كينيا تصدِّر القهوة وتحتسي الشاي
بظهر محدودب قليلا، مع طاولة عليها أكواب أمامه، يتذوق كينيدي كيا ملعقة من القهوة الباردة غير المفلترة. يزم شفتيه استياء ويبدأ - بصوت ماص مرتفع - بشفط الهواء والقهوة على لسانه.
مهنة كيا، صب وتذوق القهوة لتمييز درجة الحموضة في الحبوب، وفحص القوام والنكهة، ليست هي المهنة التي درس من أجلها؛ فهو يحمل درجة في المحاسبة. باعتباره متذوقا وكبير المتداولين في "دورمانس"، وهي من بين أكبر خمس شركات لشراء القهوة، فقد أمضى 22 سنة وهو يطور مهاراته في التذوق (ويقول لا بد لك من التذوق باستمرار حتى تستطيع تمييز الفروق).
معظم قهوة دورمانس مخصصة للتصدير (هذه الصناعة تحقق دخلا بحدود 200 مليون دولار سنويا)، لكن كينيا التي هي أمة تفضل الشاي، تحاول الآن الانتقال متأخرة إلى القهوة. تبيع دورمانس المزيد إلى الزبائن في الداخل، كما يقول كيا، ويتم تثقيفهم بصورة متزايدة حول نوعية القهوة.
حبوب القهوة في كينيا التي تزرع في المرتفعات، وغالبا ما تقطف باليد، مطلوبة من أجل رائحتها القوية. هناك مخططات على الجدار في غرفة التذوق الخاصة بكيا، تبين النكهات التي يمكن أن ترشح أثناء التحميص الجيد - الفانيلا، والشوكولاتة السوداء، والمشمش، والزبدة، والعسل - وبعض "الرواسب" التي لا يطيقها كيا، مثل المطاط والجلد، والبطاطا، والأرز البسمتي وحتى لحم البقر الناضج.
يقول كيا، وهو يدعوني لتجربة طريقته: "في اليوم نستطيع تذوق ما بين 400 إلى 500 كوب". أفعل مثله، لكني لا أستطيع أن أماثل طريقته، أو صوت الشفط دون أن يغلبني الضحك. ويسألني: "هل حصلت على شيء؟". أهز رأسي بالنفي. يقول لي: "بصراحة، هذا الأمر يحتاج إلى تدريب".
بدأت زراعة القهوة في كينيا قبل أكثر من 100 عام في مزارع تعود للمستعمرين، مثل المزرعة التي اشتهرت بفضل فيلم "من إفريقيا" المأخوذ عن رواية كارين بليكسن، على أطراف نيروبي، حيث حاولت زراعة القهوة في العشرينيات، لكنها فشلت. وتحتفظ مكاتب دورمانس في نيروبي بجو المنزل الاستعماري الذي بدأت منه في الخمسينيات، حيث أشجار البوجافيليا المزهرة وأشجار النخيل الطويلة خارج النافذة، ومئات من العلب المعدنية القديمة مكومة في غرفة التذوق، وحسب التقاليد، صور بإطار لرئيس الدولة على الجدران. صور جومو كينياتا، رئيس مرحلة الاستقلال من 1963، ودانييل أراب موي، الذي جاء بعده في السبعينيات، لا تزال معلقة جنبا إلى جنب على الجدران الصفراء.
التركة الاستعمارية البريطانية جعلت كينيا تمارس عادة قوية في شرب الشاي. الشاي هو المشروب المفضل في البيوت والمكاتب الحكومية، حيث يغلى في الحليب المحلى ـ من دون إضافة الماء. وباعتبار كينيا أكبر بلد مصدر للشاي الأسود، فإنها تحصل نحو مليار دولار سنويا من إنتاجه، الذي بلغ 450 ألف طن في السنة الماضية، أي نحو عشرة أضعاف إنتاج القهوة.
في منطقة فقيرة تحمل اسم كيبيرا، يذهب الناس إلى العمل في بدلات، ويسيرون باتجاه أماكن بيع قطع الغيار، وأكوام مواد البناء على جانب الطريق، ومحل صغير عليه سقف معدني مموج، وعليه لافتة تقول "ملحمة راقية". بجانبه تفتح مارجريت كاتمي محلها الصغير ذا السقف المصنوع من الصفيح، "مستودع البيض". معجون الأسنان، والمصابيح، وغيرها من الأساسيات تملأ الرفوف، وأكياس من القهوة الفورية معلقة على خيط عبر المحل. وهي تبيع 30 كيسا في اليوم - تبلغ قيمتها الإجمالية جنيها.
