الصروح التعليمية في زمن الأزمات: بين التجارة والمسؤولية التربوية
في ظل الأحداث المأساوية التي يشهدها وطننا الحبيب فلسطين، بفعل العدوان الإسرائيلي المتكرر والمستمر، وجدنا أنفسنا أمام تساؤلات عميقة حول دور المؤسسات التعليمية في مواجهة هذه الأزمات. في حين يُنتظر من هذه المؤسسات أن تكون حاضنة للطلاب وتدعمهم في هذه الظروف، تفاجأنا بقرار بعض المؤسسات بإلزام الطلاب بالعودة إلى التعليم عن بُعد دون مراعاة حقيقية للأوضاع النفسية والاجتماعية التي يمر بها هؤلاء الطلاب وأسرهم.
يبدو أن هناك فجوة كبيرة بين الرسالة التربوية التي من المفترض أن تلتزم بها المؤسسات التعليمية، وبين التوجهات المادية التي تجعل من التعليم سلعة مادية بحتة، لا تراعي في الكثير من الأحيان الظروف الإنسانية المحيطة.
الطلاب في ظل الحرب: معاناة لا تُحتمل
لنبدأ بالواقع الذي يعيشه الطلاب اليوم. الكثير من هؤلاء الأطفال والشباب قد دُمرت بيوتهم بالكامل أو تضررت بشكل كبير، مما أجبرهم على النزوح إلى مناطق بعيدة، في ظروف معيشية سيئة. مراكز الإيواء المكتظة، والشقق الصغيرة التي تتشاركها العائلات النازحة، تفتقر إلى أبسط مقومات الحياة، فكيف يمكن أن تكون بيئة مناسبة للتعلم؟! هذه البيئات لا توفر مكانًا هادئًا أو مجهزًا، ولا تسمح للطلاب بالتركيز أو متابعة الدروس عن بُعد.
علاوة على ذلك، هناك فقدان للكتب والقرطاسية وغيرها من الأدوات الضرورية للتعلم. وفي هذه الظروف، يصبح من المستحيل تقريبًا متابعة الدروس أو إتمام الواجبات الدراسية. ناهيك عن التأثيرات النفسية العميقة التي يعاني منها هؤلاء الطلاب بعد أن فقدوا أفرادًا من أسرهم، أو شاهدوا تدمير ممتلكاتهم وأرزاقهم. كل هذه العوامل تجعل من الاستمرار في التعليم تحديًا هائلًا بالنسبة لهم.
التعليم عن بُعد في ظل غياب المقومات الأساسية
التعليم عن بُعد، كفكرة، يتطلب توفير بيئة ملائمة وأدوات تقنية مثل أجهزة الكمبيوتر أو الهواتف الذكية، بالإضافة إلى اتصال مستقر بالإنترنت. هذه المتطلبات البسيطة نسبيًا أصبحت رفاهية بالنسبة لكثير من الطلاب في المناطق المتضررة. فكيف يمكن توقع أن يتمكن طالب مهجَّر، لا يمتلك مكانًا مناسبًا للدراسة، من متابعة دروسه عبر الإنترنت؟ إضافة إلى ذلك، فإن التعليم عن بُعد يتطلب تفرغًا ذهنيًا وتركيزًا كاملًا، وهذان العنصران غير ممكنين في ظل المعاناة النفسية التي يعيشها الطلاب.
من المسؤول؟: التعليم بين الرسالة التربوية والتجارة
عند الحديث عن التعليم، نحن لا نتحدث عن مجرد وسيلة لنقل المعرفة، بل نتحدث عن رسالة سامية تتعلق ببناء الإنسان وتطوير قدراته ليكون عنصرًا فاعلًا في مجتمعه. ولكن، يبدو أن بعض المؤسسات التعليمية قد انحرفت عن هذه الرسالة، وبدأت تتعامل مع التعليم كسلعة مادية، هدفها الأول هو تحصيل الرسوم الدراسية، دون مراعاة الأوضاع الإنسانية والاجتماعية.
يجب أن تكون المؤسسات التعليمية حاضرة لدعم الطلاب في هذه الأوقات الصعبة، وأن تُظهر مرونة في التعامل مع الظروف المحيطة. الاستمرار في فرض الرسوم الدراسية والالتزام بالجدول الزمني للتعليم عن بُعد دون النظر إلى الواقع الذي يعيشه الطلاب هو تجاهل واضح للرسالة التربوية التي يجب أن تحملها هذه المؤسسات.
