الرئيسية » أقلام اقتصادية »
 
26 تشرين الثاني 2024

تكدس الشيكل… أزمة خانقة تضع الاقتصاد الفلسطيني على المحك

بقلم: الدكتور هاشم ذويب
جامعة القدس

محدودية السياسة الاقتصادية في ظل القيود الإسرائيلية

في ظل الاحتلال الإسرائيلي، تواجه الحكومة الفلسطينية تحديات كبيرة في استخدام أدواتها المالية والنقدية لتحفيز الاقتصاد. غياب السيطرة على الحدود والمعابر التجارية، بالإضافة إلى القيود التي تفرضها إسرائيل على حركة الأموال، تجعل من الصعب تبني سياسات اقتصادية مستقلة وفعالة. هذه القيود تقيد قدرة السلطة الفلسطينية على إدارة الاقتصاد بشكل مرن، وتؤدي إلى تراكم الأزمات المالية بشكل مستمر.

تفاقمت هذه الأزمة مع توقف العمال الفلسطينيين في إسرائيل، وعدم انتظام دفع الرواتب للموظفين الحكوميين، مما أثر بشكل مباشر على القدرة الشرائية للمواطنين وأدى إلى زيادة العجز المالي. وفي هذا السياق، تواجه البنوك الفلسطينية أزمة هيكلية تتمثل في تكدس الشيكل، مما يعيق الاستفادة من الأموال الفائضة في تمويل مشاريع تعزز النمو الاقتصادي.

تكدس الشيكل… وأزمات متعددة تتفاقم

تعتبر مشكلة تكدس الشيكل في البنوك الفلسطينية واحدة من أبرز التحديات التي تعيق الاقتصاد الفلسطيني. حيث يتراكم فائض نقدي بالشيكل يتجاوز 20 مليار شيكل سنويًا في البنوك، نتيجة للقيود التي تفرضها إسرائيل على حركة الأموال إلى النظام المصرفي العالمي. هذا الوضع يشل قدرة البنوك على تمويل القطاعات الحيوية أو توفير تسهيلات مالية لتلبية احتياجات السوق الفلسطينية.

في السياق نفسه، توقف نحو 180,000 عامل فلسطيني عن العمل في إسرائيل، مما تسبب في خسارة سنوية تتجاوز 2.2 مليار دولار. وقد انعكس ذلك بشكل حاد على الاقتصاد الفلسطيني.

من جهة أخرى، تشكل أموال المقاصة، التي تمثل نحو 70% من إيرادات السلطة الفلسطينية، مصدرًا رئيسيًا للعجز المالي بسبب تأخيرها بشكل متكرر من الجانب الإسرائيلي. في عام 2023، بلغ حجم المستحقات التي لم تُصرف أكثر من 700 مليون دولار، ما جعل من الصعب على الحكومة دفع الرواتب بانتظام.

رؤية اقتصادية مستندة إلى تجارب دولية

في ظل استمرار الأزمات، يتزايد الضغط على الاقتصاد الفلسطيني، مما يتطلب حلولًا مبتكرة. ومن هذه الحلول إطلاق برنامجًا مشتركًا بين "سلطة النقد الفلسطينية" والبنوك المحلية والحكومة، يهدف إلى معالجة مشكلة تكدس الشيكل من خلال توجيه فائض الأموال لدعم القطاعات الحيوية، مع التركيز على تحفيز النشاط الاقتصادي المحلي.

آلية التنفيذ:

برامج قروض ميسرة: يتم توجيه فائض الشيكل المتراكم كقروض موجهة لدعم القطاعات الحيوية. ويكون هامش نسبة الفائدة قريب من الصفر، مع تحديد فترات سداد مريحة تمتد من 5 إلى 7 سنوات، وهي سياسة مشابهة لما تم تطبيقه في العديد من الدول التي واجهت تحديات اقتصادية مماثلة، مثل الهند وكوبا. علما أن هامش سعر الفائدة في فلسطين يتراوح بين 3.35% -3.68% وهو أعلى من المعدلات في الدول المتقدمة والتي لا يتجاوز في بعضها 1.5%.

دعم المشاريع الريادية: إضافة الى دعم القطاعات الحيوية، يمكن تخصيص برامج إقراض خاصة بهامش نسبة فائدة منخفض لدعم المشاريع الريادية التي تساهم في تنويع الاقتصاد الفلسطيني. هذه المشاريع يمكن أن تشمل إبتكارات تكنولوجية، شركات ناشئة في المجالات الزراعية والصناعية، والمشروعات التي تخلق فرص عمل جديدة.

دعم الطلبة في المؤسسات التعليمية: تقديم تمويل ميسرللرسوم الدراسية بهامش فائدة قريب من الصفر بالتنسيق مع المؤسسات التعليمية لمساعدة العدد المتزايد من الطلبة المتضررين خلال الأوضاع الاقتصادية الحالية، تمامًا كما فعلت كوبا أثناء الحصار الأمريكي.

