ما الخيارات التي تركها الاحتلال للفلسطينيّين؟
هنالك من يحذّرون وبحقّ، أنّ ما حصل في قطاع غزّة قد يحصل في الضفّة الغربيّة، بمعنى هدم مخيّماتها ومدنها والعقوبات الجماعيّة والأعداد الهائلة من الشهداء والجرحى.
هذا صحيح، وكلّ الإشارات تؤكّد أنّ الاحتلال مستعدّ لفعل هذا.
هل الفلسطينيّون في الضفّة الغربيّة أصحاب قرار بما جرى ويجري؟ هل هم الّذين يقرّرون المواجهة من عدمها، وأسلوبها؟
ما يجري في الضفّة الغربيّة، هو أنّ الاحتلال يدفع الناس دفعًا للدفاع عن أنفسهم، ولا يترك أمامهم سوى طريقين، الاستسلام التامّ وغير المشروط لغلاة المستوطنين، أو الدفاع عن أنفسهم وأملاكهم، والأمر مكلف جدًّا في كلا الخيارين، إذ لم يترك الاحتلال منطقة وسطى.
ما جرى ويجري في الضفّة الغربيّة، هي مصادرات متواصلة للأراضي منذ عقود حتّى يومنا، فمنذ عام 1969 وحتّى يومنا صدر أكثر من 1200 أمر مصادرة أراض تحت ذرائع شتّى، مناطق عسكريّة، مناطق للصالح العامّ، وغيرها. يرافق هذا تحرّش بالفلسطينيّين وإطلاق نار، سواء على الحواجز أو غيرها، وفي مزارعهم وحتّى في بيوتهم، وتفاقم الهجمات على محاصيلهم الزراعيّة وقطعان الماشية، والمزيد من التضييق على تنقّلاتهم، بحيث أصبحت القرى والمدن الفلسطينيّة سجونًا كبيرة، يخشى الناس التنقّل فيما بينها.
يضطرّ الناس للوقوف نصف ساعة أو ساعة وأكثر، في طابور ممتدّ لمئات الأمتار وحتّى إلى كيلومتر وأكثر على الحواجز الكثيرة! من يزور الضفّة الغربيّة، ويتنقّل بين قراها ومدنها يشعر أنّه في سجن كبير، وأنّه معرض للخطر والإذلال في كلّ لحظة.
أمّا إذا تقدّم أحدهم نصف متر من الخطّ الأحمر على الحاجز، فقد يودي بحياته، وهذا حصل كثيرًا، والذريعة جاهزة، محاولة دهس أو طعن جنود.
لم تكن الضفّة الغربيّة قبل أكتوبر 2023 بخير، بل كان وما زال الاحتلال يقضم من أراضيها، وبالإعلان عن مساحات كبيرة دون توقّف بأنّها مناطق عسكريّة يمنع دخول أصحابها إليها، وذلك تمهيدًا لمصادرتها، وقد أقيمت مئات المستوطنات والبؤر الاستيطانيّة، يعيش فيها نصف مليون مستوطن، من غير منطقة القدس الّتي يعيش فيها حوالي 220 ألفًا.
يرافق هذا إذلال حتّى لأولئك الّذين يحصلون على تصاريح عمل في إسرائيل، ويستشهد بعضهم وهم يحاولون التسلّل للعمل في داخل إسرائيل لكسب لقمة عيشهم، وهناك فيديوهات توثّق إطلاق النار على عمّال بعدما ألقي القبض عليهم، أو إطلاق كلاب متوحّشة عليهم، وهم يحاولون التسلّل من فتحات تحت جدران العزل العنصريّ.
لم تتوقّف مصادرات الأراضي ولا حتّى شهرًا واحدًا، ولم يتوقّف فتح الطرق الواسعة كالمطارات بين المستوطنات على حساب أراضي الفلسطينيّين، وبات أكثر من 40% من مساحة الضفّة الغربيّة تحت السيطرة المباشرة للمستوطنات.
تحوّلت بلدات الفلسطينيّين إلى سجون لا يستطيعون الخروج منها، إلّا من خلال حواجز بعد حواجز، بل حتّى في داخل أحياء المدن الفلسطينيّة نفسها.
لم يعد الفلسطينيّ آمنًا على روحه إذا خرج من قريته، أو حقله، أو كرمه، فقد يتصدّى له مستوطنون، يتحرّشون به، ويضربونه ويتفنّنون في إذلاله.
بجرّة قلم واحدة يعلن الاحتلال تحويل ألف دونم إلى منطقة عسكريّة، مثال على ذلك في قرية (فرخة) في محافظة سلفيت.
