فوضى الـ NGOs في فلسطين
يبلغ عدد المنظمات غير الحكومية في الأراضي الفلسطينية حوالي 3600 منظمة، تخلق أكثر من 40 ألف فرصة عمل مدفوعة الأجر، وتتلقى تمويلا اجنبيا يقدر بمليار و600 مليون دولار سنويا. استاذ الاقتصاد في جامعة النجاح بكر اشتية يناقش مسألة تبعثر إنجاز هذه المنظمات ويطرح توصيات لإعادة صياغة العلاقة بين المؤسستين الرسمية والأهلية على قاعدة من الثقة والتكامل.
*بكر ياسين اشتية - بوابة اقتصاد فلسطين
بدأت مؤسسات المجتمع المدني الفلسطينية خلال فترة الاحتلال الإسرائيلي، ما قبل أوسلو، كبديل لحالة الغياب الكامل للمؤسسات الرسمية الفلسطينية في مجالات الإغاثة والصحة والتعليم والتشغيل، وكانت حينها رديفا لتنظيمات العمل الوطني في دورها المقاوم ضمن أجندة تحررية قائمة على أسس وثوابت وطنية تتبنى رؤيا المقاومة والصمود والرباط.
ومع تراجع الزخم التنظيمي، وما تشهده الأراضي الفلسطينية حاليا من غياب كامل لدور المجلس التشريعي كمؤسسة رقابية على أداء الحكومة، إضافة لإهمال النخب الفكرية لصالح مراكز القوى التنظيمية، في ظل كل تلك المعطيات، بدأت تتبلور لدى مؤسسات المجتمع المدني حالة من ردات الفعل، لعبت خلاله أموال المانحين الدور الأبرز لسد الفراغات التنظيمية والفكرية والتشريعية بأجندة وطنية حينا، وأجندات مستوردة أحيانا أخرى.
المنظمات غير الحكومية في أرقام
وفقا للتقديرات الأخيرة، فقد بلغ عدد المنظمات غير الحكومية في المناطق الفلسطينية (3600) منظمة، تتوزع بواقع (2800) في الضفة الغربية، و(800) في قطاع غزة. وحسب تقديرات سابقة لمعهد أبحاث السياسات الاقتصادية الفلسطيني، فإن (65%) من تلك المنظمات يعمل لديها موظفون بأجر بمتوسط (18) عاملا لكل منظمة، أي أن تلك المنظمات تخلق أكثر من (40ألف) فرصة عمل مدفوعة الأجر.
أما من حيث التمويل، فقد حصلت تلك المنظمات خلال الأشهر التسعة الأولى من العام 2015 على تمويل أجنبي مقداره 800 مليون دولار وفقا لتقديرات حكومية رسمية، أي أن العام 2015 شهد تدفقات نقدية على الأراضي الفلسطينية (خارج حسابات الموازنة العامة) تربو على المليار دولار، أي حوالي ربع موازنة السلطة الفلسطينية، علما أن تقديرات هيئة شؤون المنظمات الأهلية الفلسطينية تشير إلى (1.6) مليار دولار مجموع ما يصل تلك المنظمات سنويا، الأمر الذي يطرح تساؤلات كثيرة منها:
خلط في المفاهيم
يبدو أن هنالك خلط على المستوى الرسمي الفلسطيني بين مؤسسات المجتمع المدني، ومؤسسات المجتمع الأهلي، والمنظمات الدولية، وهي جميعا تندرج تحت عنوان المنظمات غير الحكومية. ففي الوقت الذي تسعى فيه مؤسسات المجتمع المدني (كالأحزاب والتنظيمات السياسية والنقابات والجمعيات والاتحادات) لتعزيز قيم المواطنة والمساواة والديمقراطية والعدالة والتنمية، يبقى المجتمع الأهلي القائم على قيم العائلية والقبلية والديانة والمذهبية، يبقى اللبنة الأولى المستهدفة لتشكيل ملامح المجتمع المدني من خلال الزج بكافة المكونات الأهلية في مشروع وطني يضمن لكافة الشرائح الأهلية المشاركة في بنائه بعيدا عن الاعتبارات الفئوية الضيقة.
