القمة العربية تتبنى خطة مصر لإعمار غزة: تحليل الأبعاد السياسية والاقتصادية
بوابة اقتصاد فلسطين
تبنت القمة العربية الطارئة في القاهرة الخطة المصرية لإعادة إعمار غزة وتم تقدير حجم الدمار الهائل الذي خلفته الحرب الأخيرة. وتطرح الخطة رؤية شاملة لمستقبل القطاع على مدى ثلاث سنوات، بميزانية تقدر بحوالي 53 مليار دولار ، متضمنة مشاريع طموحة لإعادة الإعمار والتنمية.
وتشمل الوثيقة المكونة من 112 صفحة خرائط وتصورات تفصيلية - بعضها عبر صور مولدة بالذكاء الاصطناعي - لمشاريع الإسكان والحدائق والمراكز الخدمية، إلى جانب إنشاء ميناء تجاري ومركز تكنولوجي وفنادق سياحية على شاطئ غزة.
وقد أكد الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي خلال القمة أن هذه الخطة تأتي في إطار رؤية عربية لإنقاذ غزة وإعادة إعمارها، في مواجهة أطروحات أخرى مثيرة للجدل كالمقترح الأميركي بتحويل غزة إلى “ريفيرا الشرق الأوسط” بعد إفراغها من سكانها
الأهداف الفعلية للخطة المصرية ومدى واقعيتها
تهدف الخطة المصرية قبل كل شيء إلى إعادة قطاع غزة إلى السلطة الفلسطينية كخطوة تمهيدية نحو استقرار سياسي وأمني في القطاع. فهي تنص على تشكيل لجنة فلسطينية مؤقتة تحت مظلة السلطة لمدة 6 أشهر لإدارة غزة والإشراف على إعادة الإعمار.
إلى جانب ذلك، تؤكد الخطة أهدافًا سياسية أوسع تتجاوز مجرد الإعمار المادي. فهي تربط بين إعادة إعمار غزة واستئناف مسار حل الدولتين، حيث تنص صراحة على المضي قدمًا نحو إقامة دولة فلسطينية مستقلة في غزة والضفة الغربية كجزء من الحل السياسي
كما تشدد على منع تهجير الفلسطينيين من القطاع، وضرورة بقائهم على أرضهم مع ضمان حقوقهم المشروعة.
هذا البند جوهري للخطة المصرية وجاء ردًا مباشرًا على المخاوف التي أثارتها دعوات البعض لإفراغ غزة من سكانها خلال الحرب. وتعكس الخطة أيضًا حرص القاهرة على حماية الأمن القومي المصري؛ إذ إن استقرار غزة تحت سلطة فلسطينية مسؤولة ومدعومة عربيًا يقلّل من خطر الفوضى الأمنية أو موجات نزوح جماعي إلى سيناء، وهو ما تخشاه مصر تاريخيًا.
رغم وجاهة هذه الأهداف، واقعية التنفيذ تبقى محل تساؤل. فاستبعاد حماس – التي تسيطر على غزة منذ 2007 ولديها قاعدة شعبية وقوة عسكرية – لن يكون بالأمر السهل، لا سيما وأن مسودة الخطة المصرية لا تذكر بوضوح آلية للتعامل مع رفض حماس التخلي عن سلاحها أو التنحي جانبًا.
الهدف المصري بطموحه السياسي والأمني الكبير يبدو صحيح الاتجاه، لكنه يواجه عقبات تطبيقية حقيقية تتطلب تنسيقًا غير مسبوق بين الفلسطينيين أنفسهم ومع الأطراف العربية وإسرائيل والقوى العالمية لضمان نجاحه.