ومنذ بداية العام 2024 صادر الاحتلال أكثر من 27 ألف دونم من أراضي الضفّة الغربيّة، ودعا وزراء في هذه الحكومة، إلى إقامة مستوطنة جديدة مقابل كلّ دولة تعترف بفلسطين.
جرّافة ترسم خطًّا حول الأرض المعلنة عسكريّة أو مصادرة، ليصبح دخولها خطرًا قد يدفع صاحبها حياته ثمنًا. بينما تصبح حلالًا للمستوطنين، كما يسيطر الاحتلال على مصادر المياه، ويبيع المياه للبلديّات والقرى في الضفّة بالأسعار الّتي تقرّرها شركة مكوروت، ويمكنه قطعها في اللحظة الّتي يريد كما حدث في قطاع غزّة.
كذلك فإنّ معظم مصادر الكهرباء تابعة لشركة كهرباء إسرائيل، بشكل مباشر أو غير مباشر، وفي الأغوار يطرد الرعاة الفلسطينيّون من مراعيهم، وتصادر قطعانهم ويعتدى عليهم بالضرب، وحتّى الموت أحيانًا، وخلال هذا العام صودر حوالي ثلاثة عشر كيلو مترًا مربّعًا من الأغوار.
أمّا شبكات مياه الصرف الصحّيّ الّتي تخرج من المستوطنات، وأكبرها من مستوطنة أريئيل كمثال، فهي تمرّ من أراضي برقين وغيرها من البلدات الفلسطينيّة، مسبّبة تلوّثا بيئيًّا وتخريبًا للأرض، وهذا شأن أكثر المستوطنات، بحيث حوّلت ما تبقّى من أرض إلى مكبّات نفايات.
لقد تحوّلت قرى ومدن الضفّة الغربيّة ومخيّماتها إلى معسكرات اعتقال كبيرة، وهذا يجري تحت نظر وسمع العالم، وبدعم أميركيّ مطلق، ودون أيّ اعتبار لوجود سلطة فلسطينيّة وقّعت معهم، ودون اعتبار للقوانين والقرارات الدوليّة، الّتي تتحدّث عن حلّ الدولتين.
لم يكن وضع الفلسطينيّين قبل أكتوبر 2023 بخير، ولم يكن بإمكان فلسطينيّ واحد أن يزعم بأنّه حرّ في وطنه، لا في الضفّة الغربيّة في جميع مناطقها، بما فيها مقاطعة رام اللّه، ولا في قطاع غزّة، ولا داخل الخطّ الأخضر.
وفي القدس، انتهاكات ومصادرات وهدم وتفريغ سكّانيّ، وتصريحات واضحة من وزراء عن نيّتهم تقسيم المسجد الأقصى.
لقد حقّقت حكومات إسرائيل ما تصبو إليه، خصوصًا في العقدين الأخيرين، وهو جعل حلّ الدولتين أمرًا مستحيلًا، وهو ما حصل في الواقع.
أصبح الحديث عن حلّ الدولتين وهما يردّده الكثيرون، من غير أن يعوا الحقيقة على أرض الواقع.
من هو القائد الإسرائيليّ الّذي سيخلي نصف مليون مستوطن من الضفّة الغربيّة؟ (من غير منطقة القدس)، ومن هو القائد الّذي سيقبل شراكة الفلسطينيّين في القدس كعاصمة للدولتين! ومن هو القائد الّذي سيعيد للفلسطينيّين السيطرة على أرضهم ويسمح لهم بالتوسّع العمرانيّ الطبيعيّ؟
إمكانيّة حلّ الدولتين بحسب الشرعيّة الدوليّة لم تعد قائمة، حتّى لو أيّدها العالم كلّه، وبلا أدنى شكّ، فإنّ القوى الأساسيّة في إسرائيل تعلنها على رؤوس الأشهاد وتمارسها، بأنّها دولة لليهود من النهر إلى البحر.
يضاف إلى هذا جرائم الحرب في قطاع غزّة، وما سبقه من حصار وقمع على مدى عقود، هذه التراكمات لم تترك خيارات سوى القبول بالواقع الاستيطانيّ الإحلاليّ أو المقاومة، وما المقاومة سوى ردّة فعل بعد اليأس من الإمكانيّات الأخرى الّتي أجهز عليها الاحتلال. ألا ليت أصحاب القرار في إسرائيل وفي أميركا يرعوون ويوفّرون على الشعبين وشعوب المنطقة الدماء والأرواح، ولكن هيهات، فالواقع ليس ما نتمنّاه.