المناطق الصناعية الإسرائيلية في الضفة الغربية: اقتصاد تحت الحصار واستغلال ممنهج
بوابة اقتصاد فلسطين
بينما تمثل المناطق الصناعية في الدول المستقلة محركًا للنمو الاقتصادي وتوفير فرص العمل، تأخذ المناطق الصناعية الإسرائيلية في الضفة الغربية بعدًا آخر، إذ تتحول إلى أداة استيطانية لفرض السيطرة الاقتصادية على الفلسطينيين، ونهب الموارد، وعرقلة التنمية المحلية.
يوجد في الضفة الغربية 35 منطقة صناعية إسرائيلية، جميعها مقامة في المناطق المصنفة "ج"، حيث تخضع للسيطرة الإسرائيلية الكاملة، وتُستخدم كوسيلة لتعزيز الاستيطان وتحقيق مكاسب اقتصادية على حساب الفلسطينيين. من خلال مجموعة واسعة من الامتيازات الحكومية والتسهيلات المالية، أصبحت هذه المناطق جزءًا من استراتيجية إسرائيلية تستهدف إضعاف الاقتصاد الفلسطيني وربطه قسرًا بالاقتصاد الإسرائيلي.
لكن، ما الذي تعنيه هذه المناطق حقًا للاقتصاد الفلسطيني؟ كيف تؤثر على العمالة، والتجارة، والبيئة، وحتى على مستقبل الاستثمار في فلسطين؟
الاقتصاد الفلسطيني في قبضة الاستيطان
مناطق صناعية بأولوية وطنية إسرائيلية
تحظى المناطق الصناعية الإسرائيلية بدعم حكومي واسع النطاق، حيث يتم تصنيفها كمناطق ذات أولوية وطنية، مما يمنحها مزايا استثنائية تشمل منح مالية ومعونات حكومية، وإعفاءات ضريبية مغرية، قروض ميسرة للمستثمرين الإسرائيليين، إيجارات مخفضة لجذب الشركات ورؤوس الأموال.
كل هذه الحوافز تهدف إلى جعل المستوطنات الصناعية جذابة للشركات الإسرائيلية والمستثمرين الدوليين، بل وحتى لبعض المستثمرين الفلسطينيين، ما يعزز الهيمنة الاقتصادية الإسرائيلية على حساب التنمية الفلسطينية.
العمالة الفلسطينية: خيار اضطراري لا بديل عنه
قبل الحرب الأخيرة، كان ما يقارب 17 ألف فلسطيني يعملون في هذه المناطق الصناعية، موزعين على قطاعات مختلفة مثل التصنيع والصناعات التحويلية، البناء والإنشاءات، الخدمات اللوجستية والتخزين.
ورغم أن هذه المناطق توفر فرص عمل للفلسطينيين، إلا أنها ليست فرصًا عادلة أو مستدامة، حيث يجد العمال أنفسهم مضطرين للقبول بها بسبب انعدام البدائل داخل الاقتصاد الفلسطيني الذي يعاني من قيود إسرائيلية مشددة تمنع نموه، الطبيعي.
رواتب متدنية، بيئة عمل غير آمنة، وانعدام الحقوق النقابية هي العوامل التي تجعل العمل في هذه المناطق استغلالًا ممنهجًا للعمالة الفلسطينية بدلاً من أن يكون فرصة اقتصادية حقيقية.
التلوث الصناعي: اقتصاد ملوث وصحة مهددة
تمثل المصانع الإسرائيلية في الضفة الغربية بؤرًا خطيرة للتلوث البيئي، حيث تؤدي انبعاثاتها الصناعية إلى تلوث الهواء بشكل كبير، ما يتسبب في زيادة معدلات الأمراض التنفسية وانتشار حالات السرطان في العديد من المناطق الفلسطينية، في ظل غياب إجراءات رقابية فعالة تحد من هذه المخاطر. ولم يتوقف الأمر عند تلوث الهواء، بل يمتد إلى المياه، حيث تتسرب النفايات الصناعية إلى مصادر المياه الجوفية، مما يشكل تهديدًا مباشرًا للأمن المائي والصحي للمجتمعات الفلسطينية القريبة، ويؤثر سلبًا على جودة المياه المستخدمة للشرب والري، ما يفاقم الأوضاع البيئية والصحية في المنطقة.
في المقابل، تحظر إسرائيل إقامة العديد من المصانع الملوثة داخل أراضيها، وتنقلها إلى الضفة الغربية، ما يجعلها ساحة لتجارب اقتصادية على حساب صحة الفلسطينيين وبيئتهم.
الاستثمارات الفلسطينية في المستوطنات: رهينة الواقع المفروض
تشير التقديرات إلى أن إجمالي رؤوس الأموال الفلسطينية المستثمرة في إسرائيل ومستوطناتها يتراوح بين 2.23 مليار دولار و3.78 مليار دولار.