مقارنة بين الرؤية المصرية ومقترح "ريفييرا الشرق الأوسط" الأمريكي
ظهرت الخطة المصرية في الأصل كاستجابة مباشرة لما اعتُبر طرحًا أميركيًا صادِمًا للتعامل مع غزة بعد الحرب. فقد أثار الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب غضبًا عربيًا واسعًا بإعلانه رغبته في أن “تسيطر الولايات المتحدة على غزة” وإعادة توطين سكانها خارجها وتحويلها إلى “ريفيرا الشرق الأوسط”
هذا التصور الذي تبناه ترامب يمثّل قطيعة مع السياسة الأميركية التقليدية القائمة على حل الدولتين، إذ يتجاهل حق الفلسطينيين في أرضهم ويسعى فعليًا إلى تفريغ غزة من أهلها وجعلها مشروعًا استثماريًا سياحيًا تحت إدارة خارجية. وقد قوبلت تلك الفكرة برفض قاطع من الفلسطينيين والعرب، حتى أن زعماء عربًا اعتبروها غير مقبولة أخلاقيًا وخطرًا على الاستقرار الإقليمي.
في المقابل، تتبنى الخطة المصرية منهجًا معاكسًا جوهريًا لمقترح “الريفيرا” الأميركي . فبدلًا من إقصاء الفلسطينيين، تجعلهم محور عملية الإعمار مع تأكيد بقائهم في أرضهم وعدم تهجيرهم. وتركز الرؤية المصرية على إعادة غزة إلى الشرعية الفلسطينية وتمكين مؤسساتها المحلية، في حين كان مقترح ترامب يتحدث عن وضع غزة تحت إدارة أميركية مباشرة أو دولية دون أي دور أساسي للفلسطينيين. كذلك تربط خطة القاهرة إعمار غزة بحل سياسي أشمل يضمن حقوق الفلسطينيين الوطنية، بينما تجاهل التصور الأميركي أية أفق سيادي للفلسطينيين مكتفيًا بالوعود الاقتصادية. حتى من حيث نمط التنمية، تتضمن الخطة المصرية مشاريع بنية تحتية حيوية كالميناء والتكنولوجيا والإسكان.
يمكن القول إن الفارق الأبرز يكمن في نظرة كل رؤية إلى سكان غزة: الخطة المصرية تنطلق من أنهم أصحاب حق يجب أن يُمكَّنوا من إعمار أرضهم والعيش بكرامة فيها، فيما رأى المقترح الأميركي سكان غزة عقبة أمنية ينبغي إزاحتها لاستثمار المكان. ولعل تبنّي القمة العربية لخطة مصر جاء لإيصال رسالة واضحة بأن الخيار العربي هو إعمار غزة مع أهلها وليس بدونهم. وحتى على الصعيد الدولي، تبدو الرؤية المصرية أكثر قابلية لكسب التأييد، فهي تقترب من المرجعيات الدولية (حل الدولتين، قرارات الأمم المتحدة) بدلًا من خرقها.
أما فكرة “غزة الريفييرا” التي طرحها ترامب فبدت معزولة، ولم تجد صدى يُذكر لدى أي طرف دولي رئيسي بسبب استحالة تطبيقها عمليًا ورفضها أخلاقيًا. وهكذا نجحت خطة مصر في طرح بديل عقلاني وإنساني مقابل المقترح الأميركي، لتعيد الحوار نحو إعمار يحترم حقوق الشعب الفلسطيني بدلًا من هندسة ديمغرافية قسرية.
التمويل المقترح بقيمة 53 مليار دولار وتحديات الإطار الزمني
تواجه الخطة المصرية تحديًا محوريًا في تأمين التمويل الضخم اللازم وتحويله إلى واقع ضمن جدول زمني طموح مدته 3 سنوات. تقدر تكلفة تنفيذ مشاريع الإعمار والتعافي بنحو 53 مليار دولار
وفق وثيقة الخطة، وهو رقم يفوق بكثير ما شهدته جهود إعمار سابقة في غزة. هذا الرقم لم يأتِ اعتباطًا؛ فهو يقارب تقديرات الأمم المتحدة لأضرار الحرب الأخيرة وما تتطلبه معالجتها.
