الرئيسية » أقلام اقتصادية »
 
11 آب 2024

التمويل المشروط – طعنة نجلاء في ظهر غزة وفلسطين

بقلم سامي مشعشع

"حضاريا" (والكلمة هنا توظف بمنطلقلاتها العنصرية) الدعم الغربي وحتى عشية حرب العام ١٩٦٧ انطلقت بالأساس من نظرة دونية للمتلقى ومحاولة جلب الفلسطينيي ابن غزة والضفة والقدس "لركب الحضارة" من جهة ولكن تحت سقف الاحتلال والاستكانة والخضوع من جهة أخرى. لم يكن هذا الدعم المالى، لا قبل ولا بعد عام ١٩٦٧، يهتدى بميثاق الأمم المتحدة والذي نادى بضرورة دعم الأناس الذين يناضلون من اجل حريتهم، وضرورة ان يتلقوا دعما غير مسيس ولا مشروط وفى حالتنا لا  يعزز سطوة الاحتلال والوجود والهيمنة الإسرائيلية. وبينما كان الدعم للاجئين الفلسطينيين بالأساس قبل النكسة إغاثي الطابع ومجبولا بحس من "الشفقة" وبكثير من الجهد لتوطين اللاجئين قسرا ودمجنا في مجتمعات الدول المضيفة، تميز الدعم لمن بقوا منا في المناطق المحتلة في حينه بانه كان دعما تخديري الطابع، إغاثي التوجه هدف لكي الوعي وترسيخ "دونيتنا" وتفوق من احتلنا أخلاقيا وسياسيا وعسكريا.

امتشاق السلاح ومكافحة مشاريع التوطين والذي حاولت الأونروا – وكالة غوث وتشغيل الفلسطينيين فرضه عنوة على اللاجئين في خمسينيات القرن الماضي ومن ثم نجاحنا في تحويل الأونروا الى مؤسسة تعليمية حاضنة والى تحويل منظمة التحرير الفلسطينية سريعا من مؤسسة تخضع للإملاءات والمحاذير العربية إلى مؤسسة مستقلة بذاتها  الى حد ما، حافظ على بقاء القضية حية . طبعا هذه النزعة الاستقلالية وتبنى منهج ثوري ورفض للاحتواء أدى إلى صراعات مع بعض من الدول المضيفة (أيلول الأسود وكل ملف الوجود الفلسطيني المسلح في لبنان وغيرها) وأدت فيما أدت إلى اندلاع الانتفاضة الأولى وما سبقها من نضالات ميدانية دفع ثمنها الفلسطيني غاليا. إذن كان لا بد من عملية اخضاع، ولا بد من كسر لنهج الثورة وإطفاء جذوة المطالبة بالحرية وانهاء الاحتلال. وهنا جاءت أوسلو وأختها الأكثر قبحا، اتفاقية باريس الاقتصادية، ودخلنا لسرداب الوصاية مرة أخرى ولتشريع الاحتلال وضمان استدامته ودخلنا إلى "الجنة الموعودة" – حنفيات متدفقة من الأموال للقطاع العام غير المنتج والقطاع الخاص الاستهلاكي الطابع وخلق المئات، لا بل الآلاف، من مؤسسات المجتمع المدني والمؤسسات غير الحكومية وإغراقها بالأموال والامتيازات وترسيم آفاق عملها وما تستطيع فعله وما لا تستطيع فعله بأموال الجهات المانحة. 

ووقعنا بالفخ!

الحديث عن التمويل المشروط والموجه للقطاع العام والخاص محبط وذو شجون ولا يتسع له المجال هنا. التحدث هنا هو عن إفساد مؤسسات المجتمع المدني الفلسطيني وتشجيع تفقيس عدد مهول منها وتوفير الدعم المالى لها والطفو على السطح لجمعيات ومراكز ومؤسسات تتنافس فيما بينها (مؤسسات ومراكز حقوق إنسان وصحية وزراعية ونسوية وغيرها وغيرها) وكثيرها فصائلية المنبع وادمنت على الدعم الغربي المشروط، وبعضها مناطقي هدف لفصل الكيان الفلسطيني لكيانات بعضها حلت عليه بركة التمويل وبعضها حرمت منه قصدا. وتزاحمنا وتنافسنا وفتحنا مكاتب وأشترينا عمارات باهظة لمؤسساتنا واشترينا الأثاث والأجهزة ولكل منا قاعة اجتماعات وسيارات وكثرت السفريات والاجتماعات والورشات المكررة والمملة وانهالت طلبات التمويل حول كل شيء ولا شيء، ووقعنا ووافقنا على التمويل الغربي المشروط لتفيذ مشاريع كثيرها لم يضف معرفة إضافية أصيلة أو كان لها تاثيراً ملموسا، وكثيرها أيضا سعى كي "يعلمنا" من نحن وما توارثناه ونمارسه منذ عقود ولكن لهاثنا لإعادة قولبته ضمن تصور الممول كي لا يفضى هذا الجهد إلى صيرورة تتحدى الاحتلال على ارض الواقع اعمى بصرنا وبصيرتنا. 