تعزيز المشاريع الصغيرة والمتوسطة: استهداف الشركات الصغيرة والمتوسطة التي تمثل أكثر من 90% من الاقتصاد الفلسطيني، عبر قروض تصل إلى 100,000 شيكل لدعم استمراريتها في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة.

البنية التحتية المالية: تحسين استخدام أنظمة الدفع الإلكتروني وتقليل الاعتماد على النقد لتعزيز كفاءة النظام المالي المحلي، كما فعلت لبنان أثناء الحرب الأهلية.

التجارب الدولية في الظروف المشابهة

عدة دول واجهت ظروفًا اقتصادية مشابهة بسبب أزمات سياسية أو قيود اقتصادية، وتمكنت من تبني حلول مبتكرة لتعزيز اقتصاداتها، ومنها:

1. تجربة الهند مع فائض الروبية في كشمير (التسعينيات):

خلال الصراع في كشمير، عانت الهند من فائض نقدي محلي في الروبية بسبب القيود السياسية. قامت الحكومة بتطوير برامج تمويل موجهة لدعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة من خلال البنوك المحلية، مع تقديم قروض ميسرة للمشاريع الناشئة في الزراعة والصناعة الخفيفة، مما ساعد على امتصاص الفائض النقدي.

2. التجربة الكوبية في ظل الحصار الأمريكي:

 

بسبب الحصار الاقتصادي، واجهت كوبا شحًا في العملات الأجنبية، فاعتمدت على أنظمة تمويل محلية مع ربط العملة الوطنية بالمشاريع الإنتاجية، خاصة في الزراعة والتعليم، كما استثمرت في التعاون الدولي مع دول صديقة لتوفير الدعم اللوجستي والمالي.

3. تجربة لبنان أثناء الحرب الأهلية:

عانت البنوك اللبنانية من فائض في العملة المحلية خلال الحرب الأهلية، فتم إنشاء صناديق تمويل خاصة لدعم القطاعات الحيوية مثل التعليم والصحة، كما شجعت على توظيف الفائض النقدي في مشاريع بنية تحتية مستدامة.

4. التجربة الفيتنامية بعد حرب فيتنام:

بعد انتهاء الحرب، عانت فيتنام من أزمة اقتصادية كبيرة. ومع ذلك، تمكنت الحكومة من توجيه الموارد النقدية المحلية نحو مشاريع إعادة بناء البنية التحتية ودعم الزراعة والصناعة الصغيرة، مع تعاون واسع النطاق مع المنظمات الدولية للحصول على الدعم المالي والتقني.

كيف يمكن الاستفادة من هذه التجارب؟

من خلال دراسة التجارب الدولية، يمكن للسلطة الفلسطينية وسلطة النقد استلهام الآتي:

دعم القطاعات الإنتاجية: التركيز على دعم الزراعة والصناعات الصغيرة والمتوسطة كما فعلت الهند وفيتنام.

برامج قروض ميسرة: توجيه فائض الشيكل عبر قروض ميسرة بفائدة منخفضة كما حدث في الهند ولبنان.

التعاون مع منظمات دولية: الاستفادة من الدعم الدولي لتحقيق استدامة هذه البرامج، كما فعلت كوبا وفيتنام.

تعزيز البنية التحتية: توجيه الفائض النقدي في مشاريع محلية لتقوية الاقتصاد الداخلي.

الآثار المتوقعة للبرنامج:

1. تخفيف أزمة تكدس الشيكل: عبر استثمار الفائض النقدي في مشاريع تنموية تؤدي إلى تحسين الوضع الاقتصادي.

2. تحفيز النشاط الاقتصادي: دعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة من خلال قروض ميسرة.

3. تعزيز التعليم والخدمات العامة: دعم الطلبة والمؤسسات التعليمية التي تأثرت بالأزمة الاقتصادية.

4. استدامة تمويل القروض: ضمان استدامة التمويل من خلال تطوير برامج قروض مبتكرة تدعم الاقتصاد الفلسطيني على المدى الطويل.

5. تعزيز استخدام الأنظمة المالية الحديثة: لتقليل الاعتماد على النقد وتوسيع نطاق الاقتصاد الرقمي في فلسطين.

ختامًا

تستطيع السلطة الفلسطينية استلهام الكثير من التجارب الدولية الناجحة التي تمكنت من تجاوز أزمات اقتصادية مشابهة. من خلال توظيف الموارد المحلية مثل فائض الشيكل، بالتوازي مع تعاون دولي فعال، قد يكون بإمكان فلسطين تحقيق استقرار اقتصادي نسبي رغم التحديات الحالية.

هل تتفق مع ما جاء في هذا المقال؟