن معدل التضخم في فلسطين، ارتفع خلال الربع الأول من العام الجاري 2015، إلي 0.58٪، مقابل 0.27% خلال نفس الفترة من العام الماضي، بسبب ارتفاع أسعار وقود المنازل والسيارات والخضروات. وأضاف جهاز الإحصاء الحكومي، أن معدل التضخم في الضفة الغربية خلال الربع الأول من العام الجاري بلغ 0.52٪، فيما بلغ في قطاع غزة نحو 1.24%، في حين سجلت انخفاضاً بمقدار 0.60% في القدس ليستقر التضخم عند سالب 0.24 في المدينة.
إن تراجع معدل التضخم في القدس، يعود إلي تراجع أسعار البيض الطازج بمقدار 12.28%، وأسعار الفواكه الطازجة بمقدار 6.44%، وأسعار الغاز المستخدم للمنازل بمقدار 1.37%، إضافة إلى انخفاض في أسعار المياه والكهرباء بنسبة 7٪ , نلاحظ الفرق في التضخم بين كل من الضفة و غزة و القدس و هنا ننظر الى اسباب انخفاض التضخم في القدس و السبب الاساسي في انخفاض التضخم بالقدس هو انخفاض اسعار المحروقات و خصوصا الغاز المستخدم للمنازل , فمع انخفاض اسعار البترول عالميا اقدمت كثير من الدول على خفض أسعار المحروقات مع ما يتماشى بالأسواق العالمية الا في فلسطين فقد تم تخفيض أسعار المحروقات بنسب رمزية لا تتماشى مع انخفاض اسعار البترول العالمية . و لهذا نجد ان في القدس قلت نسبة التضخم لان اسرائيل خفضت نسبة الأسعار الى 15% و كما قامت ايضا بعمل خطة التقشف الإسرائيلية اما بباقي الاراضي الفلسطينية بالعكس بل ارتفعت , و قد انخفضت أسعار البترول عالميا من 110 دولارات للبرميل إلى 45 دولارا للبرميل أي بنسبة تبلغ 60%.
ووفق مصادر في الهيئة العامة للبترول الفلسطينية و ها هي الان تعاود الصعود ولم نستفيد من الانخفاض ، فإن إجمالي نسبة الضرائب المفروضة على ليتر الوقود تبلغ قرابة 55٪، بينما هنالك 10٪ نسبة أرباح أصحاب محطات الوقود، و 35٪ من السعر النهائي هو سعر الليتر المشترى من إسرائيل. وتعتبر هذه النسبة من أعلى النسب في العالم , وبناء على اتفاقية باريس فإن الأسعار في الاراضي الفلسطينية يجب ان تنخفض بنسبة 30%، وذلك لأن الاحتلال خفضها بنسبة 15% اضافة إلى هامش السعر في الاتفاقية ونسبته 15%، لكن يبدو ان السلطة اكتفت بنسبة 10% وذلك لأن ضرائب المحروقات تشكل أحد أهم الموارد لخزينة السلطة , مع ان اهم اسباب خفض التضخم الاقتصادي هو خفض اسعار المحروقات , فعندما خفضت السلطة اسعار المحروقات بنسبة 10% انخفضت نسبة التضخم , و المثال الثاني هو كما ذكرنا ان هناك انخفاض بنسبة التضخم بالقدس المحتلة و ارتفاع في الضفة و غزة كون ان القدس تتبع اقتصاديا بالنسبة للمحروقات و غيرها الى اسرائيل و بعد خفض قيمة المحروقات بإسرائيل بنسبة 15% ادى هذا الى انخفاض نسبة التضخم , لذلك كان الاجدر بالحكومة خفض سعر المحروقات بنسبة 30% و ليس 10% لتخفيف الأسعار كون ان المحروقات تعد العمود الفقري في تحديد مستوى المعيشة بالإضافة الى قيمة الضرائب.
و لكن لا بأس هذا ما ذكرته طبعا يتعلق بالبنزين ولا يشمل جميع المحروقات اذا كان السبب خفض بنسبة 10% من اجل زيادة خزينة الدولة , فانة حسب الاقتصاد ستعود هذه الأموال الى المواطنين من خلال تقديم الخدمات وغيرها و لكن ما لا يفهم هو ارتفاع اسعار السولار و الغاز . حسب بروتوكول باريس الاقتصادي، الناظم للعلاقة الاقتصادية بين الطرفين، يجمع الاراضي الفلسطينية واسرائيل بغلاف جمركي واحد، مع هوامش بسيطة للسلطة استخدامها لا يترك فرقاً ذا مغزى في كلفة المعيشة، رغم الفارق الهائل بين معدلي دخل الفرد الفلسطيني مقابل الفرد الاسرائيلي. وتنص اتفاقية باريس في الفقرة (أ) من البند (12) المتعلق بالمحروقات على أن تكون المقاييس الأردنية، كما هي محددة في الملحق "1" هي المعيار في استيراد منتجات البترول إلى المناطق, و يمكن للسلطة الفلسطينية أن تستورد بنزيناً للأسواق الفلسطينية في المناطق وفقاً لاحتياجات هذه السوق بشرط: : 1. يتم تمييز لون البنزين عن ذلك المسوق في أسواق (إسرائيل). 2. تتخذ السلطة الفلسطينية كل الخطوات الضرورية لضمان عدم تسويق هذا البنزين في (إسرائيل). ب. الفارق في سعر البنزين النهائي للمستهلكين الإسرائيليين والمستهلكين في المناطق يجب ألاّ يتجاوز 15 بالمائة من السعر النهائي الرسمي للمستهلك في (إسرائيل)، وللسلطة الفلسطينية الحق في تحديد أسعار منتجات النفط في المناطق ما عدا البنزين. اهم بند ذكر في بروتوكول باريس هو (2- ب) المتعلق بالمحروقات و بالتحديد هو( للسلطة الفلسطينية الحق في تحديد أسعار منتجات النفط في المناطق ما عدا البنزين).
