الاقتراض في زمن الحرب... التحديات وسبل التكيف
لا يزال العدوان “الإسرائيلي” الهمجي على قطاع غزة منذ السابع من أُكتوبر 2023 مستمراً حتى اللحظة، محدثاٌ كارثة إنسانية واقتصادية وتشوه بنيوي في اقتصاد الضفة الغربية وشلل كامل في اقتصاد قطاع غزة. حيث تشير التقديرات إلى انكماش حاد في الناتج المحلي الإجمالي في قطاع غزة خلال الربع الرابع 2023 بنسبة تجاوزت 80% وفي الضفة الغربية بنسبة %22، أدى ذلك إلى تراجع الناتج المحلي الإجمالي في فلسطين خلال الربع الرابع من العام 2023 بنسبة تصل إلى 33%.
إنّ الحديث عن الاقتصاد لا ينعزل عن هموم المجتمع الفلسطيني الذي يتعرض بكافة فئاته المجتمعية لتدمير ممنهج لأبسط مقومات حياة الفرد الفلسطيني، ولعل أكثر الفئات تأثراً بالتداعيات الاقتصادية للحرب هم الموظفين من القطاع العام والقطاع الخاص ذوي الدخل المحدود والعاملين في الداخل المحتل الذين فقد معظمهم القدرة على الوصول إلى أماكن عملهم نتيجة سياسة الإغلاق التي انتهجتها الحكومة الإسرائيلية.
ويبرز التحدي الأكبر لدى الفئات سابقة الذكر عندما يثقل كاهلهم بأقساط بنكية، أو شيكات دورية، أو غيرها من مصادر المديونية التي وضعت الأسر في مواجهة صعوبات مالية غير مسبوقة تتراوح بين تعثر السداد والضغط المالي وارتفاع تكاليف الاقتراض، مما يتطلب منهم ومن البنوك والجهات الحكومية ذات الصلة البحث عن حلول بديلة للتكيف مع الظروف الاقتصادية الصعبة.
القرض المجمع والموازنة المهترئة
لم تكن أزمة المقترضين وليدة اللحظة، حيث سبق العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة فرض حكومة الاحتلال عمليات قرصنة جائرة على أموال المقاصة التي تعد العصب الأساسي لإيرادات السلطة الفلسطينية، ووصل حجم الاقتطاع تحت بنود متعددة إلى قرابة 250 مليون شيكل شهريا من مجمل 700 إلى 800 مليون شيكل، والذي هو حجم أموال المقاصة الكلي والتي تغطي قرابة 70% من النفقات العامة للسلطة الفلسطينية. وعليه أجبرت السلطة الفلسطينية على دفع رواتب موظفيها منقوصة بنسب اقتطاعات مختلفة، مع العلم أن عدد المستفيدين من رواتب السلطة قرابة 250 ألف موظف ومتقاعد ومستفيد، بواقع أكثر من مليار و100 مليون شيكل شهريا.
تدرك الحكومة الفلسطينية أن الاختلال والعجز المزمن والبنيوي في الموازنة العامـة لا ينحصر بسبب اقتطاعات الحكومة الإسرائيلية من أموال المقاصة، بل يكمن الخلل في التضخـم غير المبرر للكادر الوظيفي، والتسرب المالي من الخزينة العامة، وتراجع حجم المنح والمساعدات منذ عام 2013. لذا أعلنت الحكومة في عام 2022 عـن خطتهـا لمعالجة ملـف الرواتـب والأجور عـن طريـق إعـادة النظـر في قانـون الخدمة المدنية دون المساس بحقـوق الموظفين في القطاع الحكومي. إلا أن الإجراء الوحيد الذي قامت به الحكومة هو صرف رواتب منقوصة للموظفين، بنسبة صرف وصلت إلى 65%، دون أن يقترن هذا الإجراء- الذي يفترض أن يكون مؤقتاً- بسياسات جادة من تقليل الفجوات مـا بـين رواتب الفئات العليا والدنيا في الوظائف المدنية والعسكرية، أو تصويب أوضاع أشباه الرواتـب.
