تقرير: الخزينة تتكبد نحو 120 مليون شيقل سنويًا مقابل جريان المياه العادمة
بوابة اقتصاد فلسطين
تعاني التجمعات الفلسطينية بسبب غياب شبكات الصرف الصحي، مما يترك انعكاسات خطيرة على التربة ومصادر المياه، في حين تؤدي فوضى التخلص من المياه العادمة إلى تحديات بيئية وصحية.
تفتح "آفاق البيئة والتنمية" ملف شبكات الصرف الصحي، وتقف على حالة الفوضى التي تخلقها الحفر الامتصاصية وصهاريج النضح، وتحاور مسؤولين ومختصين، في وقت تفيد معطيات رسمية أن 61,6 % من الأسر في محافظات الضفة الغربية غير موصولة بشبكات آمنة.
فجوات بالأرقام
وفق الجهاز المركزي للإحصاء فإن 28% من الأسر عام 2020 كانت تقيم في مساكن موصولة بحفر امتصاصية، و11,8% تعتمد الحفر الصماء للتخلص من المياه العادمة، بينما تتوفر شبكات الصرف الصحي لدى 58.5% من الأسر فقط، غالبيتها في غزة، و1.7% تستخدم طرق أخرى.
وفي عام 2015 كانت 53.9% من الأسر تتخلص من مياهها العادمة بواسطة شبكة الصرف الصحي (38.4% في الضفة الغربية، و83.5% في قطاع غزة).
أما 15.2% من المنشآت الاقتصادية كانت تتخلص من مياهها العادمة بحفر امتصاصية، فيما تفتقر أكثر من نصف المدارس لشبكات صحية، بينما استخدمت 7.9% من مؤسسات التعليم العالي الحفر الامتصاصية.
"الصحة": الشبكات في المدن فقط
يقول م. محمود عثمان مدير إدارة الصرف الصحي والتخلص من النفايات في دائرة صحة البيئة في وزارة الصحة، إن الشبكات متوفرة في المدن فقط، وهذا يعني أن قسمَا كبيرًا من المياه العادمة يذهب إلى حفر امتصاصية، بالرغم من أن القانون يشترط أن تكون صماء.
ولفت في حديثه إلى أن المياه العادمة تتخلل وتصل إلى المياه الجوفية وآبار جمع مياه الأمطار غير المسلحة في معظمها بالإسمنت، مما يسهل انتقال المياه العادمة إليها.
وبحسب م. عثمان، فقد أثبتت فحوصات الوزارة وجود تلويث بكتيري وبرازي لمصادر المياه، ما ينعكس على الصحة العامة، ويتسبب بأمراض كالإسهال على المدى القريب، وأمراض خطيرة كالكوليرا على المدى البعيد.
وأشار إلى أن المخططات الهندسية المُقدمة للترخيص من المفترض التزامها بشرط الحفر الصماء، لكن على أرض الواقع 95% منها امتصاصية تقريبًا.
وأوضح أن مراقبة الحفر ومتابعة تنفيذها هي من مهام وصلاحية البلديات ونقابة المهندسين، أما دور "الصحة" يكون في حال ظهور مكاره صحية واضحة مستقبلًا.
علمًا أن سلطة المياه تحدد نقاطًا لصهاريج النضح للتخلص من المياه العادمة، بالتنسيق مع "الصحة" و"البيئة"، كما يقول عثمان.
"سلطة المياه": التكلفة باهظة
"هناك بضع خطط للصرف الصحي" هذا ما استهلّ به حديثه م. عادل ياسين مدير عام التخطيط في سلطة المياه، وهي خَمسية ( 2023-2027 ) وإستراتيجية ( 2032 – 2040)، مضيفًا: "نسعى حتى عام 2032 إلى رفع المشمولين بالشبكة إلى 65% في الضفة و90% في غزة، وحاليًا يجري تنفيذ مشاريع معظمهما ممولة لزيادة عدد المستفيدين حتى عام 2027 إلى معدل 48% بالضفة و85% في غزة، ونخطط للوصول إلى 75% في الضفة وغزة عام 2040، ما يعني تكلفة مليار ونصف المليار دولار.