اذا ما عادا البنزين أي ان السولار و الغاز و الكاز يتم التحكم بالتسعيرة و فرض الضريبة عليه من قبل السلطة الفلسطينية و لا تتدخل اسرائيل بهما , و نجد ان اسعار السولار و الغاز لا يتطابق و الواقع الاقتصادي الفلسطيني و يتم التعامل معهما كما يتم التعامل مع البنزين المقيد بشروط بروتوكول باريس , وبهذا الخصوص كان الاجدر بالسلطة الفلسطينية خفض نسبة الضريبة على كل من السولار و الغاز المنزلي , كون أن نقل المنتجات والبضائع الفلسطينية بين المدن الفلسطينية يتم من خلال شاحنات تعمل على السولار فلو اقدمت السلطة على خفض اسعار السولار قد يساعد هذا على خفض أسعار المواد الغذائية و خصوصا ان النقل البري و بالشاحنات يصنف من اغلى انواع النقل , و ايضا خفض اسعار الغاز المنزلي يجب خفض اسعاره لانه ينهك المواطن , فاذا خفض السولار و الغاز فان كثيرا من المواطنين سيعتمدون على السيارات بالسولار و سيقل نسبة السيارات بالبنزين و بالتالي تقل عملية احتكار اسرائيل للبنزين داخل السوق الفلسطيني.
يذكر أن السلطة أوقفت ضريبة البلو عن السولار الخاص بمحطة التوليد في غزة لمدة شهر اواخر العام الماضي دون أي تدخل أو منع من الطرف الإسرائيلي ما يؤكد أن السلطة صاحبة القرار في الضريبة. و بالتالي يصبح لدى المواطن بعض الأموال كي يدفعها للكهرباء و الماء , وذلك كونه يدفع ما يحصل علية من اموال حسب اهتماماته واحتياجاته الاساسية فضلا عن دفع فتورة الكهرباء والماء مما ولد لدينا ازمة الكهرباء و الماء . كما يجب مراجعة رسوم جمارك المركبات في فلسطين كونها من الأعلى عالميا ان مشكلة فرض الضرائب على المركبات بنسبة كبيرة هي سياسة غير عادلة ولا تراعي احتياجات المواطنين خاصة أن هناك فئات عريضة من المجتمع تريد شراء مركبات لتلبية احتياجاتها المعيشية، كما ان قيمة الضرائب الحالية تقود إلى إرهاق المواطنين ماليا في حين ان هذه السياسة لم تحقق أهدافها في مجال الحفاظ على البيئة أو منع الاكتظاظ على الطرقات أو شبكات الطرق والدليل على ذلك أن كثيرا من الفلسطينيين يعتمدون على السيارات غير القانونية من داخل اسرائيل، وبالتالي فإن اهداف هذه الضريبة اصبحت غير واقعية، فالمركبات غير القانونية غير صالحة ومضرة بالبيئة وتسبب الاكتظاظ , إن ما يحصل عندنا هو أن المواطن يشتري المركبة بسعرها النهائي بما يشمل تكلفة صناعتها وتكاليف شحنها وأرباح الشركة المستوردة والجمارك المفروضة عليها، وحينما يتجه للبنوك للحصول على قرض لشراء المركبة فإنه يدفع فوق كل ذلك الفوائد البنكية على القرض ,يجب مراجعة وتقييم السياسات الضريبية المعتمدة من قبل الحكومة على أساس حماية المستهلك الفلسطيني والأخذ بعين الاعتبار قدراته المالية واحتياجاته المعيشية.
و من اجل المحافظة على دخل خزينة الدولة بالتوازي مع خفض أسعار بعض المحروقات والضريبة الجمركية للمركبات يمكن تعويضها من خلال : اولا: يجب على السلطة الفلسطينية ملاحقة المتهربين من دفع الضرائب لمدة 15 عاما حسب القانون. ثانيا: يجب على السلطة ملاحقة الهاربين والسارقين لأموال الشعب وارجاع الأموال ومحاربة الفساد . ثالثا: عمل خطة تقشفية في عملية الانفاق الحكومي . رابعا: العمل على استغلال الموارد الطبيعية الفلسطينية كالعمل على اخراج النفط المكتشف في قرية رنتيس واستغلاله كونه يقع داخل الاراضي الفلسطينية و محاسبة اسرائيل اقتصاديا ايضا على سرقة الموارد الطبيعية، كما يجب استغلال الغاز المكتشف على سواحل قطاع غزة والاسراع بالتعاقد مع شركات الغاز , و لا ننسى الثروات الطبيعية الموجودة داخل البحر الميت , يجب فتح المجال امام الاستثمارات الداخلية للموارد الطبيعية في البحر الميت و خصوصا أن اسرائيل تستنزف هذه الثروات بدون منازع . خامسا: يجب تعديل اتفاقية باريس حسب ما يتماشى مع المصالح الاقتصادية الوطنية و ضمان استقلالية القرار الاقتصادي الفلسطيني . وان لم تستطيع الحكومة من جمع الأموال اللازمة لخزينة الدولة، بذلك يمكن لها تحويل أزمة العجز الى الرباعية الدولية ويكون هذا ايضا دليلا على الممارسات التعسفية التي تمارسها اسرائيل بحق الشعب الفلسطيني و يرفع بالتالي العبء المعيشي عن كاهل المواطن الفلسطيني, و ليس حل الأزمات الاقتصادية على حساب المواطن .
*دكتوراه في الاقتصاد الدولي