الرئيسية » أقلام اقتصادية »
 
10 نيسان 2016

وثائق بنما وبدع النيوليبرالية

يمكن النظر إلى وثائق بنما بخلاف الطريقة التي يتم تفسيرها فيها الآن. فهي لا تقوم بفضح الفساد بقدر ما تكشف طرق عمل وتداعيات رفع القيود عن الاقتصاد، ناهيك عن أن معظم الشخصيات السياسية المذكورة في هذا التسريب هم رجال أعمال يمكنهم التعدّي على الموارد الطبيعية والأراضي والأملاك العامة

\

سنتيا كريشاتي

في غضون الأيام الأخيرة، قدمت وثائق بنما أو «بنما ـ ليكس» على أنها أكبر وأهم تسريب صحافي في التاريخ. إذ إنها تضم 11,5 مليون ملف يوثق معظمها عمليات قامت بها شركة «موساك فونسيكا»، وهي شركة بنمية تؤمن خدمات قانونية واستشارية، لديها أكثر من 40 مكتباً في جميع أنحاء العالم، ولائحة عملائها تتعدى الـ 14,000. وتفضح تلك الوثائق المسربة خطط احتيال، وفساد، وتهرب ضريبي، استطاع فريق العمل الصحافي ربطها بحوالي 140 شخصية سياسية من مختلف البلدان. كما تكشف أن هذه الشركة قامت، منذ أواخر سبعينيات القرن الماضي، بتأسيس أكثر من 214,000 شركة سُجلت في الخارج (Off- Shore Company) .

وقد شكلت الوثائق المُفصَح عنها حتى الآن خيبة أمل كبيرة (علماً أن البعض وصفها بالـ «مؤامرة»). إذ تداولت أسماء شخصيات لم يكُن مُستغرباً إدراجها في مثل هذا الإطار، كالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ورئيس الوزراء العراقي الأسبق إياد علاوي، وقريب الرئيس بشار الأسد ورجل الأعمال السوري رامي مخلوف.

لكن أهمية الوثائق، في حقيقة الأمر، تكمن في المعاني التي يمكن استخلاصها من الرسوم البيانية المعروضة على موقع المنظمة الدولية للصحافة الاستقصائية ICIJ، والتي تشير بوضوح إلى فكرة جوهرية، مفادها تفشي وازدهار الجنات الضريبية تحت رعاية المنظومة الاقتصادية النيوليبرالية. وتظهر هذه الرسوم نمواً في تأسيس الشركات المسجلة في الخارج ابتداء من ثمانينيات القرن الماضي. كما تسلط الضوء على تناقضات المنظومة الرأسمالية في شكلها النيوليبرالي، إذ يمكن الربط بين نمو وتراجع عدد الشركات المسجلة في الخارج وتقلّص ثروة الأثرياء عقب الأزمة المالية العام 2008.

الجدير بالذكر هنا أن التهرب الضريبي غيض من فيض. فمنذ أن أطلق عالم الاقتصاد ميلتون فريدمان وزملاؤه، بمساعدة أصدقائهم في السياسة، الأكثر شهرة منهم رونالد ريغان ومارغريت تاتشر، عنان الوحش النيوليبرالي، ابتُكرت أدوات لا تُعَدّ ولا تحصى، تسمح للأغنياء بأن يصبحوا أكثر ثراء، وتؤدي بالتالي لإفقار الفقراء.

ومن سخرية القدر أن تشمل «البنما - ليكس» إياد علاوي، الذي شغل منصب رئيس وزراء العراق أعوام 2004 و2005 إبان الاحتلال الأميركي. يحكي العالم الماركسي وأستاذ الأنثروبولوجيا في جامعة مدينة نيويورك ديفيد هارفي في كتابه الصادر العام 2005، تحت عنوان «الليبرالية الجديدة: موجز تاريخي»، أن بول بريمير، رئيس الإدارة المدنية المؤقتة للعراق آنذاك، قام بإصدار أربعة مراسيم شملت «خصخصة كاملة للمؤسسات العامة، ومنح حقوق كاملة لشركات أجنبية بتملك شركات عراقية مع إعادة كامل الأرباح للشركات الأجنبية، والسماح لمصارف أجنبية بالسيطرة على المصارف العراقية، والقضاء على الحواجز التي تقف بوجه التجارة الحرة «. وقد طُبقت هذه المراسيم على جميع مجالات الاقتصاد، بما في ذلك الخدمات العامة، ووسائل الإعلام، والصناعة، والنقل، والمالية، والبناء والعقارات (استُثني النفط ربما بسبب علاقته بتمويل الحرب ولأهميته الجيوسياسية). أما بالنسبة لمجال العمل، فقرّر بريمر وقتها ضبطه بشدة. فحظر الإضراب في القطاعات الاقتصادية الرئيسية وسلب من العمال حقهم بتشكيل النقابات، كما فرض نظاماً ضريبياً رجعياً.

ويوضح هارفي أن التجربة الأولى لتشكيل الدولة النيوليبرالية كانت قد بدأت في تشيلي العام 1973، أيام دكتاتورية أوغستو بينوشيه، وذلك قبل ثلاثين عاماً على إقرار بريمر نظامه الجديد في العراق. ويشير هارفي في هذا السياق أنه جرى بعد ذلك توطيد وتثبيت مبادئ النيوليبرالية في الولايات المتحدة وبريطانيا العام 1979 بقيادة رئيسة الوزراء البريطانية مارغريت تاتشر ورئيس الجمهورية الأميركي رونالد ريغان. وتتضمّن ذلك مواجهة السلطات العمالية النقابية، وتفكيك أشكال التضامن الاجتماعي كافة، والقضاء على التزامات دولة الرفاه، وخصخصة المؤسسات العامة (بما في ذلك السكن الاجتماعي)، والحد من الضرائب. وللمرأة الحديدية تاتشر مقولة شهيرة: «لا يوجد شيء اسمه المجتمع، يوجد أفراد فقط».

ويمكن النظر إلى وثائق بنما بخلاف الطريقة التي يتم تفسيرها فيها الآن. فهي لا تقوم بفضح الفساد بقدر ما تكشف طرق عمل وتداعيات رفع القيود عن الاقتصاد، وتزايد تأثير القطاع المالي (financialization)، وفرض عقائد السوق الحرة في العالم. ناهيك عن أن معظم الشخصيات السياسية المذكورة في هذا التسريب هم رجال أعمال يمكنهم التعدّي على الموارد الطبيعية والأراضي والأملاك العامة. والكثير منهم ساهم على مدى العقود الثلاثة الماضــــية بتجريد واستــــغلال وسلب شعوب بلاده. وليس لهؤلاء حاجة أحياناً للتـــــهرب من الضرائب من خلال تأسيـــس شركات تسجل في الخارج.

برغم كل ذلك، يبقى الأمل بمستقبل أفضل قائماً. مستقبلٌ تقوم فيه منظومة بديلة، تهدف إلى جعل الحياة أكثر عدلاً، ولا ترهق كاهلَ الغالبية العظمى منا «جنّاتٌ» اقتصادية وضريبية، قامت من أجل تراكم الثروات وتعميق الفوارق بين البشر.

أخيراً، يمكن القول إن صدمة وثائق بنما الوحيدة ربما، تمثلت بفضيحة رئيس وزراء أيسلندا!

(السفير)

مواضيع ذات صلة