"ماس" تصدر ورقة سياساتية بعنوان: سبل التصدي لخسائر العدوان على غزة في مدن الضفة
بوابة اقتصاد فلسطين
ترصد هذه الورقة أبرز الخسائر الاقتصادية وخسائر البنية التحتية في مدينتي جنين ومخيم جنين ونابلس وبلدة حوارة منذ بدء العدوان على قطاع غزة بالتزامن مع عدوان آخر على الضفة الغربية، إذ قام الاحتلال الإسرائيلي بمحاصرة المدن والقرى الفلسطينية وإحاطتها بالحواجز العسكرية بمختلف أنواعها وأشكالها، والتي ارتفعت من 567 حاجزا (منها 77 حاجزا رئيسا و490 حاجزاً آخر تشمل سواتر ترابية، ومكعبات إسمنتية، وبوابات حديدية) قبل 7 تشرين الأول إلى حوالى 700 حاجز بعد هذا التاريخ.
تزامن ذلك مع ارتفاع في وتيرة الاقتحامات والعمليات العسكرية خاصة في مدينتي نابلس وجنين، وكذلك طولكرم، ما أدى إلى تراجع الأنشطة الاقتصادية بشكل كبير، خاصة التجارة والسياحة (تشمل الفنادق والمطاعم) التي تعتبر العصب الاقتصادي في تلك المدن.
تعتبر مدينتا نابلس وجنين من أكبر مدن محافظات شمال الضفة الغربية مساحة وسكاناً، كما تشهدان، في الظروف الطبيعية، حركة اقتصادية نشطة، خاصة مع تدفق الآلاف من الفلسطينيين داخل الخط الأخضر بشكل أسبوعي للمدينتين من أجل التسوق والدراسة الجامعية.
تضم المدينتان حوالى 14,395 منشأة عاملة، وعدد العاملين فيهما 45,005 (35,121 ذكور و9,884 إناث) من إجمالي عدد السكان لكلا المدينتين والبالغ 204,977 نسمة.
كما شهدت مدينة جنين ومخيمها اقتحامات وحملات عسكرية واسعة حتى قبل حرب 7 أكتوبر.
لم تكن المدينة قد تعافت من الخسائر الكبيرة التي خلفها العدوان المتواصل، حتى جاءت الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، والتي امتدت لتطال وبشكل مكثف محافظة جنين ومخيمها ومنشآتها المدنية والاقتصادية. أدى ذلك إلى إغلاق وتعطل الكثير من المنشآت الاقتصادية والمؤسسات الخدمية أبوابها نتيجة ضعف الحركة الشرائية من قبل المواطنين، وخاصة فلسطينيي الداخل الذين امتنعوا عن الدخول للمحافظة نتيجة إغلاق الاحتلال للحواجز بين المحافظة ومدن الداخل. تسبب ذلك في تكبد المنشآت الاقتصادية في المدينة وحدها خسائر شهرية تقدر بحوالى 24 مليون دولار. بالإضافة إلى ذلك، إن تكرار مشهد اجتياحات المدينة ومخيمها بشكل مفاجئ ومستمر، أدى إلى تراجع مبيعات السلع الأساسية داخل المدينة بنسبة 65% نتيجة تخوف المواطنين من الوصول إلى الأسواق وضعف قدرتهم الشرائية. أدى ذلك بدوره إلى انخفاض مستوى الدخل لدى العديد من أصحاب المصالح التجارية وتحملهم أعباء مالية إضافية بسبب القيود الصارمة التي ينتهجها الاحتلال الإسرائيلي في إدخال البضائع وتفتيشها بشكل دقيق ما يعرض الكثير منها للتلف.
منذ السابع من تشرين الأول، تتعرض مدينة نابلس ومخيماتها لحصار عسكري واقتصادي مشدد، وعدوان متواصل أدى إلى استشهاد العشرات من الفلسطينيين وتوقف شبه تام لحركة المواطنين من وإلى المدينة. من ناحية اقتصادية، تعرضت مدينة نابلس، التي تعتبر العاصمة الاقتصادية لشمال الضفة، إلى تراجع كبير في الأنشطة الاقتصادية المختلفة في المدينة التي كانت تعج بحركة نشطة للمتسوقين والزوار من داخل المحافظة وخارجها، خاصة من الفلسطينيين داخل الخط الأخضر.
كما أغلقت جامعة النجاح الوطنية أبوابها وتحولت إلى التعليم الإلكتروني، والتي تضم حوالى 25 ألف طالب، حوالى 20% منهم من الطلبة الفلسطينيين في الداخل، والذين يشكلون جزءاً مهما من النشاط الاقتصادي في المدينة خاصة في قطاع المطاعم والمواصلات والعقارات.