الشرح هنا يطول والبقية عندكم! وقعنا في فخ "دعم عملية السلام" و"دعم الاقتصاد الفلسطيني" (الملحق قصرا بعجلة اقتصاد الكيان) وخرافية "دعم الديمقراطية وحقوق الإنسان". كل شيء كان على مقاسهم وضمن سقفهم الزجاجي وكنا، وما زال كثيرون منا، متلقين سلبيين ومنفذين طائعين لمشاريع بختم الممول الغربي واشتراطاته.

حرب الإبادة على غزة وما يحصل في الضفة والتوحش الاستعماري دفع إلى الواجهة نقاشا ملحا، وان جاء متأخرا، ويتعلق بالتمويل المشروط من ذات الدول والجهات التي تمول القتل والإبادة على شعبنا. الدول والجهات الممولة (وهنا أتحدث بالأساس عن أمريكا وأوروبا وكندا واليابان وان كان الدعم العربي في بعض من أوجهه يصب في ذات الهدف) دأبت، وان كانت بمستويات مختلفة، ومنذ فترة طويلة بتشريط دعمها لمؤسسات المجتمع المدني والمؤسسات غير الحكومية الفلسطينية، الكبيرة والصغيرة وإلزامهم القبول بشروط تمويلية معينة لتلقى الدعم. لقد اشترطوا على المؤسسات والمراكز الفلسطينية بنبذ "الإرهاب" الفلسطيني، والإمضاء على تعهدات لهذا الغرض والتأكد من أن عامليهم وأعضاء مجالس إدارتهم واحياناً منتفعيهم لا صلة لهم "بالإرهاب" والإبقاء على ذات الأنشطة الكسولة والمكررة حول التنمية والدمقرطة والجندرة وتقديم خدمات أولية بدون نسق وطني عام يفضي إلى مآلاته الطبيعية بانهاء الاحتلال والتحرر وإبقاء كل شيء ضمن الأفق الإسرائيلي المرسوم لنا والمدعوم من ذات الدول الممولة لنا ولهم!

احدى بركات الطوفان انها دفعت للفرز بين مؤسسات وناشطين وحراكات كانت تقول للممول الغربي بالأساس، قبل وبعد السابع من أكتوبر، بلا للتمويل المشروط وبين مؤسسات ومنظمات غير حكومية فلسطينية، وأعدادها ليست بالقليلة، والتي حتى اللحظة تقبل بالتمويل المشروط والذي يمول سفك دماء أطفالنا وهى حتى اللحظة غير مستعدة للتنازل عن "البرستيج" والامتيازات والمكاتب وعن تصنيفهم كشخصيّات اعتبارية في البلد! 
المغيظ ان بعض من القائمين على هذه المراكز يلطمون ويبكون ليل نهار على أطفال غزة، ولكن أيديهم ما زالت تمتد لاستلام أموال مشروطة ومغمسة بدم ذات الأطفال. هؤلاء يعيشون حالة انفصام دموية، وحالة انفصام أخلاقية وكلما حاولوا تبرير انفصاليتهم زاد عريهم.

لقد بدأ حراك فلسطيني واع وقوى، بنى على ما سبقه، يرفض التمويل المشروط ويعريه ويطرح بدائل تتماشي مع واقعنا ومع تطلعاتنا بدون تدخل خارجي، وهو حراك يسير يدا بيد مع الحراك العالمي والعربي والفلسطيني الداعم للمقاطعة المؤثرة ضد الكيان وسحب الاستثمارات منه وفرض العقوبات عليه. الحراك لوقف التمويل المشروط يخطو خطوات أولية وجريئة ومباركة.

دماء أهل غزة ودماء كل الفلسطينيين غالية وعلى من يقبلون التمويل المشروط الكف عن ذلك. 

شعبكم لن يرحم.

مواضيع ذات صلة