ومع بلوغ الأزمة المالية ذروتها في نهاية عام 2023، ونتائج العدوان الكارثية على المستوى الحكومي، وتراجع نصيب الفرد من الناتج المحلي، وظهور حالة من الركود التضخمي تؤدي إلى تراجع في عجلة الدورة الاقتصادية، وقعت "سلطة النقد الفلسطينية"، وجمعية البنوك في فلسطين مع وزارة المالية قرضاً مجمعاً يهدف لمعالجة كافة القروض السابقة للحكومة، ولتمكينها من سداد بعض التزاماتها لموظفي القطاع العام حيث تم تسديد جزء كبير من الأقساط المستحقة إضافة الى توفير بعض السيولة لتسديد جزء من التزاماتها للموردين من القطاع الخاص. وصلت قيمة القرض إلى 388 مليون دولار أي ما يعادل 1.4 مليار شيكل، كما شمل الحصول على فترة سماح من البنوك تصل إلى 7 أشهر مقبلة، كما ستتمكن من تقليص قيمة القسط الشهري لمجمل قروضها إلى نحو 110 ملايين شيكل شهريا بدلا من 200-240 مليون شيكل، مما يمنح هامش سيولة للحكومة سيساعدها على تسديد جزء من التزاماتها سواء للبنوك أو للموظفين أو للقطاع الخاص.
الموظف العمومي: الحلقة الأضعف
لم تقتصر تأثيرات أزمة المقاصة على المالية العامة للسلطة الفلسطينية وقدرتها على الوفاء بالتزاماتها، وانما زادت من احتمالات عدم قدرة موظفي القطاع العام ومؤسسات القطاع الخاص المتعاقدة مع الحكومة على سداد أقساطهم البنكية. وقد ارتفع حجم الائتمان الممنوح لموظفي القطاع العام خلال العام 2023 بنحو 2.7% عما كان عليه في عام 2022، ليبلغ حوالي 1.8 مليار دولار مشكلاً نحو 17.1% من اجمالي المحفظة الائتمانية، كما تشكل التسهيلات الممنوحة لموظفي القطاع العام 82.8% من فاتورة الأجور والرواتب المستحقة، وحوالي 97.8% من الفاتورة المدفوعة فعلياً ونظراً لارتهان قدرة موظفي القطاع العام على سداد هذه القروض بقدرة الحكومة على الوفاء بالتزاماتها فقد أصدرت سلطة النقد تعليمات متتاليه تساعد المقترضين على معالجة آثار توقع الدخل أو تراجع حجم التدفقات النقدية بسبب الحرب وبما يحمي تصنيفاتهم الائتمانية.
كما برزت مؤخراً أزمة السيولة النقدية في قطاع غزة بسبب تدمير الاحتلال لعدد كبير من فروع البنوك العاملة في القطاع بالإضافة الى تدمير معظم الصرافات الاليه مما أدى الى عدم القدرة على توفير الخدمات المصرفية الأساسية، وامتناعه عن تزويد البنوك بالسيولة النقدية وتحديدا من عملتي الشيكل والدولار. كما تعذر فتح الكثير من فروع البنوك بسبب الظروف الميدانية القاهرة وانقطاع التيار الكهربائي والواقع الأمني مما خلق حالة من الفوضى والانتظار الطويل جدا على الدور لبعض أجهزة الصراف العاملة. أدى إلى ظهور شريحة من "تجار الحروب" التي استغلت أزمة السيولة التي عرضت الموظف الغزي لأبشع أشكال الاستغلال، حيث يتقاضون نسبة كبيرة عن كل راتب يتم سحبه تصل إلى 15%، مما يؤثر على قدرة الموظف الغزي على الاستفادة من راتبه الذي يقتطع منه أصلاً بسبب أزمة المقاصة، وتنخفض قدرته الشرائية الى أدنى مستوياتها أمام الأسعار الباهظة وغلاء المعيشة الفاحش في القطاع.
