على أرصفة الانتظار: عمال فلسطين في إسرائيل.. بين التهميش ومرارة الخذلان
على بوابات حديدية، وأمام بدل عسكرية وبنادق موجهة، يقف العمال الفلسطينيون كل صباح في انتظار فرصة عمل تخفف عنهم ثقل الأيام. جباههم المغمورة بالعرق تحكي صلاة صامتة وأملًا لا يموت، حتى وهم يواجهون أقدارًا أشد قسوة من الحجارة التي اعتادوا حملها. ومع تصاعد العدوان الإسرائيلي، وجد هؤلاء العمال أنفسهم اليوم بلا عمل، بلا أفق، وكأن الأرض ضاقت بهم والسماء نسيت أسماءهم، وحكومة تركتهم يواجهون مصيرهم وحدهم.
لكن القصة ليست مجرد فقدان وظيفة؛ إنها فصل جديد في معركة الوجود. مع إغلاق سوق العمل الإسرائيلي، خسر الاقتصاد الفلسطيني نحو 3 مليارات دولار سنويًا، أي ما يعادل 15% من الدخل القومي. أضف الى ذلك الضغط النفسي الذي يعيشه العمال الذين يدفعون ثمنًا أكبر، إثر مشاعر الاغتراب القاسية التي تُرافق العمل تحت ظروف الإذلال والاستغلال. اليوم، يواجه هؤلاء العمال مصيرًا أشد قسوة من الحجارة التي اعتادوا حملها.
نماذج قهر اقتصادي
على مر التاريخ، شكّلت العلاقة بين الشعوب المحتلة وأعدائها نمطًا متكررًا من التناقضات الاقتصادية والاجتماعية. كان العمال يُجبرون على العمل لدى خصومهم لتأمين قوت يومهم، بينما يساهمون في الوقت ذاته في تعزيز اقتصاد الجهة المحتلة. هذه الدينامية، المليئة بالمفارقات الموجعة، تظهر بوضوح في حالة العمال الفلسطينيين في إسرائيل، كما في تجارب شعوب أخرى عانت الاحتلال.
في الحالة الفلسطينية، يتلاعب الاحتلال الإسرائيلي بورقة العمالة كوسيلة للعقاب الجماعي، عبر سحب تصاريح العمل أو فرض قيود جديدة عند أي تصعيد سياسي أو أمني. وفي الوقت ذاته، يعيش العمال الفلسطينيون صراعات داخلية من المشاعر المتناقضة، بين الحاجة للعمل تحت ظروف الاستغلال والإذلال، وبين إدراكهم أنهم يُسهمون في اقتصاد دولة تحتل أراضيهم وتنتهك حقوقهم. ورغم ذلك، تبقى العمالة الفلسطينية في إسرائيل جزءًا حيويًا من الاقتصاد الفلسطيني، حيث تشكل 20% من إجمالي القوة العاملة الفلسطينية.
ضيق الحال الاقتصادي الذي فرضه الاحتلال الإسرائيلي على السوق الفلسطيني لم يترك أمام العمال خيارًا. باتوا مجبرين على العمل تحت ظروف لا إنسانية كوقود للصمود على أرضهم، في تناقض مؤلم يحاكي حال عمال بولندا في الحرب العالمية الثانية، حين أُجبروا على العمل القسري في ألمانيا في المصانع والمزارع لصالح آلة حرب تدمر بلادهم.
وكما كان الحال مع العمال الكوريين أثناء احتلال اليابان لكوريا بين عامي 1910 و1945، أُجبر الآلاف على العمل في المناجم والمصانع تحت ظروف قاسية واستغلالية، ليكونوا أداة لاستنزاف موارد شعبهم ودعم اقتصاد المحتل. بقي هؤلاء العمال في حالة من الاغتراب والقهر، بينما غُيّبت بلادهم في حالة من الفقر والتبعية.
