سالم أبو الخيزران: رائد الطب الحديث في فلسطين وصانع ثورةٍ طبية
حسناء الرنتيسي- بوابة اقتصاد فلسطين
في قلب فلسطين، وُلد حلمٌ يتجاوز حدود الممكن، ترعرع بين أحضان عائلة فلاحة من الطبقة المتوسطة في بلدة طوباس، وازدهر ليصبح رمزًا في الطب الحديث. الدكتور سالم أبو الخيزران، الاسم الذي خطّ سيرته بالجدّ والطموح، لم يكن مجرد طبيب يسير بخطوات ثابتة في عالم العلاج والجراحة، بل كان رائدًا في إحداث ثورةٍ طبية امتدت من جراحات العقم إلى زراعة الأعضاء، ليرسم للأجيال القادمة طريقًا لم يكن مفروشًا بالورود.
بدأت الحكاية برؤيةٍ وحلم؛ والدٌ فلاحٌ بسيطٌ رأى في ابنه بذرة أملٍ لحياةٍ أفضل، فوجهه لدراسة الطب، ولم يكن يدرك أن تلك النبتة الصغيرة ستتحول إلى شجرةٍ وارفةٍ تظلل قطاع الطب الفلسطيني وتصدّر خبراتها للعالم. سالم أبو الخيزران، الشاب المجتهد، الذي استجاب لرغبة والده، سار على طريقٍ طويلٍ من التعلّم والتطوير، حيث حمل معه شغف الوطن وإرثه الثقافي واندفع نحو آفاقٍ جديدة، ليصبح رائدًا في جراحة العقم وأمراض الذكورة.
رحلته العلمية بدأت في مصر عام 1982، ثم السعودية، حيث عمل لسنوات، قبل أن يفتح لنفسه آفاقًا جديدة في بريطانيا. هناك، شهدت مسيرته الطبية تحوّلًا جوهريًا في ظل التطور الذي عرفته جراحة المناظير والمساعدة على الإخصاب، ليعود إلى فلسطين عام 1995 محمّلًا بأحدث الابتكارات الطبية، جالبًا معه ثورةً طبيةً جديدة للبلاد. وضع سالم أبو الخيزران فلسطين على خريطة الطب الحديث، وكان من بين أول من حقق إنجازات مميزة في مجال أطفال الأنابيب على مستوى الشرق الأوسط، ليحتل المرتبة الأولى فلسطينيًا.
ولكن النجاح لم يكن نهاية الرحلة، بل بدايتها. كان أبو الخيزران يدرك أن النهضة الحقيقية تحتاج إلى مؤسسة متخصصة، فجاءت فكرة إنشاء "المستشفى العربي" ليكون رائدًا في جراحة المناظير وأطفال الأنابيب. ولم يتوقف عند هذا الحد، إذ رأى أن البلاد بحاجة إلى المزيد من التخصصات الحديثة، فابتكر نهجًا جديدًا بإدخال زراعة الأعضاء إلى فلسطين، وكانت زراعة الكلى في عام 2003 واحدة من أهم نجاحاته، لتتبعها زراعة القرنية.
ما يميز سالم أبو الخيزران هو إيمانه العميق بتوطين الخدمة الطبية، رافضًا أن يبقى المريض الفلسطيني رهينًا للتنقل بين الدول المجاورة للحصول على العلاج. هذا الحلم لم يكن مجرد شعار، بل تحول إلى واقعٍ ملموس، حيث استطاع مع فريقه أن يقلص الأعباء المالية الكبيرة على المرضى والدولة، ويدمج الحداثة الطبية في جسد الوطن، من عمليات القلب المفتوح إلى زراعة الأعضاء، مساهماً في تقليل الفاتورة الطبية الخارجية بشكلٍ كبير.
لعل من أبرز الأمثلة التي يسردها أبو الخيزران عمليات القلب المفتوح، فمع مجيء السلطة كان هناك رغبة لتوطين الخدمات الصحية، قبل عام 2000 كانت معظم عمليات القلب تتم من الخارج، في الوقت الحالي تقريبا 100% من هذه العمليات تتم في الوطن.
يرى أبو الخيزران أن النجاح في عمليات القلب المفتوح تكلل في اتجاهين، من حيث جلب الخدمة وتوطينها، بما يسهل على المريض وعائلته تحمل أعباء السفر للخارج والانقطاع عن أعمالهم، ومن جهة أخرى أن التكلفة على الدولة أو على المريض تكون أقل، فعملية القلب المفتوح البسيطة تكلفتها في الداخل المحتل نحو 80 ألف شيقل، وفي مشافي عمّان حوالي 10 آلاف دينار، متوسطها لدينا 25 ألف شيقل، بالتالي التجربة كانت رائدة.
كان لا بد من هذه النجاحات أن تشق طريقها بين محافظات الوطن، فمع خصوصية الوضع الفلسطيني ومعيقات الاحتلال التي برزت مع الانتفاضة الثانية تحديدا؛ أصبح هناك صعوبة في التنقل بين المحافظات، فكان لا بد من تدشين فرع ثاني لمركز رزان لعلاج العقم في رام الله، ثم كانت الفكرة بعمل مشفى في رام الله (الاستشاري)، ثم في جنين تم تدشين مشفى ابن سينا، وحاليا يجري العمل على تدشين مشفى متطور في محافظة الخليل.
استمرت مسيرة الدكتور أبو الخيزران في التوسع، حيث أسس "مركز رزان لعلاج العقم" في رام الله، ثم المستشفى الاستشاري، وأخيرًا "مستشفى ابن سينا" في جنين، ليستمر في ملء الفراغات الطبية التي كانت تشكل تحديًا كبيرًا في فلسطين.
ورغم كل التحديات والصعوبات التي يمكن أن يواجهها الاستثمار في الطب الحديث من حيث ندرة الكوادر إلى غلاء الأجهزة والمستلزمات الطبية، ظل سالم أبو الخيزران مؤمنًا بأن الطب مجال إنساني يتجاوز الأرقام والتكاليف، هدفه النبيل هو خدمة الإنسان الفلسطيني ورفع مستوى الطب في الوطن. هذه الرسالة حملها دائمًا في قلبه وعبّر عنها من خلال مشاركته في المؤتمرات العلمية الدولية وتقديمه لأبحاثٍ وأوراقٍ عملٍ عن أحدث التطورات في جراحة العقم، ليضع اسم فلسطين على خريطة الطب العالمية.
لقد حصد أبو الخيزران تكريماتٍ محلية ودولية، تقديرًا لجهوده في تحسين الواقع الطبي في فلسطين. لكن أعظم تكريم له كان نجاحه في بناء منظومةٍ طبيةٍ متكاملة تخدم المواطن الفلسطيني بكرامةٍ وجودة، مستثمرًا في الإنسان والعلم، ومؤسسًا لمستقبلٍ طبّي يتجاوز حدود الاحتلال والعقبات.
هكذا، سطّر سالم أبو الخيزران قصة نجاحٍ فلسطينية بامتياز، قصة بدأت بحلمٍ صغيرٍ في طوباس وتحوّلت إلى واقعٍ يُشار له بالبنان في كل أنحاء الوطن وخارجه.