التضخم الوظيفي في القطاع العام: واقع أم حكم عشوائي؟
حسناء الرنتيسي- بوابة اقتصاد فلسطين
يبلغ إجمالي المستفيدين من رواتب القطاع العام الفلسطيني، بما في ذلك الموظفين والمتقاعدين وأشباه الرواتب، نحو 250 ألف موظف. وتصل فاتورة الأجور الشهرية إلى ما يقارب مليار شيكل شهريًا. عند أخذ عدد الموظفين وفاتورة الرواتب في الحسبان، يتبين أن حجم فاتورة الرواتب كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي يبلغ 15-18%، حسب بيانات سابقة للبنك الدولي، وهي نسبة عالية عالميًا.
ومن هنا، نستخلص أن فاتورة الرواتب (بتصنيفاتها) تعد مساهمًا كبيرًا في الأزمة المالية الخانقة التي تواجهها السلطة الفلسطينية. تستنزف السلطة الوطنية الفلسطينية وفقًا لما سبق أكثر من 50% من النفقات الجارية والرأسمالية، حيث بلغت 92% من إجمالي مخصص الموازنة للنفقات الحكومية لعام 2024.
إيقاف نزف المال العام بات ملحًا في ظل الأزمات المالية التي تعيشها السلطة، والتي انعكست على الموظف من جهة، وعلى الكل الفلسطيني من حيث القطاعات الصحية والتعليمية، إضافة إلى الأثر الكبير على السوق الفلسطيني.
والسؤال هنا هل يوجد تضخم وظيفي في القطاع العام؟ توجهت "بوابة اقتصاد فلسطين" إلى عديد من الخبراء في القطاع العام والخاص للإجابة على هذا السؤال.
هل حقًا لدينا تضخم وظيفي؟
حوار بين القطاع العام والخاص
يطرح مدير عام الجمارك والمكوس وضريبة القيمة المضافة في وزارة المالية لؤي حنش عدة تساؤلات يستنكر بها الحوار حول وجود "التضخم الوظيفي بالقطاع الحكومي".
والتساؤلات هي: "أين الدراسات التي تبين أن هنالك بطالة مقنعة في الدوائر الحكومية؟ في أي وزارة؟ وما هو العدد؟ وما الأسباب؟ وهل هي حقيقة أم مجرد مقولة؟ وما الأساس العلمي لهذه الفرضية؟ ما هي القاعدة الاقتصادية التي نبني عليها الفرضية المطروحة؟ هل موظفو القطاع العام بطالة مقنعة وموظفو القطاع الخاص منتجون؟ هل يجب خصخصة كل ما يخص الشعب لفئة محدودة وإلغاء دور القطاع العام وحقوق المواطن بحجة القطاع الخاص؟ ومن المستفيد؟ هل هو المجتمع والاقتصاد أم ماذا؟ هل موظفو القطاع العام جزء من المجتمع أم دخلاء؟ كيف يتم بناء الاقتصادات الناشئة؟ بالخصخصة أم يجب أن يعم النفع على غالبية فئات المجتمع؟"
وحول إمكانية توجيه دعم القطاع العام لقطاعات إنتاجية ما يؤدي إلى زيادة قدرة القطاع الخاص على توظيف أيدي عاملة والتخفيف بذلك على الحكومة أوضح حنش " توجيه الإنفاق الحكومي نحو مشاريع تطويرية وتدعيم قطاعات صناعية وزراعية وتنموية أمر بالغ الأهمية، ولكن ذلك يجب أن يتم بعد توفير الخدمات التعليمية والصحية والقضائية أولاً، لأنها تمس كافة فئات المجتمع دون تمييز، وهي الأساس في بناء المجتمعات المتحضرة التي يجب أن نسعى لتوفيرها لأبناء شعبنا"
بدوره، يرى رجل الأعمال جمال الحوراني أن موضوع عدد موظفي القطاع العام ومدى تناسبهم مع الدولة له أكثر من بعد ولا يمكن أخذه بجملة واحدة. الأمر يحتاج إلى مراجعة شاملة بأيدي وعقول وطنية بعيدًا عن التدخل الأجنبي.