أدى ذلك كله، ومنذ بداية العدوان والذي مر عليه أكثر من 100 يوم، إلى تراجع القوة الشرائية بنسبة 90%، كما شهدت حوالى 96% من المنشآت في المدينة تراجعا في المبيعات والإيرادات الشهرية. انعكس ذلك أيضاً على قطاع الصناعة الذي يعتبر من القطاعات الرئيسة في المدينة وجزءاً مهما من تاريخها، حيث شهد حوالى 85% من المنشآت الصناعية تراجعاً في طاقتها الإنتاجية، بالإضافة إلى تضرر ما يقارب الـ 8% من المنشآت بشكل مباشر نتيجة لاعتداءات المستوطنين وقوات الاحتلال، ما أدى إلى إغلاقها بشكل كلي أو جزئي.
وكانت قد تعرضت بلدة حوارة خلال العام 2023 إلى موجة هجمات من قطعان المستوطنين، وإحراق أجزاء من المحال التجارية والسكنية وتخريب ممتلكات، فيما اعتبر عالمياً تجسيداً لتصعيد خطير يدعو للقلق لما يخطط له الاحتلال من توسيع رقعته وسيطرته وتضييق على الحيز الاقتصادي الفلسطيني الضيق أصلاً. قدرت كلفة تلك الموجة العدوانية بملايين الدولارات.
ازدادت حدة الإجراءات الاحتلالية واعتداءات المستوطنين على بلدة حوارة منذ الحرب على غزة في السابع من أكتوبر، حيث تم إغلاق البلدة بالكامل أمام حركة السيارات الفلسطينية وأجبرت غالبية المنشآت الاقتصادية على إغلاق أبوابها، كما تم تقييد الحركة بشكل شبه كامل على سكان البلدة والبالغ عددهم حوالى 6,650 فرداً.
التحديات
خلقت حالة الحرب ضعفاً ووهناً في المقومات الاقتصادية والمقدرات المتاحة، وما زاد الأمر تعقيداً القيود على الحركة وإغلاق الضفة الغربية والحركة بين المدن، وكل ذلك شكل تحدياً كبيراً أمام النشاط الاقتصادي الفلسطيني. والحال لا يختلف كثيراً في باقي مدن الضفة الغربية، حيث تبذل المدينة كل ما لديها من موارد في سبيل إعادة ترميم ما يمكن ترميمه من الأنشطة الاقتصادية الفاعلة والبنية التحتية التي دمرها العدوان الإسرائيلي، إلا أن ذلك لم يعد كافياً لمقاومة حجم الخسائر المهولة ما يستدعي المساندة من الحكومة وباقي القطاعات الخاصة والأهلية.
وما يزيد من صعوبة التحدي، طبيعة المنشآت التجارية والصناعية الفلسطينية وحجمها، إذ أن غالبها منشآت صغيرة ومتوسطة الحجم، وهذا بدوره عزز من ارتفاع مستويات الفقر في المدن الفلسطينية لدى أصحاب المنشآت التجارية الصغيرة ومتناهية الصغر والتي تعاني من تدنٍ كبير في مستوى المبيعات/الإيرادات الشهرية.
ونتيجة لتدنى مستويات الدخل قد يلجأ الأفراد إلى استهلاك المدخرات المالية لتعويض النقص في مستوى الدخل. ويتضح من الأحوال السياسية الحالية والتي يصعب تحديد مصيرها وإلى ماذا ستؤول، أن الأوضاع ستؤدي إلى مزيد من الارتفاع في مستويات الفقر للأسرة الفلسطينية. ويتضح هذا المشهد في مدينتي نابلس وجنين المحاصرتين بإغلاق المداخل الرئيسة وجعل منها نقاط تفتيش تعيق حركة النقل العام والتجاري ويرفع من تكلفة النقل بكافة أشكاله لينعكس ذلك على أسعار السلع ما يؤثر سلبا على القدرة الشرائية وبالمثل على الإيرادات الشهرية والمعاناة ذاتها عند باقي المدن الفلسطينية.
