اَلْهَنْدَرَة . . . رَافِعَةٌ لِلْإِصْلَاحِ اَلْإِدَارِيِّ فِي فِلَسْطِينَ
" اَلْهَنْدَرَة" كلمة عربية مشتقة من دمج كلمتي (هندسة) و (إدارة)، أو ما تعرف أيضاً بإعادة هندسة عمليات الأعمال Business Process Re-engineering، أو إعادة هندسة نُظم العمل، وهي عملية إعادة تصميم إجراءات وأساليب العمل لتحسين المنتجات، أو الخدمات، أو تحسين الجودة، أو تحسين الكفاءة، بما يشمل السرعة في الانجاز، أو خفض التكاليف، أو كل ما سبق.
وتتضمن " الْهَنْدَرَة" التخلص من الجوانب غير الضرورية وغير الفعالة لسير العمل، والتحرر من البيروقراطية المُعيقة، وإهمال وإلغاء أي جوانب أو عمليات لا تشكّل قيمة مضافة، إضافة إلى اعتماد الاتجاهات الحديثة في الإدارة مثل: التحول الرقمي والأتمتة، الرشاقة الإدارية، إدارة الجودة الشاملة، وغيرها، وقد ظهر مفهوم "اَلْهَنْدَرَة" في بدايات تسعينيات القرن الماضي، ومنذ ذلك الحين أحدثت "اَلْهَنْدَرَة" ثورة حقيقية في عالم الإدارة الحديث، بما تحمله من أفكار غير تقليدية، ودعوة صريحة إلى إعادة النظر وبشكل جوهري في كافة الأنشطة، والإجراءات، والعمليات، والاستراتيجيات التي قامت عليها الكثير من منظمات الأعمال.
و"اَلْهَنْدَرَة" لا تعني إحداث تغييرات تجميلية شكلية في النظام، وترك البُنى الأساسية كما كانت عليه، كما لا تعني ترقيع ثقوب النُظم السارية لكي تعمل بصورة أفضل، وإنما تعني التخلي التام عن إجراءات العمل القديمة التقليدية، والتفكير بصورة مختلفة في كيفية تصنيع المنتجات أو تقديم الخدمات لتحقيق الأهداف، وارضاء العملاء، بطريقة كفؤة وفعّالة. وبالتالي فهي تهدف إلى التحسين بشكل جذري، وليس مجرد تحسن مستمر، أو محدود، أو موسمي، وبذلك ترتبط "الهندرة" بالفكر الاستراتيجي.
و"اَلْهَنْدَرَة" ترتبط عضوياً بظاهرتين تُعتبران من مرتكزات اقتصاد القرن الحادي والعشرين، وهما العولمة، وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات، حيث أحدثت تلك الظواهر تغيّرات جذرية في بيئة الأعمال، وأفرزت اتجاهات إدارية حديثة، تتطلب بالضرورة إعادة هندسة العمليات الإدارية، من أجل مواكبة تلك التطورات، وتعزيز فرص المنافسة والبقاء والتطور لمنظمات الأعمال على اختلاف أنواعها وتصنيفاتها، في عالم جديد، أضحى بمثابة قرية كونية، وبرز مفهوم الأعمال عن بُعد، والشركات العابرة للحدود، ومتعددة الجنسيات، والتسارع الرهيب في نظم الذكاء الاصطناعي.
وتعمل "اَلْهَنْدَرَة" على تجميع الأعمال المتخصصة لتقديم خدمات، أو سلع، في إطار متكامل، من أجل توفير الوقت اللازم لتقديم الأعمال، وتوفير الوقت للجمهور متلقي الخدمات، وتوفير التكاليف بشقيها الثابتة والمتغيرة، وتجنب الارتباك والفوضى والتداخل في المؤسسة. وتحويل الوظائف من مهام بسيطة مبعثرة، الى أعمال متكاملة مًركبة، بهدف تحويل المسؤولية الفردية إلى مسؤولية مشتركة، وترسيخ قيم التعاون الجماعي، ورفع مستوى الأداء الجماعي، وتقليل الصراعات التنظيمية والفجوات الجندرية، والجهوية، والثقافية، والمجتمعية، والمهارية، داخل المؤسسة. إضافةً إلى تعزيز استقلالية العاملين أثناء العمل، وتفعيل الرقابة الذاتية، بدلاً من الرقابة التقليدية، مما يدفع العاملين إلى تأسيس قواعد ومدونات سلوك خاصة بهم، إضافة إلى المبادرة الشخصية للابتكار والابداع، باستثمار مرونة عمل مرتفعة، وتكامل خبرات فرق العمل، وزيادة المهارات عن طريق التعليم والتعلم، وتبادل الخبرات، بدلاً من التدريب التقليدي، مما يساعد الموظفين على اكتشاف متطلبات العمل، وترسيخها وزيادة قدرتهم على الإنجاز، والعمل على اعداد معايير التقييم المرتبط بالحوافز المادية والمعنوية، بناء على النتائج وتحقيق الأهداف، وليس الأنشطة، أو ساعات العمل، وبشكل شفاف.