وأضاف: "نحن من يجب أن نراجع أنواع الوظائف وطبيعتها ولزومها والأعداد الملائمة، مع البحث في قضايا إعادة توزيع الموظفين حيث تكون الحاجة. لا يمكن الحكم بالكثرة أو القلة إلا بناءً على طبيعة الخدمات الحكومية ونوعيتها، ومنها يتم تحديد الأعداد اللازمة."
من جانبه، يؤيد رئيس مجلس إدارة الزيتون للإقراض عبد الناصر دراغمة، إعادة النظر في العديد من الدوائر الحكومية ودمجها مع وزارات أو دوائر ذات علاقة بمهامها، بالإضافة إلى البحث في الاحتياجات الحقيقية للتعيين والتخصصات المطلوبة وليس وقف التعيينات.
من ناحيته، يرى زيد جراب، رئيس التكنولوجيا والعمليات في بنك القدس أن الانطباع العام يسير نحو الحاجة لتوجيه الإنفاق الحكومي بشكل أفضل.
ويرى جراب أن الحلول عادة ما تكون غير شعبية ومؤلمة على المدى القصير ولكنها فعالة على المدى المتوسط والبعيد).
وأوضح انه حال تم تخفيض 10-20% من القوة العاملة (او نفقات الاجور) في الحكومة في قطاعات تعاني من زيادة عدد الموظفين فيها، وتم استخدام واستثمار الوفر في الرواتب والأجور في مجالات استثمارية، وخصوصًا في مجال الصناعة والزراعة، سينتج عن ذلك فرص عمل أكبر ما سيؤدي على المدى البعيد الى تخفيض نفقات الحكومة وفي نفس الوقت زيادة فرص العمل وتخفيض البطالة.
رأي الخبراء في التضخم الوظيفي
يرى أنس شحادة مختص بالشأن الاقتصادي أن تقرير البنك الدولي المتعلق بمراجعة الإنفاق والذي نشر عام 2016 أشار إلى نقطتين جوهريتين. الأولى هي أن عدد موظفي القطاع العام نسبةً لعدد السكان مناسب ولا يوجد تضخم بل بالعكس هناك حاجة لأطباء ومدرسين. الثانية هي أن تشوه نفقة الأجور والرواتب يكمن في فاتورة رواتب قطاع الأمن، وأضيفت عليها اتفاقيات النقابات: أطباء، مدرسين، مهندسين.
وعن الدعوة لتحفيز القطاع الخاص لزيادة فرص العمل وتخفيف العبء عن القطاع الحكومي، قال شحادة إن القطاع الخاص لا يلتزم بالحد الأدنى للأجور. غالبية العاملين في القطاع الخاص لا يتجاوز دخلهم 36 ألف شيكل سنويًا. طُبقت مبادرات عدة لتحفيز القطاع الخاص ولكن دون أثر يذكر. ومثال ذلك، قطاع الاتصالات استفاد كثيرًا من الإعفاءات الضريبية ولكنه الأقل خلقًا لفرص العمل، وفقا لأقواله.
وأضاف: "البنوك لم تقم بتوجيه قروضها نحو دعم الاستثمار. قطاعا الزراعة والصناعة هما الأهم ويشكلان رافعة اقتصادية، ولكنهما الأقل فرصة للحصول على القروض بنسبة 5% من إجمالي محفظة القروض في فلسطين بحسب مؤسسة التمويل الدولية IFC .
ويرى شحادة أن عدد الموظفين العموميين طبيعي مقارنة مع عدد السكان ولكن هناك معضلتين، الاولى توزيع هذه الموارد البشرية أما الثانية تشوه فاتورة رواتب بعض القطاعات واهمها المؤسسة العسكرية، أضف الى ذلك الاتفاقيات الانفرادية مع النقابات المهنية! وكذلك عدم تطبيق اية توصيات لها علاقة في إيجاد حلول لهذا الموضوع مع معضلة عدم تطوير قانون الخدمة والتحول الى التوظيف على اساس العقد.
