الرئيسية » الاخبار الرئيسية » محلي »
 
01 آب 2015

التين التلاّوي: عيد وطنيّ وطقوس متوارثة

تمكنت قرية تل جنوب غرب نابلس من الحفاظ على أنواع من التين كادت أن تنقرض في فلسطين. ويعد موسم قطاف التين في تل إحياء لإرث لم يفارق أهاليها. شذى رمضان ابنة تل، تحكي تجربتها الشخصية هي وعائلتها مع موسم التين.

\

بوابة اقتصاد فلسطين| فما زالت جملة صديقتي عالقة في ذاكرتي حينما قالت لي: “أنتم أهل تل بتغشونا بالتين”. لم أعلق حينها ولم أبد أي علامات تساؤل، ربما لعدم استيعابي ما عنته بالغش. تابعت صديقتي قائلة: “أنتم تضعون عليه موادَّ غريبة ليكبر، وبذلك يكون طعمه غير مستحب لدي”. دهشت كثيراً وأصابتني الحيرة عندما سمعت ذلك الكلام. قلت لها: “أنت عمرك شفتِ كيف بطلع التين؟!”، قالت: “أعرف أنهم يعملون على سقيه بالماء باستمرار حتى يكبر وينضج”. تابعت ردي لها مداعبة إياها بمثل شعبي تردده أمي دوماً: “اعطِ الخبز لخبازه ولو أكل نصفه”.

منذ صغري، ومنذ أن ترعرعت في قريتي تل جنوب غرب نابلس، وأنا أرى أبي في أواخر شهر تموز من كل عام يبدأ بعمل “مدهان التين”، وهو بمثابة إرث للقرية. ومدهان التين هي عصا خشبية صغيرة، يُلفّ رأسها بقطعة قماش أو قطن، ومن بعدها تُبَلّل القطنة بالزيت النباتي أو زيت الزيتون، ثم يُدهن رأس الثمرة الفجّة “غير مكتملة النمو” حبةً حبة. وبعد أسبوع من موعد دهن الثمار، يحين موعد قطافها لغايات الأكل والبيع والتخزين والتجفيف، وغيرها من أعمال التجارة.

لا زلت أذكر قبل سنوات ليست ببعيدة، عندما كان أفراد عائلتي المكونة من اثنتي عشر فرداً، يصحون صغيراً وكبيراً في حدود الرابعة والنصف فجراً، لقطف ثمار التين من أجل كسب لقمة عيشنا قبل أن يذهب كلٌ منا إلى مدرسته وجامعته أو إلى عمله. وكان أبي يعمل مدرساً، لكنه كان يعتبر التين مصدر رزق أساسي لنا في موسمه. وكان يحثّنا على إنجاز العمل باكراً، حتى لا يتأخر كلٌّ منا عن دوامه المعتاد.

\

تل تحافظ على طقوس وعادات التين

نبدأ العمل منذ الساعة الخامسة فجراً وحتى الساعة السابعة أو الثامنة صباحاً، إلى حين مجيء التاجر لينقل كراتين التين إلى أماكن بيعها. وكان معدل إنتاجنا في اليوم الواحد ما يقارب الـ25 كرتونة، وكل كرتونة تحتوي ستة صحون. وكانت ثمارنا من “التين العناقي والخرطماني”، وهي أكثر أنواع التين مبيعاً.

تحتل قريتي مركز الصدارة في زراعة أشجار التين، ففيها حوالي ثمانية عشر صنفاً من التين، أشهرها: العناقي والخرطماني والخضاري والحماري والموازي والعذلوني، وهو أغلاها سعراً لندرته وحلاوة طعمه. ومن أنواع التين ما ينضج أسرع من غيره، كالتين الحماري، المنتشر حالياً بألاسواق ولا يحتاج للدهن أحياناً، ونطلق عليه اسم “تين نُكّيد”، كونه ينضج القليل منه وحده دون الحاجة لدهنه بمدهان الزيت، ولكن هذا نادر الحصول في موسم التين. والقائمة تطول في أصناف أخرى من أشجار التين في القرية.

وعندما يعود أبي إلى البيت من عمله، وعند عودتي أنا وإخوتي من مدارسنا وجامعاتنا، كنا نتناول وجبة الغداء ونستريح قليلاً. وبعد صلاة العصر نعود من جديد إلى ذات الحقل، حيث يأخذُ كلٌ منا مدهانه الخاص، ونبدأ بدهن “عجرات” التين مرة أخرى حتى يحين موعد قطافها، لتصبح جاهزة للاستهلاك.

“طقوس التين تنسيني التّعب”

هذه الطقوس في الصباح الباكر أو حتى عند العودة في المساء عند موعد الدهن، وما يملؤها من أحاديث أهل القرية أثناء عملهم في أراضيهم، وأصوات الأطفال تملأ الشوارع أثناء لهوهم مع زقزقة العصافير في الصباح وما ترويه النسوة مع بعضهن حتى وهنَّ على أعالي شجر التين، كل هذا وأكثر كان كفيلاً بأن ينسيني النعاس الذي يحلُّ بي كل صباح، أو حتى تعبي أثناء عودتي من المدرسة وذهابي للحقل من جديد مساءً.

أتوق شوقاً لقضاء مثل هذه الأوقات الجميلة مع العائلة في هذا الموسم من كل عام، الذي هو بمثابة عيد وطني سنوي للقرية.

(شذى رمضان، دوز)

مواضيع ذات صلة