ومع ضخامة المبلغ، يُطرح سؤال: من سيموّل وكيف؟ خاصة وأن مسودة الخطة نفسها لم تحدد الجهات الممولة على نحو واضح. البيان الختامي للقمة العربية دعا المجتمع الدولي والمؤسسات المالية لتقديم دعم سريع للخطة، ما يعني التعويل على مانحين دوليين وعرب للمساهمة. وتشير تسريبات إلى اقتراح تشكيل صندوق دولي لهذا الغرض وعقد مؤتمرات مانحين لحشد الموارد.
حتى الآن، لم تصدر التزامات مالية ملموسة بحجم هذه الخطة. لكن مصادر دبلوماسية قدّرت أن على الدول الخليجية والعربية الثرية تأمين ما لا يقل عن 20 مليار دولار كمرحلة أولى عاجلة، نظرًا لقدرتها المالية ودورها الإقليمي. ومن الواضح أن دول الخليج ستكون لاعبًا رئيسيًا في التمويل إن أرادت إنجاح الخطة؛ فالسعودية وقطر والإمارات، وغيرها، تملك فوائض مالية كبيرة ويمكن أن تقود الجهد المالي. بيد أن استعداد هذه الدول مرتبط بالتطورات الميدانية والسياسية.
على صعيد الإطار الزمني، تتطلع الخطة إلى إنجاز مراحل كبيرة من الإعمار خلال ثلاث سنوات، وهو جدول زمني شديد التفاؤل قياسًا بحجم الدمار وحالة الاقتصاد في غزة. فقد دُمّر جزء كبير من البنية التحتية كليًا أو جزئيًا خلال الحرب، وإعادة بنائها بهذا الوقت القياسي تتطلب توفير مواد بناء ومعدات بكميات هائلة وتدفق مستمر عبر المعابر. في هذا السياق، بدأت مصر بالفعل اتخاذ خطوات ميدانية عاجلة: أرسلت قوافل من الجرافات والحفّارات والشاحنات عبر معبر رفح للمساهمة في إزالة الأنقاض وتمهيد الأرض لإعادة البناء.
وقد اصطفت عشرات الآليات المصرية المزودة بالأعلام على الحدود ودخلت غزة مع استمرار وقف إطلاق النار، في مشهد يؤكد جدية القاهرة في إطلاق ورشة الإعمار فورًا.
آليات مصرية ثقيلة تدخل قطاع غزة للمساعدة في إزالة الركام وفتح الطرق عقب نجاح القاهرة في الضغط على إسرائيل للسماح بمرور معدات الإعمار. ورغم هذه البداية المشجعة، يبقى الحفاظ على وتيرة سريعة للإعمار مرهونًا باستمرار الاستقرار الأمني وعدم اندلاع جولة قتال جديدة تعرقل الجهود. كذلك سيتطلب الأمر كفاءة عالية في إدارة الأموال والمشاريع لتجنب التأخير والفساد، خاصة مع ضخامة المبالغ المرصودة. إن سابقات إعمار غزة بعد حروب 2009 و2014 و2021 شهدت تعثرات وتأخيرات كبيرة بسبب البطء في وصول الأموال أو القيود الإسرائيلية على إدخال المواد، مما يجعل الالتزام بثلاث سنوات هدفًا صعبًا ما لم تُذلَّل هذه العقبات بشكل غير مسبوق.
ردود الفعل العربية والدولية وإمكانية تحقيق توافق عالمي
حظيت الخطة المصرية منذ الإعلان عنها بدعم عربي جماعي تجلى في تبنّي القمة العربية لها بالإجماع. فالدول العربية وجدت في الرؤية المصرية أرضية مشتركة للتعامل مع كارثة غزة بعيدًا عن الخيارات القصوى غير المقبولة. الجانب الفلسطيني الرسمي ممثلًا بالسلطة رحّب بحرارة بالمبادرة المصرية، حيث أعلن الرئيس محمود عباس تأييده للخطة ودعا حتى الإدارة الأميركية إلى دعمها كونها لا تتضمن تهجير سكان القطاع.