وأضاف: "يُكلف إنشاء كل متر مكعب من الصرف الصحي 5000 يورو، خذ مثالًا قرية مسيلة في محافظة جنين التي كلّفت 5.5 مليون يورو لـ 3500 مواطن".
وتعمل سلطة المياه على مستويين، أولهما صرف صحي آمن، ويعني حفر امتصاصية صماء، ونقل وتفريغ سليم وآمن، وهي قضايا تحت السيطرة بيئيًا، "نحن في وضع متقدم عما تعيشه دول كثيرة كالهند، التي يفتقر 150 مليون من سكانها لأبسط الخدمات الآمنة" يقول ياسين.
ويستطرد بقوله: "الحفر الامتصاصية لها تأثير على المياه الجوفية والتربة، وقد عجزنا عن الوصول إلى مستوى متقدم للصرف الصحي، ليس بسبب التكلفة، ولكن لأن الاحتلال يعيق منذ عام 1995 وحتى الآن تنفيذ المشاريع، وقدمنا لمشروع خاص بشبكة طولكرم عام 1999 ولم نحصل على موافقة إلا في عام 2022، كما نفذّنا مشروع "نابلس الغربية" بعد انتظار 13 عامًا".
ويرى أن ربط 75% من التجمعات بالصرف الصحي يُعد نسبة ممتازة، حسب أهداف التنمية المستدامة، ويستحيل الوصول إلى 100% لطبيعة الطبوغرافيا، وتشتت التجمعات.
وتتلقى "سلطة المياه" شكاوى يومية بشأن الحفر الامتصاصية، وتلويث مياه الينابيع والأراضي الزراعية، فيما أغلقت آبارًا عديدة بعد تلويثها، مواصلاً كلامه: "نسعى حتى عام 2027 إلى وقف جريان المياه "العابرة للحدود" في أودية جنين وطولكرم ونابلس الشرقية والخليل، ونأمل أن يتحسن وضع غزة في هذا الصدد مع إقامة 4 محطات معالجة".
وتبعاً لمدير عام التخطيط أن الخزينة تتكبد سنويًا ميزانية تتفاوت من 110 إلى 120 مليون شيقل سنويًا للاحتلال مقابل جريان المياه العادمة منذ عشر سنوات، وهو مبلغ يمكنه أن يُنجز سنويًا شبكة متكاملة.
وأشار إلى استخدام 2 مليون متر مكعب سنويًا من المياه المُعالجة للزراعة في جنين وأريحا وطوباس والعروب، ومن المقرر رفع الكمية عام 2027 إلى 12 مليون متر مكعب، مؤكداً أن التدفق السنوي الذي يصل إلى الداخل المحتل يُقدّر بـــ 20 مليون متر مكعب عبر 9 مواقع، فيما يستهلك كل مواطن 88 لتر مياه يوميًا، تذهب 85% منها للصرف الصحي.
"جودة البيئة": المياه والتربة مهددان
توجهنا إلى الإدارة العامة للتوعية والتعليم البيئي في سلطة جودة البيئة، حيث ذكر م. أمجد جبر أن غياب الشبكات يعني انتشار حفر امتصاصية تلوث التربة، ويمكن أن تصل مع مياه الأمطار إلى المياه الجوفية والينابيع التي لا تتواجد على أعماق كبيرة، ما يخلق تحديات صحية وبيئية، خاصة مع محدودية مصادر المياه المتاحة لدينا.
وقال م. جبر إن صهاريج النضح تذهب غالبًا إلى أراضٍ زراعية ومساحات مفتوحة وأودية، لا إلى محطات المعالجة، ما يؤدي إلى تلويث التربة، وانتشار القوارض والحشرات والكلاب الضالة والخنازير، وانبعاث الروائح الكريهة، "بالمختصر هذا إعدام للتربة الزراعية، ويمنح الفرصة لإثارة المشاكل بين الجيران" حسب وصفه.