فـ" اَلْهَنْدَرَة" تهدف الى تغيير الثقافة التنظيمية السائدة من موظف أو عامل يؤدي وظيفته بشكل تقليدي، الى موظف أو عامل مبدع، مُلهم، يركز على النتائج والجودة، وعمليا لا يمكن تطبيق "اَلْهَنْدَرَة"، أو أن تؤتِ أُكُلها، دون إحداث تغييرات عميقة وجوهرية في الهياكل التنظيمية، وفي مفهوم القيادة، من خلال التحول من الهياكل التنظيمية الهرمية الجامدة، ذات خطوط السلطة الطويلة، إلى هياكل أفقية، بمصفوفات عمل مرنة، وتحوّل القيادة من مفهوما التقليدي، إلى مفاهيم القيادة الحديثة، والتي تشمل القيادة التشاركية، والقيادة التحويلية، وتطبيق اللامركزية الرشيدة، إضافة الى تغيير ثوري في الفكر الإداري، نحو التركيز على العمليات والاجراءات، ونوعية فرق العمل، والتركيز على الابتكار والابداع في العمليات التنظيمية لتقديم خدمة/ منتج بمواصفات ذات جودة مرتفعة.
وعلى الرغم من كون القطاع الحكومي لا يواجه منافسة عالمية/ إقليمية/ محلية، كما هو حال القطاع الخاص، إلا أنه مُلزم بالالتحاق بركب "اَلْهَنْدَرَة"، كونها رافعة للإصلاح الإداري، وتطوير عمل القطاع العام، وجزء من عملية الحوكمة، فَمِنْ لَا يَتَقَدَّمُ يَتَقَادَمُ، وَمَنْ لَا يَتَجَدَّدُ يَتَبَدَّدُ.
وفلسطين، أحوج ما تكون لإنفاذ "اَلْهَنْدَرَة"، كونها تعاني بيئة عمل تواجه كل من المخاطر المنتظمة وغير المنتظمة على حدٍ سواء، وتعاني من تحديات عدّة، وعلى رأسها الاحتلال، الذي يقطع أوصال الدولة الفلسطينية، ويحاصر اقتصادها، ويخضعه قسراً لتبيعته، إضافة الى الانقسام وآثاره التدميرية لحلم الدولة الفلسطينية المستقلة، عدا عن التحديات الداخلية والتي تتمثل بغياب السلطة التشريعية، والأزمة المالية العميقة التي تواجه السلطة الفلسطينية، إضافة الى تقادم الهياكل التنظيمية، وآليات عمل الجهاز الإداري العام، فالإصلاح الإداري والمالي لن يُجدي نفعاً بالخطط المنمقة وحدها، أو بإجراءات تجميلية أو "ترقيعية" هنا أو هناك، وإنما بحاجة الى إجراءات جوهرية، ثورية بتوظيف مفهوم "اَلْهَنْدَرَة"، وربطه بالحوكمة، وإنفاذه وتطبيقه بشكل متكامل، من أجل تحقيق الإصلاح الإداري والمالي بشكل فعلي، بدلا من الإجراءات المُجتزأة، أو أنصاف الحلول، وصولا إلى المساهمة في تحقيق أهداف التنمية المستدامة 2030، وخطط التنمية الوطنية، ومن ضمنها خطة الإصلاح التي اطلقتها السلطة الوطنية في العام 2022، والتي تحمل نظرياً أفكار "اَلْهَنْدَرَة".