بالنسبة للرئيس محمود عباس، الذي شارك في القمة بالقاهرة، تمثل هذه الخطة فرصة لعودة السلطة إلى غزة وتعزيز مشروع الدولة الفلسطينية بدل واقع الانقسام. في المقابل، رفضت حركة حماس أي ترتيبات يتم فرضها دون مشاورة الفلسطينيين. ونقلت وكالة "رويترز" عن أحد قادة حماس قوله صراحة إن الحركة ترفض وجود أي إدارة غير فلسطينية أو قوات أجنبية على أرض غزة، في إشارة إلى معارضة البند المتعلق بالقوة الدولية والوصاية المؤقتة. ورغم لهجة الرفض الحادة هذه، تدرك حماس أنها خرجت منهكة من الحرب الأخيرة وربما وجدت نفسها معزولة عربيًا، مما قد يدفعها إما لتقديم تنازلات تحت الضغط أو لعرقلة الخطة عبر تأليب الرأي العام في غزة ضدها.
على الصعيد الدولي، تسعى مصر لحشد توافق عالمي قدر الإمكان خلف خطتها. وقد حازت الخطوة المصرية على ترحيب مبدئي حذر من القوى الدولية الفاعلة. الدول الأوروبية والأمم المتحدة أعربت عن دعمها لأي جهد يضمن وقفًا دائمًا لإطلاق النار وإغاثة عاجلة وإعمارًا طويل الأمد في إطار احترام حقوق الفلسطينيين. ومن المرجح أن تجد الخطة المصرية قبولًا لدى الاتحاد الأوروبي تحديدًا، لأنها تنسجم مع رؤيته بضرورة الجمع بين الإعمار والحل السياسي (حل الدولتين) وعدم تجاوز السلطة الفلسطينية. الولايات المتحدة من جهتها موقفها معقّد بسبب تغير الإدارة المحتمل في واشنطن. فإدارة بايدن (إن بقيت) ستؤيد بالتأكيد إعادة إعمار غزة ودعم السلطة الفلسطينية، لكنها قد تتحفظ على بعض تفاصيل الخطة كمشاركة أطراف دولية كبرى مثل الصين وروسيا في الإشراف، أو نشر قوات دولية قد تشمل دولًا لا تربطها علاقات مع إسرائيل. أما إدارة ترامب العائدة للواجهة، فقد أشاد متحدث باسم مجلس الأمن القومي الأميركي بـ"جرأة رؤية" ترامب لغزة وزعم بأنها سرعت تحرك العرب لحل الأزمة، لكنه أضاف أن الرئيس الأميركي يرحب بأفكار الشركاء العرب المطروحة. هذا التصريح يشير إلى رغبة واشنطن في عدم الظهور كمعارض للخطة المصرية، مع التمسك بأن طرح ترامب كان دافعًا لها. بالتالي يمكن توقع انخراط أميركي مشروط: دعم مالي ولوجستي للإعمار شريطة التأكد من تهميش حماس وضمان أمن إسرائيل.
تبقى إسرائيل عاملاً لا غنى عن موافقته الضمنية لنجاح أي ترتيبات في غزة. فعلى الرغم من أن إسرائيل ليست طرفًا في القمة العربية، إلا أن أي خطة إعمار وحكم في القطاع ستتأثر بموقف تل أبيب. إسرائيل رسميًا التزمت الصمت حيال الخطة المصرية، لكن موافقتها تعتبر حاسمة لضمان عدم قيامها مستقبلاً بتدمير ما يُبنى من جديد.