التعليم بين الرسالة التربوية والتجارة:
بات من الواضح أن بعض المؤسسات التعليمية قد حولت التعليم إلى سلعة مادية، تسعى من خلالها إلى تحصيل الرسوم الدراسية بأي ثمن، حتى في أحلك الأوقات. لقد تخلت هذه المؤسسات عن رسالتها التربوية الأساسية التي تهدف إلى بناء الإنسان، ودعمه في الأوقات الصعبة. وبدلاً من أن تكون هذه الصروح التعليمية مصدرًا للأمل والتوجيه، أصبحت عبئًا إضافيًا على الطلاب وأسرهم.
التأثيرات النفسية والاجتماعية: التعليم عبء إضافي أم وسيلة للدعم؟
بالإضافة إلى التحديات المادية التي يواجهها الطلاب، هناك تأثيرات نفسية واجتماعية لا يمكن إغفالها. الكثير من الطلاب يعانون من صدمات نفسية حادة بسبب ما شهدوه من تدمير وفقدان. فقدان الأحباء، تدمير المنازل، العيش في خوف دائم من الهجمات، كل هذه العوامل تترك آثارًا عميقة في نفوس الطلاب.
في هذه الظروف، يصبح التعليم عبئًا إضافيًا على الطلاب وأسرهم، بدلًا من أن يكون وسيلة للدعم والتخفيف. المؤسسات التعليمية يجب أن تكون واعية لهذه التأثيرات، ويجب أن تقدم حلولًا لدعم الطلاب نفسيًا واجتماعيًا، قبل أن تفرض عليهم مواصلة التعليم في ظل هذه الضغوط.
عواقب بعيدة المدى: تأثير التجاهل على مستقبل الأجيال
استمرار المؤسسات التعليمية في تجاهل الأوضاع الإنسانية والنفسية للطلاب قد يؤدي إلى نتائج كارثية على المدى الطويل. إذا فقد الطلاب الثقة في التعليم وفي المؤسسات التي من المفترض أن تدعمهم، فقد ينمو لديهم شعور بالعزلة واللامبالاة، مما يؤثر سلبًا على أدائهم الأكاديمي وحافزهم للتعلم. هذا بدوره سيؤثر على مستقبلهم المهني وعلى المجتمع ككل.
التعليم ليس مجرد عملية تلقين للمعرفة، بل هو عملية بناء شخصية الإنسان وتطوير مهاراته ليكون قادرًا على مواجهة تحديات الحياة. إذا فشلت المؤسسات التعليمية في مراعاة هذا الجانب، فإننا نواجه خطر خلق جيل يعاني من اضطرابات نفسية، وقلة في الثقة بالنفس وبالمؤسسات التعليمية والمجتمعية.
الحلول المقترحة: التعليم في زمن الأزمات
لتجاوز هذه التحديات، يجب أن تكون هناك حلول مرنة ومناسبة تأخذ في الاعتبار الظروف الإنسانية التي يعيشها الطلاب، بعض الحلول التي يمكن أن تسهم في تحسين الوضع الحالي:
رسالة التعليم في مواجهة الأزمات
في الختام، نُذكر المؤسسات التعليمية بأن التعليم ليس مجرد وسيلة لتحصيل الرسوم الدراسية، بل هو رسالة سامية تهدف إلى بناء الإنسان وتطوير قدراته. الأزمات هي اختبار حقيقي لمدى التزام هذه المؤسسات بهذه الرسالة. على المؤسسات التعليمية أن تكون مرنة ومتجاوبة مع الظروف الاستثنائية التي يعيشها الطلاب، وأن تضع مصلحة الطلاب النفسية والاجتماعية في مقدمة أولوياتها.
التعليم في زمن الأزمات يتطلب حلولًا مبتكرة وإنسانية، ويجب أن يُركز على دعم الطلاب وليس زيادة أعبائهم. نأمل أن تكون هذه الأزمة فرصة للمؤسسات التعليمية لمراجعة نهجها والتأكيد على التزامها برسالتها التربوية الحقيقية.
نأمل أن تُدرك المؤسسات التعليمية أنها تلعب دورًا حاسمًا في بناء مستقبل الأجيال. في ظل هذه الظروف الاستثنائية، يجب أن تكون المؤسسات التعليمية مصدرًا للدعم والتخفيف لا عبئًا إضافيًا. التعليم ليس تجارة، بل هو رسالة تربوية واجتماعية، ويجب على هذه المؤسسات أن تضع مصلحة الطلاب الإنسانية والنفسية في مقدمة أولوياتها.