مفارقات في توقّع أسعار النفط لـ 2016
تتزايد توقعات الخبراء في خريف كل سنة، لمعدل أسعار النفط للعام المقبل. والتوقيت هذا ليس محض صدفة. فالدول النفطية تضع موازناتها السنوية وفقاً لهذا السعر. كما تدرس المئات من شركات المقاولات والدور الاستشارية، السعر المعتمد للموازنات لأنه مؤشر الى طبيعة العقود الجديدة وحجمها من جهة، والى احتمال أن يفي بعض الدول بالتزاماته تجاه مستحقاته أو يؤجلها. إضافة الى ذلك، تعتمد شركات النفط على السعر المتوقع لتحديد أنواع استثماراتها وقطاعاتها، كالاستكشاف والتنقيب أو المخاطرة في المناطق النائية أو الاستمرار في حقول النفوط التقليدية، أو تشييد مصانع التكرير التي تخدم الأسواق لكن لا تدرّ أرباحاً عالية غالباً، وغيرها من القرارات الاستراتيجية ذات الأخطار الباهظة الكلفة للشركات، والتي تقرر في نهاية المطاف خططها التجارية في المستقبل المنظور.
إن توقّع أسعار النفط الخام للسنة المقبلة ليس سهلاً، في ظل جو عدم الاستقرار المهيمن على الصناعة النفطية العالمية خلال هذه الفترة. إذ يتطلّب الأمر النظر الى عوامل ومتغيرات عدة. فهناك مثلاً، معدل نمو الاقتصاد العالمي (وهنا يعتمد معظم الإحصاءات على دراسات صندوق النقد وتقاريره عن صحة الاقتصاد العالمي للعام المقبل)، وحجم المخزون التجاري النفطي، إضافة الى تطورات الاقتصاد الدولي والصناعة النفطية، وهي تختلف مع تطوّر الأحداث. فخلال السنوات الأخيرة على سبيل المثال، ينظر الى نمو الاقتصاد الصيني المستدام بمعدلاته العالية التي تراوحت حول 8 في المئة، وهي ظاهرة فتحت أسواقاً جديدة وضخمة للنفط. وهناك الأزمات الاقتصادية والمالية المتواصلة في الدول الصناعية الغربية التي قلّصت معدلات نمو استهلاك النفط في معظمها، كما هناك انعكاسات الزيادة العالية والسريعة لإنتاج النفط الصخري الذي حقّق الاكتفاء الذاتي للولايات المتحدة، من دون أن نغفل الأخطار الجيوسياسية لاحتمال انقطاع الإمدادات من دولة نفطية مهمة لأسباب صناعية (كما حدث لإنتاج الولايات المتحدة بسبب إعصار كاترينا خلال عام 2005، أو الحروب والحصار الدولي على النفط العراقي طوال عقد التسعينات). كما تتأثر الأسعار بالمضاربات في بورصات النفط.
حاولت منظمة «أوبك» في ظلّ هذه المتغيرات المتعددة، تحقيق استقرار نسبي للأسواق والأسعار، من خلال تمكّن أعضائها ذوي الطاقات الإنتاجية العالية من زيادة الإنتاج أو خفضه في الأوقات المناسبة. أما الآن، فإن الشعور السائد هو فقدان هذه البوصلة المهمة. وعلى ضوء متغيرات الصناعة النفطية، تبرز ضرورة مشاركة الدول غير الأعضاء في اتخاذ هذه القرارات. وبالفعل، نجد الأعضاء في المنظمة منقسمين على أنفسهم منذ شهور من دون نتيجة حاسمة. والأسواق على علم بهذه الخلافات. وخير دليل على ذلك، السعر المنخفض للنفط. إن فقدان البوصلة أدى الى تفاوت التوقعات السعرية لعام 2016، عند الدول المنتجة وفقاً لدراسات المراكز البحثية المتخصصة، ما بين 20 و60 دولاراً للبرميل.