بدوره، قال مدير مركز بيسان للبحوث والدراسات أُبيّ العابودي إن هناك اختلال في التوظيف العام مشيرا إلى أن هناك تضخم في التوظيف في قطاع الأمن مقابل نقص في الكوادر التعليمية والطبية.
وتابع أن هناك غياب لاستراتيجيات تنشيط القطاع الخاص وتشجيع الشباب على إنشاء الأعمال إضافة إلى الاستراتيجيات الصناعية والزراعية التي لا تتوفر موارد لتطبيقها، وهذا كله يتطلب تغييرًا جذريًا في دور السلطة الفلسطينية وعلاقتها مع القطاعين الخاص والأهلي.
يرى العابودي أن الحديث عن أي سياسات اقتصادية كلية يجب أن ينطلق من فكرة أننا تحت الاحتلال، وبالتالي يجب العمل بنموذج اقتصادي مغاير هو نموذج تعزيز الصمود الذي ينطلق من مفهوم الحماية الشعبية للاقتصاد الوطني.
حلول ممكنة
يدعو الحوراني إلى ضرورة البحث عن وسائل لترشيد الخدمات الحكومية ورقمنتها لتوفير خدمات ذات جودة عالية بالتركيز على نوعية الوظائف وليس كميتها.
بدوره، دعا جراب إلى خلق قطاع عام أكثر إنتاجية عن طريق توجيه النفقات بعيدًا عن النفقات الجارية وأكثر باتجاه النفقات الرأسمالية (او الاستثمارات الداعمة للقطاعات الأساسية المنتجة) مشيرا إلى أن نسبة النفقات الجارية كنسبة من الموازنة مرتفعة جدًا.
واكد جراب أن المساس بالموظفين هو أصعب الخيارات لكن هناك حلولًا بتقليل الإنفاق في بعض المجالات في جوانب من هنا وهناك " أثرها صغير، صحيح، لكن الخطوة مهمة".
بدوره، يؤكد العابودي أن هناك سوء توزيع في المالية العامة، بينما هناك قطاعات قد تشجع على ظهور أنشطة جديدة لا يتم الاستثمار فيها. فالاستثمار والصرف العالي في قطاع الأمن لا يحرك عجلة الاقتصاد ولا يدعم الخدمات المساندة ولا يخلق فرص عمل. يجب إعادة ترتيب الأولويات الاقتصادية للمضي قدمًا والخروج من دائرة العجز التي تعانيها المالية العامة مشيرا إلى وجود نقص كبير في الصحة والتعليم.
ويرى العابودي أن الحل لا يكمن في إيقاف التوظيف، لكن هناك قطاعات يمكن الاستثمار فيها مما سيؤدي إلى خلق وظائف وتحريك عجلة الاقتصاد.
ويرى أن أكبر تحدٍ هو السياسة التنموية. فلو تم الاستثمار في خطة الانفكاك عن الطاقة الإسرائيلية واتخاذ خطوات جدية في مجال الطاقة المتجددة، لكان بالإمكان خلق مورد مالي استراتيجي بينما ما يحدث الآن هو ربط السياسة التنموية بالمنح والدعم الخارجي، والتي تراجعت بشكل كبير، بالتالي لا يمكن الحديث عن سياسة تنموية فعالة.
من جانبه، أشار شحادة الى ان الحلول متعددة الابعاد للحد من تضخم فاتورة الرواتب وضمان استدامتها، باجراء تدقيق مالي ووظيفي يؤدي الى وفر واعادة هيكلة، واهمها تجميع الموارد.
ومن وجهة نظر شحادة فانه يجب وقف نهائي للتوظيف باستثناء التعليم والصحة واعادة النظر في العلاوات والمخصصات. ومن ناحية أخرى يجب التركيز على الإيرادات ونسبة الفاقد المباشر وغير المباشر التي تقدر بمئات ملايين الدولارات.
يُشار إلى أن موازنة عام 2024 ركزت على اتخاذ إجراءات تقشفية، منها: تقليص نفقات الرواتب والأجور، والنفقات التشغيلية والرأسمالية، والحفاظ على الحد الأدنى من النفقات التطويرية.