من الوارد أن إسرائيل سترحّب بتولّي جهة أخرى مسؤولية غزة أمنياً وإدارياً ما دامت حماس خارج اللعبة، وهذا ما يوفره المقترح المصري نظريًا. إلا أنها قد تتحفظ على وجود قوات دولية دائمة على حدودها الجنوبية، أو على منح تسهيلات كبيرة في المعابر والميناء دون ترتيبات أمنية صارمة. هنا سيكون دور واشنطن مؤثرًا في إقناع إسرائيل بمنح الفرصة للخطة المصرية، خاصة وأن البديل – وفق رؤية بعض المتشددين في إسرائيل – كان سيء السمعة دوليًا (تهجير سكان غزة). في الوقت نفسه، روسيا والصين تبديان تأييدًا لأي حل يقوده العرب ويتوافق مع الشرعية الدولية، ومن المستبعد أن تعارضا الخطة في مجلس الأمن طالما تحفظ حقوق الفلسطينيين ولا تخل بتوازنات القوى. إجمالًا، يبدو أن هناك أرضية مشتركة يمكن البناء عليها دوليًا: الجميع يريد تجنب عودة الحرب والفوضى في غزة وقبول بدور أكبر للسلطة الفلسطينية هناك. التحدي هو تنسيق المصالح وضمان التعهدات: تعهد أمني لإسرائيل بأن غزة لن تشكل تهديدًا، وتعهد اقتصادي للفلسطينيين بأن الحصار سيفك وتحصل نهضة حقيقية، وتعهد سياسي للعرب بأن القضية الفلسطينية لن تُهمَّش في غمرة الإعمار.
التداعيات المحتملة على مستقبل قطاع غزة سياسيًا واقتصاديًا
إذا كُتب لهذه الخطة أن تُنفَّذ بنجاح، فإن مستقبل قطاع غزة قد يدخل مسارًا جديدًا تمامًا على الصعيدين السياسي والاقتصادي. فعلى الصعيد السياسي، سنكون أمام إعادة تشكيل للحكم في غزة: إدارة مدنية مؤقتة تحت إشراف السلطة ودعم دولي تحل محل حكم حماس المستمر منذ 18 عامًا. هذا التحول يعني إنهاء حقبة الانقسام الداخلي بين الضفة وغزة، وربما تمهيد الطريق أمام إجراء انتخابات فلسطينية عامة كما ألمح الرئيس عباس
عودة غزة إلى الشرعية الفلسطينية ستعزز الموقف التفاوضي الفلسطيني ككل، وقد تفتح الباب أمام استئناف مفاوضات السلام المتوقفة على أساس حل الدولتين، خاصة وأن الخطة المصرية تجعل هذا الهدف جزءًا لا يتجزأ من رؤيتها. لكن سياسيًا أيضًا، يبقى نجاح الترتيبات مرهونًا بقبول أهل غزة أنفسهم للنظام الجديد.
من جانب آخر، التواجد الدولي (قوات حفظ سلام وإشراف متعدد الأطراف) سيشكل سابقة في الأراضي الفلسطينية. إيجابيًا، قد يوفر ذلك ضمانة أمنية مانعة لتجدد القتال، ويطمئن المانحين بأن استثمارات الإعمار مصونة. لكنه قد يخلق أيضًا واقع الوصاية المؤقتة على غزة، مما يثير تساؤلات حول السيادة. ينبغي أن يقترن أي وجود دولي بخطة زمنية واضحة للخروج، وإلا فإنه على المدى الطويل قد يغذي حساسيات لدى الفلسطينيين الذين خبروا تجارب الاحتلال ويرفضون أي انتقاص من سيادتهم. لذلك تصر الخطة على أن يكون أي تواجد دولي في سياق دعم إقامة الدولة الفلسطينية، أي كجسر نحو السيادة وليس بديلاً عنها.
اقتصاديًا، ستكون غزة أكبر مستفيد من تنفيذ الخطة حرفيًا. فالقطاع عانى لسنوات من حصار أنهك اقتصاده ودمّر بنيته التحتية الأساسية. ضخ 53 مليار دولار خلال عدة سنوات سيؤدي إلى انتعاش اقتصادي غير مسبوق في غزة: إعادة بناء عشرات آلاف المنازل والمرافق سيخلق فرص عمل ضخمة ويحرك عجلة الاقتصاد المحلي. إنشاء ميناء حديث يعني فتح شريان تجاري حيوي يخفف الاعتماد على الموانئ الإسرائيلية ويتيح الاستيراد والتصدير بحرية نسبية.
