ثُلث غذاء العالم يُهدر… هل نأكل أكثر أم نرمي أكثر؟
بوابة اقتصاد فلسطين
بينما تقف مئات الأسر في طوابير طويلة أملاً في الحصول على ما يسد رمقها من الغذاء، تُلقى أطنان من الطعام في مكبات النفايات في أجزاء أخرى من العالم، في مفارقة تعكس بوضوح التناقض الصارخ بين الوفرة والهدر، وتسلّط الضوء على أزمة عالمية عميقة لا تقتصر تداعياتها على الفقر والجوع فقط، بل تمتد إلى الاقتصاد والبيئة واستنزاف الموارد.
يُهدر العالم سنويًا نحو 1.3 مليار طن من الغذاء، أي ما يعادل ثلث الإنتاج العالمي، بحسب منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (الفاو). هذه الكمية الهائلة من الطعام المهدر كانت لتكفي لإطعام نحو 2 مليار شخص، أي ضعف عدد من يعانون من الجوع في العالم. وفي الوقت الذي تتفاقم فيه أزمات الغذاء وسوء التغذية، تتكبد الاقتصادات العالمية خسائر ضخمة تُقدّر بنحو 940 مليار دولار سنويًا نتيجة هذا الهدر، وفقًا لمؤشر هدر الطعام لعام 2024.
ويظهر تفاوت واضح في حجم الهدر بين الدول، إذ تُهدر الصين وحدها قرابة 108.7 مليون طن من الطعام سنويًا، تليها الهند بـ78.1 مليون طن. أما في الولايات المتحدة، فيأخذ الهدر بُعدًا أكثر خطورة، حيث يصل إلى 60 مليون طن سنويًا، أي ما يعادل 40% من إجمالي الإمدادات الغذائية في البلاد. ووفقًا للإحصاءات، يُهدر الفرد الأمريكي في المتوسط ما يعادل 325 رطلاً من الطعام سنويًا، وهو ما يعادل إلقاء 975 تفاحة متوسطة الحجم في القمامة لكل شخص كل عام.
ولا تقتصر آثار الهدر الغذائي في الولايات المتحدة على فقدان الطعام فحسب، بل تمتد إلى البيئة أيضًا، إذ يُعد الطعام أكبر مكون في مكبات النفايات، حيث يشكل 22% من إجمالي النفايات الصلبة البلدية. وتُقدّر قيمة الطعام المهدر هناك بنحو 218 مليار دولار سنويًا، أي ما يعادل 130 مليار وجبة كان بالإمكان توفيرها للمحتاجين.
تتنوع أسباب الهدر الغذائي بحسب مستوى تطور الدول، ففي البلدان النامية، يعود الهدر في الغالب إلى سوء التخزين والنقل، وضعف البنية التحتية ونقص وسائل التبريد، مما يؤدي إلى فساد كميات كبيرة من الغذاء قبل وصولها إلى الأسواق. أما في الدول المتقدمة، فيحدث الهدر غالبًا على مستوى سلاسل التوزيع والمستهلكين، حيث تُرفض كميات كبيرة من الطعام بسبب مواصفات جمالية صارمة، ويُتخلّص من المواد الغذائية القابلة للأكل عند اقتراب انتهاء صلاحيتها أو بسبب الإفراط في الشراء وسوء التخطيط للوجبات المنزلية.
كما يسهم الإنتاج المفرط في تفاقم الظاهرة، حيث يتم في بعض القطاعات إنتاج كميات تفوق الطلب المتوقع، ما يؤدي إلى التخلص من الفائض بدلاً من توزيعه أو تخزينه. وتشير البيانات إلى أن نحو 14% من الهدر يحدث في مرحلة الإنتاج، و15% أثناء النقل والتوزيع، و10% على مستوى البيع بالتجزئة، فيما تُهدر 40% من الأغذية في مرحلة الاستهلاك، سواء في المنازل أو المطاعم.
ويمتد تأثير الهدر الغذائي إلى البيئة، إذ يُسهم في انبعاث نحو 8 إلى 10% من الغازات الدفيئة على مستوى العالم، خاصة غاز الميثان الناتج عن تحلل الطعام في مكبات النفايات، وهو أشد ضررًا من ثاني أكسيد الكربون. كما يُهدر نحو ربع المياه العذبة عالميًا في إنتاج طعام لا يُستهلك في النهاية، في وقت تتزايد فيه الضغوط على الموارد المائية الشحيحة. وتؤدي بقايا الطعام المتحللة إلى تلوث التربة والمياه الجوفية، لا سيما في المناطق التي تفتقر إلى أنظمة إدارة نفايات فعّالة.
وعلى الصعيد الاقتصادي، يشكل هدر الطعام عبئًا ثقيلًا على سلاسل الإمداد الغذائي، حيث تؤدي الخسائر في الإنتاج والتوزيع إلى ارتفاع التكاليف التشغيلية دون مردود مالي، ما يضغط على المنتجين والمستهلكين ويضعف كفاءة النظم الغذائية.
وفي مواجهة هذه الظاهرة، تبرز الحاجة إلى تبني حلول متكاملة تعالج جذور المشكلة. ويشكّل تحسين البنية التحتية وتطوير تقنيات التخزين والتبريد في الدول النامية خطوة أولى نحو تقليل الهدر، إلى جانب توظيف الذكاء الاصطناعي في تحليل بيانات الاستهلاك والإنتاج لتحقيق توازن أدق بين العرض والطلب.
كما أن تعديل السياسات والتشريعات يمثل محورًا رئيسيًا في مكافحة الظاهرة، مثل سن قوانين تلزم المتاجر بالتبرع بفائض الطعام الصالح للأكل بدلاً من التخلص منه، وتشجيع إعادة تدوير النفايات العضوية واستخدامها في إنتاج الأسمدة أو الوقود الحيوي. ويُعد رفع الوعي المجتمعي عنصرًا لا غنى عنه، إذ يسهم تغيير العادات الاستهلاكية في الحد من الإفراط في الشراء وسوء التخطيط الغذائي، ويشجّع على تقبّل المنتجات غير المثالية شكليًا.
وتبرز نماذج ناجحة من مختلف أنحاء العالم في التصدي للهدر الغذائي، منها تجربة منظمة "فيدنغ أمريكا" في الولايات المتحدة، التي تجمع فائض الطعام من المتاجر وتعيد توزيعه على بنوك الغذاء، وتطبيق "تو غود تو غو" الذي يتيح للمستهلكين شراء الطعام الفائض من المطاعم بأسعار مخفضة. أما في فرنسا، فقد تم سن قانون يُجبر المتاجر الكبرى على التبرع بالطعام غير المباع، بينما أنشأت الدنمارك متاجر "وي فود" التي تبيع المنتجات قريبة الانتهاء بأسعار زهيدة. وفي كوريا الجنوبية، أدى فرض رسوم على كميات الطعام المهدر إلى خفض نسبته بنسبة 30% خلال سنوات قليلة.
هذه المبادرات تُظهر أن التغيير ممكن، وأن الهدر الغذائي ليس قدرًا محتومًا، بل يمكن مواجهته عبر تشريعات حازمة، وتقنيات ذكية، ووعي مجتمعي حقيقي. فكل لقمة يتم إنقاذها من سلة المهملات، تمثل خطوة نحو عالم أكثر عدالة واستدامة، يقدّر قيمة الغذاء ويحترم موارده.
ارقام