عند مفترق الطرق، محمد ماهيتي، البائع في الشارع، يمارس تجارة أسرع. فهو يحمل ثيرموس كبير الحجم من قهوة نستله الفورية، مثل الطفل المحمول على صدره. هذا الشاب البالغ من العمر 21 عاما يبيع الأكواب إلى الزبائن مقابل 12 بنسا للكوب - وهو سعر أرخص عشر مرات من القهوة المماثلة في المقهى. ويقول: "ربما في المساء لا يزال الناس يشربون الشاي، لكن في الصباح، أول كوب هو القهوة. القهوة أقوى من الشاي، إنها تجعلك تشعر بالنشاط والناس يريدون هذا الدفء". يصب ماهيتي كوبا إلى راماجان سليمان، راكب التاكسي البالغ من العمر 25 عاما الواقف بجانبه. يقول سليمان إنه يختار القهوة لأن "الرجال الكبار" يشربونها. يؤيده ماهيتي في قوله: "كنا دائما نشرب الشاي، لكن القهوة شيء لم يكن موجودا من قبل. إنها مثل علامة النجاح حين تشرب القهوة".
انتبهت شركات القهوة لهذه الظاهرة. الماركة العالمية نستله تحاول تسويق أكياس القهوة الفورية، مثل التي تباع في متجر كاتمي، حتى إلى أفقر الزبائن المحتملين، رغم أنها تقول إنه بالنسبة للوقت الحاضر لا تزال حصتها من سوق القهوة الاستهلاكية الصغيرة في كينيا لا تذكر.
في فترة الغداء المزدحمة في المنطقة المالية الجديدة في العاصمة، هناك مقهى أنيق يبيع القهوة إلى الكينيين الغارقين في الصفقات والمواعيد. امرأة ذات أظافر قرمزية وظل العين بلون ينسجم معه، تدعو صديقة لها على حفل غداء بمناسبة عيد ميلادها في المقهى المفضل لديها والمخصص لأهل الطبقة الوسطى. يناقش المصرفيون تطورات الأعمال وهم يحتسون الكابوتشينو. هناك خمس سيدات يتناولن الغداء ويعربن عن حبهن لقهوة الموكا.
يقول جورج ثارا، وهو مصرفي استثماري يبلغ من العمر 28 عاما: "ما نزال مجتمعا قائما على الشاي، لكن الأمور تتغير - القهوة الآن هي المشروب المفضل". ويقول إنه اكتسب عادته في الخارج وهو الآن يطلب القهوة بصورة منتظمة ليأخذها معه بعد الغداء، حيث كانت العادة أن يتناول الشاي بالحليب المحلى بكثرة ويحتوي على كمية قليلة للغاية من الشاي. ويقول: "لقد استثمرنا في آلة القهوة لدينا في العمل، لكننا نأتي إلى هنا بحجة أننا نريد المشي".
المقهى واحد من 31 مقهى مملوكة لشركة جافا هاوس، وهي سلسلة مقاهي توسعت بسرعة كبيرة منذ افتتاح أول محل لها في 1999 إلى درجة أن دار الأسهم الخاصة الأمريكية "إي سي بي" اشترت 90 في المائة من الشركة قبل ثلاث سنوات. الآن هي تفتح 12 محلا في السنة.
جلسات التدريب في الشركة تشجع الموظفين على ألا يكونوا "سلبيين" أو "أنانيين" أو "عدائيين". باريستا إريك كيثينجي (30 عاما) يبتسم وهو يبين أنه كان في الماضي لاعب كرة قدم محترف ولم يكن يعلم شيئا يذكر عن القهوة. في السنة الماضية فاز في بطويلة الباريستا الوطنية الكينية، وبعد ذلك حقق المرتبة 39 في المسابقة العالمية.
يقول قبل أن يقلب إبريق قهوة فوق إسبريسو طازجة: "أصعب مرحلة هي تكوين رغوة الحليب. إنها فن وليست علما". بعد عدة لفات من رسغه، يشكل غطاء حليبيا على السطح. "فن اللاتيه" أصبح الآن شائعا للغاية بين زبائن نيروبي المحبين للرغوة إلى درجة أن الزبائن يعيدون الكابوتشينو إذا لم تكن تزينها وردة صغيرة أو، بالنسبة للمفضلين لديه، قلب.
المؤسس هو كيفين آشلي، وهو أمريكي أنشأ "جافا هاوس" بعد أن أخفق في العثور على قهوة جيدة الطعم في نيروبي، وهو يوافق على أن ثقافة القهوة الجديدة في كينيا أصبحت علامة على المكانة، حيث تفوقت ليس على الشاي وإنما أيضا على الجعة باعتبارها المشروب المفضل في المناسبات الاجتماعية.
يقول آشلي: "إذا كنت تريد أن تعرف على أنك شخص رفيع المستوى، فليس هناك مكان أفضل لفعل ذلك من مكان عام تنفق فيه دولارا ونصف الدولار مقابل كوب من القهوة وتقول في نفسك لقد حققت ذلك، لقد نلت مرادي". يقول آشلي إن الشركة لا تستعجل الزبائن لمغادرة الطاولات، حتى لو كان الواحد منهم يحتضن فنجان القهوة لساعات للاستفادة من الإنترنت المجاني. "إنها طريقة رخيصة للغاية لتبرهن على أنك ارتقيت في المجتمع".