الشيكات المرتجعة: الأزمة "تحت السيطرة"
تعتبر ورقة الشيك مرآة للوضع الاقتصادي ومستوى الدورة الاقتصادية للدول، وفي فلسطين يعد الشيك أهم أداة للدفع غير النقدي، ويعكس حركة تداول الشيكات من عدد وقيمة الشيكات المقدمة للتقاص مستوى النشاط الاقتصادي، وبنفس الوقت يؤثر ارتفاع قيمة الشيكات المعادة على النظام النقدي الفلسطيني بشكل سلبي من حيث عرض النقد، ودوران النقود وعلى الاقتصاد ككل كون الشيكات هي أداه دفع غير نقدية ولكنها ضرورية في إتمام العمليات التجارية وتقليل استخدام النقد.
وأدى العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة إلى إبطاء عجلة الاقتصاد المحلي نتيجة تراجع أعمال غالبية المنشآت الصغيرة والمتوسطة، وفقدان بعض العاملين لوظائفهم، وبالتالي نتج عنها تذبذب في وفرة السيولة وعدم مقدرة هذه المؤسسات على الالتزام بالشيكات المسحوبة على حساباتهم وبالتالي ارتفاع نسبة الشيكات المرتجعة، حيث ارتفعت قيمة الشيكات المرتجعة في شهر اكتوبر 240% نسبة لقيمتها في شهر سبتمبر من نفس العام، حيث بلغت 240.8 مليون دولار، صعوداً من 97.7 مليون دولار في سبتمبر السابق له بالتزامن مع المخاوف من امتداد الحرب من غزة إلى الضفة. وبالتالي ارتفعت قيمة الشيكات المرتجعة من اجمالي قيمة الشيكات المقدمة للتقاص من 5.6% في سبتمبر إلى 11.3% في شهر أكتوبر.
ثم ما لبثت أن بدأت قيمة الشيكات المرتجعة بالانحسار نتيجة الابقاء على نظام مقاصة الشيكات دون تغيير مما حال دون تفاقم الظاهرة، وأتاح تداول السيولة المتاحة في شرايين الاقتصاد. وبالتالي انحسرت الأزمة حيث بلغ إجمالي قيمة الشيكات المعادة لعدم كفاية الرصيد 1.5 مليار دولار في عام 2023، وتم إعادة صرف ما قيمته 532 مليون دولار من إجمالي قيمة الشيكات المعادة خلال العام الماضي، وبالتالي بلغت نسبة الشيكات المعادة التي لا يتوفر بيانات بشأن آلية تسويتها بلغت العام الماضي قرابة مليار دولار، ما يمثل 4% من إجمالي قيمة الشيكات المتداولة وبما يقارب نسبتها في عام 2022.
تعليمات لتخفيف الأزمة
منذ بداية الحرب برزت العديد من التحديات الجديدة التي توجب على سلطة النقد التغيير من إجراءاتها بما يوائم بين ضمان سلامة واستمرارية عمل المؤسسات الخاضعة لرقابتها وإشرافها المباشر، والاستمرار في تقديم مختلف الخدمات المصرفية لجمهور المواطنين، ودعم مختلف الأنشطة والقطاعات الاقتصادية والمحافظة على استمراريتها وما بين توفير السيولة المطلوبة للتخفيف من آثار هذه الضغوط على الاقتصاد، وإبقائه في مسار التعافي.