لكن لماذا يضطر بعض المستثمرين الفلسطينيين إلى توجيه أموالهم نحو المناطق الصناعية الإسرائيلية بدلاً من الاستثمار في الاقتصاد المحلي؟ يعود ذلك إلى مجموعة من العوامل، أبرزها القيود الإسرائيلية الصارمة على إنشاء وتطوير المصانع في الضفة الغربية، حيث تواجه المشاريع الفلسطينية عراقيل بيروقراطية معقدة، ورفضًا متكررًا لتصاريح البناء، ما يجعل الاستثمار المحلي محفوفًا بالمخاطر. في المقابل، تقدم المناطق الصناعية الإسرائيلية تسهيلات مالية مغرية تشمل الإعفاءات الضريبية والقروض الميسرة، مما يجعلها خيارًا أكثر جاذبية من الناحية الاقتصادية. إضافة إلى ذلك، فإن البنية التحتية في هذه المناطق أكثر تطورًا مقارنة بالمناطق الصناعية الفلسطينية التي تعاني من نقص الخدمات الأساسية مثل الكهرباء والمياه وشبكات الطرق، ما يرفع تكاليف الإنتاج المحلي ويحد من قدرته التنافسية، فيجد المستثمر الفلسطيني نفسه أمام خيار صعب بين مواجهة التحديات الداخلية أو الاستفادة من التسهيلات الإسرائيلية رغم تداعياتها السياسية والاقتصادية
وبالتالي، تجد بعض الشركات الفلسطينية نفسها عالقة بين خيارين أحلاهما مر، إما الاستثمار في مناطق صناعية إسرائيلية لتجنب التعقيدات والمعيقات المفروضة داخل الضفة. أو مواجهة عقبات لا تنتهي لإطلاق مشاريع في بيئة تفتقر إلى الدعم والتسهيلات.
عرقلة التجارة الفلسطينية: تضييق مستمر وشبكة معقدة من القيود
لم تكتف إسرائيل بجذب رؤوس الأموال الفلسطينية نحو مستوطناتها الصناعية، بل عملت أيضًا على تحجيم التجارة الفلسطينية عبر إجراءات ممنهجة:
تقطيع أوصال الضفة الغربية من خلال المستوطنات وشبكات الطرق الالتفافية، مما يزيد من تكاليف النقل والتوزيع.
نقاط التفتيش والقيود على الحركة، مما يجبر التجار على اللجوء إلى طرق أطول وأكثر تكلفة لنقل بضائعهم.
فرض ضرائب ورسوم جمركية مرتفعة على الواردات والصادرات، ما يجعل الشركات الفلسطينية أقل قدرة على المنافسة.
كل هذه السياسات تهدف إلى إبقاء الاقتصاد الفلسطيني ضعيفًا وتابعًا للاقتصاد الإسرائيلي، ومنع أي محاولات فلسطينية حقيقية للانفكاك الاقتصادي.
تدمير الزراعة الفلسطينية: الأرض في مهب المصانع
تمثل المناطق الصناعية والمستوطنات تهديدًا مباشرًا للزراعة الفلسطينية، حيث تؤدي إلى مصادرة الأراضي الزراعية وتحويلها إلى مناطق صناعية، مما يقلل من المساحات المزروعة. والتلوث البيئي الناجم عن المصانع، والذي يضر بالمحاصيل الزراعية ويقلل من إنتاجيتها. واستنزاف الموارد الطبيعية، خاصة المياه الجوفية، مما يجعل الزراعة أكثر تكلفة وأقل استدامة.
هذه العوامل جعلت المزارعين الفلسطينيين في معركة مستمرة للحفاظ على أراضيهم وإنتاجهم الزراعي، في ظل تزايد الضغوط الاقتصادية والبيئية.
اقتصاد تحت الحصار واستغلال بلا نهاية
تمثل المناطق الصناعية الإسرائيلية أداة مركزية في منظومة الاحتلال، حيث لا تقتصر على كونها مشاريع اقتصادية، بل تُستخدم كوسيلة لفرض سيطرة اقتصادية شاملة على الفلسطينيين، ومنع أي تطور اقتصادي مستقل.
فمن خلال استغلال العمالة، وتلويث البيئة، وجذب الاستثمارات الفلسطينية، وعرقلة التجارة، وتدمير الزراعة، ترسّخ إسرائيل واقعًا اقتصاديًا مشوهًا يُبقي الفلسطينيين في حالة ارتهان اقتصادي دائم.
في ظل هذا المشهد، يبقى السؤال مطروحًا: هل يمكن للفلسطينيين بناء اقتصاد مستقل في ظل هذه الظروف؟ وهل هناك استراتيجيات فاعلة لمواجهة هذا الاستغلال الاقتصادي الممنهج؟
الإجابة تكمن في ضرورة تطوير سياسات اقتصادية وطنية تهدف إلى تقليل الاعتماد على المستوطنات والمناطق الصناعية الإسرائيلية، وتعزيز الإنتاج المحلي، ودعم المناطق الصناعية الفلسطينية لمنافسة البدائل المفروضة قسرًا.
لكن، حتى يتحقق ذلك، يبقى الاقتصاد الفلسطيني رهينة الحصار والاستغلال الممنهج.
المصدر: وليد حباس وجمانة جنازرة- ماس