أما المنظمات الدولية، فهي مشاريع وأجندات خارجية ضمن مسميات تنموية وحقوقية تحاول أخذ زمام المبادرة في تشكيل قيم ومفاهيم المجتمع المدني الفلسطيني. وهنا أوجب توضيح أن الأرقام التي وردت آنفا لم تفرق بين تلك التصنيفات، وأن إشكالية العلاقة مع السلطة الفلسطينية اقتصرت على مؤسسات المجتمع المدني (سيئة الصيت من وجهة نظر الحكومة وبعض الفعاليات الحزبية) واستثنت المنظمات الدولية. وتجدر الإشارة هنا أن المستوى الرسمي الفلسطيني لا يعترف بالكثير من تلك المؤسسات، وأن أزمة ثقة بدأت ملامحها بالظهور خلال العام 2015 بين كل من مؤسسات المجتمع المدني والحكومة الفلسطينية.
احتياجات وأجندات
لا شك أن التمويل الأجنبي (خارج أطر الموازنة العامة) ساهم وإلى حد كبير في سد جزء من فجوة التمويل بين احتياجات المجتمع الفلسطيني والأداء المالي للسلطة الفلسطينية. فمن الطبيعي في ظل الممارسات الإسرائيلية بحق مقدّرات الشعب الفلسطيني أن نجد منظمات غير حكومية تساند مثيلاتها الحكومية على مستويات الصحة والزراعة والتعليم والتنمية والبنى التحتية، ضمن علاقة تنافسية حينا، وعلاقة تكاملية أحيانا أخرى.
فلا أحد ينكر الدور الذي تقوم به لجان الإغاثة الصحية والزراعية وغيرها من المؤسسات التنموية في تعزيز صمود المواطن الفلسطيني، لكن الجدل يبقى قائما حول المئات من المنظمات غير الحكومية ذات الأجندات (المشبوهة) من وجهة نظر البعض، منها ما يعنى بطروحات بديلة للمشروع الوطني الفلسطيني على قاعدة الحوار والتسامح والتطبيع، ومنها ما يلتزم بأجندات حقوقية على مستويات المرأة والطفل والفئات المهمشة ضمن مشاريع تقتصر على الرقابة وتهمل الحماية، الأمر الذي ساعد على خلق مصادر تمويل أجنبية على الأغلب لا تمت للعمل الخيري أو الوطني بصلة بقدر ما تندرج تحت مسميات ومناكفات سياسية.
ولا شك أن غياب الرؤيا الوطنية في ظل ضعف التنظيمات الفلسطينية (كنتيجة حتمية لسياسات الإقصاء والانقسام)، إضافة لتنامي النفوذ التنظيمي في مراكز القوى على حساب النفوذ الفكري، كلها عوامل أدت لخلق قاعدة فكرية وشعبية اتخذت من انخراطها في مؤسسات المجتمع المدني وسيلة للمشاركة والتعبير عن تعريفها الخاص لمفهوم المواطنة، أو تعبيرا عن سخطها على الأداء الرسمي للمؤسسات والتنظيمات الفلسطينية. وفي كلا الحالتين يبقى الممول صاحب اليد الطولى في تشكيل فكر وأهداف تلك المنظمات، الأمر الذي يستدعي الكشف عن مدى قدرة وفعالية السلطة الفلسطينية في الرقابة المالية والإدارية عليها.
بوصلة الأولويات وغياب السلطة التشريعية
ضمن سياق المانحين والمنتفعين والمتربصين، بات من الضرورة بمكان وضع تصور شامل لأولويات العمل الأهلي والمدني ضمن سياق وطني يشارك في صياغته كافة القوى والفعاليات الرسمية والحزبية والفكرية بما ينسجم مع أولويات تعزيز صمود المواطن الفلسطيني على أرضه، وبناء مشروع وطني تحرري قادر على خوض معركة الانعتاق والتمكين.
وفي ظل غياب كامل للمجلس التشريعي الفلسطيني، يتعاظم الدور الملقى على عاتق المنظمات غير الحكومية من كونها منظمات ذات صبغة خدمية في مجالات الحريات والمناصرة والمساواة وغيرها، إلى مستوى المشارك في صنع السياسات الاقتصادية والتنموية، مع تفعيل الدور الرقابي التبادلي بينها وبين مؤسسات السلطة الفلسطينية. فلا يكفي أن تمارس الجهات الرسمية دورها بالرقابة على أداء تلك المنظمات، بل لا بد من ارتقاء المنظمات غير الحكومية لمستوى المراقب على أداء السلطة الرسمية.
ولا بد هنا من خطوات باتجاه إعادة صياغة العلاقة بين المؤسستين الرسمية والأهلية على قاعدة من الثقة والتكامل، ومن تلك الخطوات:
-محاضر بقسم الاقتصاد في جامعة النجاح الوطنية بفلسطين ورئيس القسم سابقا.