لذ أصدرت سلطة النقد عدة تعليمات للتخفيف من الأزمة المالية منذ بدء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، وظهور أزمة السيولة التي تهدد الاقتصاد الوطني، وأزمة تعثر السداد للأقساط الشهرية التي تعرض لها الموظفين العمومين، وموظفي القطاع الخاص، وعمال الداخل المحتل. حيث هدفت التعليمات إلى حماية الموظف من تعثر السداد وشكلت سلطة النقد والنظام المصرفي صمام الأمام، ورافداً أساسياُ لمعالجة الاختلالات المالية الناتجة عن الاقتطاعات المتكررة والمتزايدة من إيرادات المقاصة وشح الدعم الخارجي.
من أهم التعليمات التي تم إصدارها خلال الحرب على غزة إتاحة سلفة على حساب الراتب للموظفين في القطاعين العام والخاص، يمكن للموظف من خلالها الحصول على سيولة، إلى حين ورود الراتب إلى حسابه، وبما يساعد الموظفين على تغطية التزاماتهم وشيكاتهم، ويساهم في الإبقاء على الدورة الاقتصادية في الوقت نفسه. وبما يتيح للمقترضين الحاليين، تأجيل عدد من الأقساط المستحقة أو المتوقع استحقاقها خلال الفترة القريبة القادمة، أو تخفيض قيمة القسط من خلال جدولة الدين أو من خلال الحصول على قرض مؤقت لسداد الأقساط المستحقة أو المتوقع استحقاقها
ما المطلوب للحل؟
لا شك أن تشابك خيوط أزمة القروض المتعثرة ومحاولة حلحلتها سيؤدي إلى أصول الأزمة التي تحمل في طياتها خلفية سياسية بحتة، لذا لا بد أن تكون جميع الجهود منصبة نحو الدعوة إلى الوقف الفوري لإطلاق النار وضمان حماية الأمم المتحدة للمدنيين في غزة. كما يجب الإصرار علـى تحريـر الماليـة العامـة الفلسـطينية مـن نظـام الفاتـورة الموحـدة الـذي يقـوم عليـه نظـام المقاصـة، والتفكيك التدريجي لقنوات التشابك مع الجانب الإسرائيلي، أو البناء على التفاهمات السابقة بشأن اعتماد حجم التجارة الفعلي وعدم الاقتصار على فواتير المقاصة، وتبني سياسات تعكس مبدأي العدالة الاجتماعية والضريبية، من خلال معالجة ظاهرة التهرب الضريبي والتسرب المالي.
ومن الضروري الإصرار على تفعيل دور الدول العربية عبر شبكة الأمان العربية والتي أقرتها القمة العربية بالكويت في عام 2010، بقيمة 100 مليون دولار، والتي من المفترض أن يتم تفعيلها في حال ضغطت إسرائيل على الفلسطينيين مالياً، من خلال حجب إيرادات المقاصة الشهرية، وقد طلبت الحكومة الفلسطينية تفعيلها أكثر من 5 مرات منذ بداية الازمة المالية دون أي تجاوب من الدول العربية.
من ناحية أخرى لا بد من التنويه أن الإيرادات الضريبية والجمركية تبلغ نسبتها 80% من إجمالي الموازنة العامة، وبالتالي يساهم المجتمع الفلسطيني بشكل متزايد في تغطية الانفاق العام، ويحتمل عبئا ضريبيا عاليا نسبيا مرتبطا بالدخول والاستهلاك، وبما أن المواطن يعتبر المصدر الأهم للموارد المالية المتاحة للإنفاق الحكومي، فهذا يعزز من حقوق المجتمع الفلسطيني من ضرورة مراعاة العدالة الاقتصادية والاجتماعية في توزيع أعباء التقشف، وعلى ضرورة المحافظة على الحقوق المكتسبة والمشروعة للموظفين، ورغم ارتفاع فاتورة الرواتب إلا أن التدخل المطلوب يجب أن يبنى على أسس التقشف الرشيد بحيث تكون عادلة ومتوازنة مما يتطلب تحليلا فنيا وتفصيليا لجميع بنود الموازنة لتحديد أين وكيف يمكن أن يتم التقشف.