التدخلات الممكنة
ينطلق إطار التدخلات من فكرة الشراكة في تحمل المسؤوليات ما بين كافة الجهات، وذلك من خلال مجموعة من السياسات والتدخلات ذات الأثر الاقتصادي والاجتماعي، والممكن اتخاذها سواء من خلال الحكومة أو من القطاعات الخاصة أو الأهلية الأخرى، وعلى ضوء ما جاء في الورقة الخلفية التي أعدها ماس حول الموضوع والمقترحات الواردة من مؤسسات القطاع الخاص في المدينتين، برزت مجموعة من التوصيات السياساتية التي من شأنها أن تقلل الأثر السلبي لإجراءات الاحتلال الإسرائيلي على الواقع الاقتصادي والاجتماعي في المدينتين:
1. أوصت الورقة بضرورة الانتقال الآن إلى مرحلة التصدي والكفاف معاً، والتي يمكن تسميتها "اقتصاد الحرب" والذي يتطلب تشخيصاً معمقاً وشاملاً للآثار الاقتصادية على مستوى المحافظات والأقاليم وعرض تصورات إغاثية وإعادة إعمار للاماكن الأكثر تهديداً مع مراعاة الاختلاف بالسياسات بين مدن الضفة الغربية ومراعاة مستويات الحاجة لإعادة تحريك عجلة الاقتصاد.
2. ضرورة العمل التكاملي بين جميع القطاعات سواء كانت حكومية أو خاصة أو أهلية، وتعزى أهمية هذا التكامل للحد من حالة الانهيار الاقتصادي في ظل الظروف التي تمر بها دولة فلسطين عامة.
3. توفير حزمة حوافز مادية وتدخلات عاجلة من الحكومة وباقي القطاعات الخاصة والأهلية لمساندة مدن شمال الضفة الغربية خاصة جنين ونابلس التي لم تعد قادرة بمواردها الخاصة على مواجهة الحصار والاجتياحات اليومية والتدمير الممنهج للبنية التحتية.
4. توفير التأمين الصحي المجاني للعمال الجدد العاطلين عن العمل بعد السابع من أكتوبر، خاصة العمال الذين كانوا ينشطون في سوق العمل الإسرائيلي، وذلك للحفاظ على سلامة الكادر البشري والمتمثل اقتصادياً بالقوى العاملة.
5. تعويض الأفراد الذين تضررت مركباتهم من قوات الاحتلال وقطعان المستوطنين، وإعادة النظر في سياسة نظام تأمين المركبات من خلال حث شركات التامين على شمول أضرار الحرب في البوليصية التأمينية على المركبات مقابل رسوم مخفضة في ظل تراجع الحالة الاقتصادية إلى أدنى مستوياتها.
6. يعتبر طلبة الجامعات في مدينتي جنين ونابلس من أكثر الفئات تضرراً من ناحية القدرة على الوصول لمؤسسات التعليم العالي أو دفع الأقساط. لذلك، هناك حاجه إلى تعزيز موارد صندوق دعم الطالب لدى وزارة التعليم العالي من أجل توفير أكبر عدد من القروض للطلبة المحتاجين، إضافة إلى تقديم الحكومة والشركات الكبيرة في فلسطين لمنح دراسية للطلبة المتضررين في المدينتين.
7. لا بد أن تكون هناك معالجة للإجراءات البنكية المتعلقة بالشيكات الراجعة والتي ارتفع عددها بشكل كبير بعد الحرب في المدينتين، سواء من خلال إلغاء رسوم الشيكات الراجعة، وجدولة القروض والشيكات الراجعة إلى فترة زمنية معقولة تأخذ بعين الاعتبار استمرار الحرب الحالية، ومنح المقترضين فترة سماح محددة ضمن نسبة فائدة منخفضة، وغيرها من الإجراءات.
8. دراسة أي أفكار أخرى جديدة من قبل سلطة النقد وخاصة فيما يتعلق بإعطاء قروض ميسرة للمنشآت الصغيرة وبضمانات معقولة.
9. إمكانية النظر في خفض الرسوم الضريبية ورسوم الترخيص المتعلقة بقطاع النقل العام والنقل التجاري: حيث إن القطاعين يعانيان من ارتفاع التكاليف التشغيلية نتيجة الحواجز المفروضة وساعات الانتظار وسلك طرق بديلة تفتقر للبنية التحتية والتي تُكبد أصحاب كل من المركبات والشاحنات أعباء إضافية سواء من صيانة أو من استهلاك أعلى للمحروقات، فمن المهم دعم كل من القطاع العام والنقل التجاري لتمكينهما من الصمود أمام كل التحديات التي فرضها الاحتلال على الطرق الخارجية التي تربط بين المدن الفلسطينية.
-----------------------------
* هذه الورقة تستند إلى نقاشات "طاولة مستديرة" عقدها معهد أبحاث السياسات الاقتصاية "ماس" برام الله يوم 29 كانون الثاني الماضي.