نموذج فلسطيني معقد
في حين انتهت أشكال العبودية تلك بزوال الاحتلال في بولندا وكوريا، بقي العمال الفلسطينيون يعانون ذات المعاناة منذ عقود، في ظل صراع طويل الأمد. ظل العمال ورقة ضغط سياسي، يُستخدمون ما بين سحب التصاريح ومنع العمل أو التنقل، مما يزيد من اضطراب حياتهم واستقرارهم.
لعل ما يوجع العامل الفلسطيني أكثر أنه يعمل غالبًا في أراضٍ محتلة قريبة من قريته أو مدينته، في مشهد يزيد التناقض وضوحًا، مقارنة بحالات الشعوب الأخرى التي أجبرت على العمل في أراضٍ بعيدة. وعلى الرغم من وجود قواسم مشتركة بين العمال الفلسطينيين والشعوب الأخرى التي عانت القهر والاستغلال، إلا أن الحالة الفلسطينية أكثر تعقيدًا. إنهم أبطال حكاية شعب يعمل للحفاظ على حياته اليومية بلا أفق قريب، وسط ظروف ضبابية تجعل استقرارهم في مهب الريح.
إهمال وطني
منذ بداية الحظر الإسرائيلي على دخول العمال الفلسطينيين إلى إسرائيل عقب الحرب الأخيرة، لم تتخذ الحكومة أي خطوات عملية لتوفير بدائل تشغيل أو دعم مالي عاجل لهم. تُرك هؤلاء العمال وكأنهم لم يكونوا، على الرغم من أنهم يشكلون مصدر دخل رئيسي لعشرات الآلاف من الأسر الفلسطينية، ويساهمون بشكل كبير في دعم الاقتصاد الفلسطيني الهش.
أظهرت الحكومات الفلسطينية تقصيرًا واضحًا في دعم هذه الشريحة العمالية، خاصة في ظل الأزمات والتحديات المتزايدة. لم يتم وضع خطة استراتيجية للتعامل مع التداعيات الاقتصادية والاجتماعية الناتجة عن فقدانهم لمصادر رزقهم، مما دفعهم لمواجهة الفقر والبطالة بمفردهم.
التساؤل يطال المصارف والمؤسسات المدنية، عن دورها في إنشاء برامج تمويل ميسرة لدعم المشاريع الريادية والصغيرة التي تعزز الاعتماد على الذات وتفتح آفاق عمل جديدة. وعن دور القطاع الخاص في تبني مبادرات تشغيل مؤقتة تدمج العمل بسوق العمل مجددا.
تنسيق الجهود ليس مجرد خيار، انه ضرورة وطنية لتجاوز الأزمة وبناء اقتصاد أكثر مرونة واستقلالية. لم تكن العمال في اسرائيل يوما حلا للبطالة فلسطين، ولا يجب أن تكون كذلك، رغم الظروف السائدة، حيث يبقى الاعتماد على الإبداع والتنمية المستدامة بديلا ممكنا في ظل الانفتاح العالمي لأسواق العالم في ظل الرقمنة العالمية، كل ما يريده العامل هو حياة كريمة لا ترتبط بمزاج جندي احتلال على حاجز ما.
ما الحال إلا صورة لغياب رؤية وطنية شاملة لحماية هذه الطبقة الكادحة وتأمين شبكة أمان اقتصادية تضمن حقوقهم الأساسية في ظل الاحتلال. ومع ذلك، يبقى الأمل قائمًا بأن يتحول هذا التحدي إلى فرصة لإعادة بناء الاقتصاد الوطني الفلسطيني، بما يضمن الكرامة والاستقرار للعمال وللشعب بأكمله، فالأيدي التي تبني وطنًا لا تُكسر.
القضية لا يجب أن تكون مجرد أرقام اقتصادية تُفقد أو وظائف تضيع؛ إنها مسألة وجود. فبينما يغلق الاحتلال الأبواب أمام عمال فلسطين، تزداد الحاجة إلى أن نفتح نحن، كشعب وقيادة، نوافذ الأمل والإبداع لأبنائنا.