قدّم كلّ من وكالة الطاقة الدولية ومنظمة «أوبك» توقعات حول الأسواق لعام 2016، من دون تحديد معدل السعر المتوقع. وملخص، فالوكالة تتوقع ارتفاع معدلات المخزون التجاري، ما يعني استمرار «التخمة النفطية». والسبب في ذلك، ترجيح تباطؤ معدل زيادة الطلب، إضافة الى تدفّق إمدادات إيرانية جديدة. أما «أوبك»، فهي تتوقع أن يأخذ انخفاض الأسعار مفعوله، بزيادة الاستهلاك. كما ترجح أن يتقلّص إنتاج النفوط غير التقليدية كثيراً بسبب تدهور الأسعار، لأن صناعتها حساسة جداً للأسعار. والحقيقة أن إنتاج النفط الصخري الأميركي انخفض هذه السنة.
تشير وكالة الطاقة في تقريرها الأخير، الى أن سعر 50 دولاراً للبرميل وفّر دعماً لإعادة التوازن بين العرض والطلب. لكن، سيؤدي تباطؤ معدل زيادة الطلب المرتقبة، إضافة الى توقّع ارتفاع معدل الإنتاج النفطي الإيراني، «الى استمرار التخمة في الأسواق طوال عام 2016». بل تتوقع أن تكون «التخمة النفطية» موجودة حتى من دون زيادة إنتاج النفط الإيراني. وعلى رغم المؤشرات الى بدء إعادة التوازن في الأسواق العالمية، فهي ترى أن مسلسل التغيير هذا سيأخذ وقتاً طويلاً، فالتخمة مستمرة خلال عام 2016، ما يعني أن المخزون التجاري العالمي سيبقى مرتفعاً.
تتمحور وجهة نظر «أوبك»، كما عبّرت عنها سكرتارية المنظمة في تقريرها الشهري الأخير، على نجاح انعكاس انخفاض الأسعار على معدلات الإنتاج، بخاصة على الدول ذات كلفة الإنتاج الباهظة. ما يعني أن كلفة إنتاج النفوط غير التقليدية أكثر حساسية على الأسعار من إنتاج النفوط التقليدية. وتدل معلومات المنظمة على أن تدهور الأسعار يعود الى أن الإنتاج من الدول غير الأعضاء في «أوبك» حتى منتصف عام 2014، وقد ارتفع بما يعادل ضعف زيادة الطلب، ما قلّص حصص أعضاء المنظمة في الأسواق. أما الآن، فقد تغير الأمر، إذ ارتفع معدل الطلب هذه السنة عن معدل زيادة الإنتاج من الدول غير الأعضاء. وتتوقع المنظمة استمرار هذا النهج عام 2016، إذ ترجح انخفاض الإنتاج من غير الأعضاء نحو 100 ألف برميل يومياً، بينما سيزداد الطلب نحو 1.2 مليون برميل يومياً. وفي حال صحة هذه التوقعات، وفقاً لـ «أوبك»، ستنتهي التخمة ويزداد الطلب على نفوط دول المنظمة الى نحو 30.8 مليون برميل يومياً خلال عام 2016. لكن تكمن مشكلة «أوبك» في أن معدل إنتاجها الآن هو نحو 31.7 مليون برميل يومياً، ما يعني ضرورة خفض الإنتاج ، وهو أمر غير وارد حالياً لدى المنظمة. كما أن أرقام الأخيرة لم تأخذ في الاعتبار زيادة الإنتاج الإيراني خلال عام 2016.
آن الأوان لتتبنى الدول النفطية سياسات اقتصادية جديدة المنحى، بحيث لا يعتمد اقتصادها على سعر سلعة واحدة فقط تتأثر معدلاتها بعوامل خارجية لا تتحكم فيها الدول النفطية نفسها. لقد تمّ تبنّي الأطر والسياسات الاقتصادية في معظم الدول النفطية منذ منتصف القرن الماضي من دون تغيير يذكر، وقد آن الأوان لتبني سياسات جديدة وفقاً للمتغيرات الداخلية والخارجية. وأدى الاعتماد الشامل للدول الريعية على سلعة واحدة، الى إهمال تبنّي الإصلاحات الاقتصادية والسياسية، وكلما تأخر تبنّيها، كلما تفاقمت الأوضاع.
* كاتب عراقي متخصص بشؤون الطاقة