كما أن إقامة منطقة تكنولوجية وفنادق وشبكة مرافق متطورة سيجذب استثمارات خارجية وربما يشجع عودة رجال أعمال من الشتات الفلسطيني للمساهمة في مشاريع بالقطاع. على المدى البعيد، يمكن لغزة – إن استتب الأمن – أن تتحول إلى مركز اقتصادي واعد على البحر المتوسط، خاصة بموقعها الاستراتيجي بين آسيا وإفريقيا وقربها من الأسواق الأوروبية. وقد تصبح الوجهة البحرية الرئيسية للتجارة الفلسطينية حتى للضفة الغربية إذا أمكن ربط المنطقتين بممر آمن في إطار الحل النهائي.
مع ذلك، هناك محاذير اقتصادية يجب التنبه لها. فأي انتعاش اقتصادي سيظل هشًا ما لم يتم رفع الحصار بالكامل عن غزة وضمان حرية حركة الأفراد والبضائع من وإلى القطاع. الخطة المصرية تلمحت إلى ضرورة ذلك عبر الحديث عن تسهيل مرور المساعدات وفتح الطرق، لكن ترجمة هذا إلى واقع تستوجب اتفاقات مع إسرائيل على المعابر البحرية والبرية. وكذلك، ينبغي توظيف الأموال بطريقة مدروسة لتحقيق تنمية مستدامة وليس مجرد إعادة إعمار مؤقتة؛ أي الاستثمار في قطاعات منتجة (كالصناعة والزراعة والتكنولوجيا) إلى جانب البناء العمراني، لضمان أن اقتصاد غزة يمكنه الوقوف على قدميه بعد انتهاء مرحلة الدعم المكثف. أخيرًا، المتابعة الدولية والإقليمية حاسمة: فالمشاريع الكبرى قد تستغرق فعليًا أكثر من ثلاث سنوات، لذا يجب أن يستمر الالتزام والدعم لما بعد الإطار الزمني المعلن كي لا تتعثر الخطة في منتصف الطريق.
في المحصلة، تمثل الخطة المصرية لإعمار غزة نقطة تحول محتملة في مسار القطاع والقضية الفلسطينية عمومًا. فهي ليست مجرد مشروع هندسي اقتصادي، بل رؤية سياسية شاملة لإعادة غزة إلى الشرعية وإلى الحياة الطبيعية، ووضعها على سكة التنمية والسلام بعد سنوات الحرب والحصار. نجاح هذه الرؤية يعتمد على مدى القدرة على حشد الموارد والإرادة لتحقيقها، وعلى مدى تعاون جميع الأطراف المعنية وتغليبهم مصلحة السلام والاستقرار. فإن توافرت هذه الشروط، قد نشهد ولادة غزة جديدة خلال السنوات القليلة المقبلة – غزة تنفض عن نفسها ركام الحرب وتنطلق نحو مستقبل أكثر إشراقًا لأهلها، ضمن دولة فلسطينية مستقلة مزدهرة. أما إن تعثرت الخطة وسط العقبات، فسيبقى مستقبل القطاع رهينة المجهول، بين دوامة الإعمار والهدم وتنافس الرؤى المتضاربة. وختامًا، يبدو الدور المصري اليوم مفصليًا في ترجيح كفة المستقبل الإيجابي لغزة، عبر إعادة صياغة المشهد بما يخدم تطلعات الفلسطينيين المشروعة ويجنبهم سيناريوهات كارثية كالتشريد أو استمرار المعاناة بلا نهاية منظورة. المصادر:
reuters.com، egyptindependent.com، وأخرى