ومن رأيه أن الحل الأمثل لغياب الشبكات يتمثل في الحفر الصماء، والتخلص الآمن من مخلفاتها.
وكما يشير إلى أن "جودة البيئة" تجري فحوصات للمياه في حال ورود شكاوى للمتابعة القانونية، لكن وزارة الصحة تجري فحوصات دورية لمصادر المياه.
وأفاد أن لجان التنظيم والبناء تشترط على مقدمي ترخيص البيوت تأسيس حفر صماء وليس امتصاصية، لكن هذه اللجان لا تتابع التنفيذ، وهذا بطبيعة الحال يقع في نطاق مسؤولية الحكم المحلي وصحة البيئة.
ووفق جبر، فإن "جودة البيئة" تتابع صهاريج النضح، وتفتح محضر ضبط للسائقين المخالفين، وتحولهم إلى شرطة البيئة، وتطلب المحكمة منهم عدم تكرار ذلك السلوك، ومن يُضبط مجددًا يُوقف عن العمل، وتُسحب رخصته، ويُجبر على إزالة التلوث.
طوباس: تجربة غير مكتملة
وبالانتقال إلى م. عيسى ضبابات مدير عام مجلس الخدمات المشترك لمياه الشرب والصرف الصحي في طوباس والأغوار الشمالية، فقد اطلّع "آفاق البيئة والتنمية" على بعض التفاصيل المتصلة بمعاناة المحافظة من غياب نظام الصرف الصحي: "حصلنا على مشروع عام 2005 بتمويل فرنسي وقدره 22 مليون يورو، غير أن طرح العطاء خُصّص لنصف مدينة طوباس الشمالي وقريتي تياسير وعقابا، وبعد ذلك تبيّن أن التمويل غير كافٍ حتى لنصف طوباس، ورُبطت عقابا بنظام ضخ مكلف".
وحسب قوله: "أجبرَنا الاحتلال على تغيير موقع أجزاء من محطة التنقية، وفي إثره خسرنا 2 مليون يورو إضافي جراء الحفر والجدران الاستنادية، وقد انعكس ذلك على الشبكات".
وأضاف أن المشروع بدأ عام 2017 لمدة عامين، وإذ بموازنته لا تغطي الوصلات المنزلية، وبعد جائحة كورونا تعثّر ربط المنازل بالشبكة، إلا بعد الحصول على تمويل إضافي وقروض وتوفيرات من المجلس لتشغيل المحطة، إذ تعمل الآن في ربع منازل طوباس الشمالية، وجزء من عقابا وتياسير.
وأكد ضبابات أن الطاقم الفني الألماني ترك المشروع بعد الجائحة، ومن ثم ظهرت مشكلة تتصل بنظام التشغيل، مشيرًا إلى أن المجلس يحتاج 10 مليون يورو لتغطية المنازل بانسياب طبيعي للشبكة، وليس المنطقة كلها.
وحدد المشكلة الراهنة: "المحطة تعالج ما يصلها، لكن ثقافة استخدام المياه المُعالجة ما زالت غائبة، في حين نضطر نحن القائمين عليها إلى التخلص من 90% منها في الوديان لعدم توفر خزانات كافية، الأمر الذي يُقابل باحتجاجات من أهالي تياسير، فيما يمنعنا الاحتلال من إقامة سد في منطقة قريبة لتخزين المياه المعالجة والأمطار"، لافتاً إلى بذل الجهود في سبيل توفير مصدر طاقة خاص بالمحطة.
وذكر أن مزارعين اثنين فقط يستخدمان المياه المعالجة، ومع ذلك تواصل سلطة المياه تشجيع سكان المنطقة على استخدامها.
وأوجز أبرز انعكاسات غياب نظام للصرف الصحي على النحو الآتي: "خسارة مصدر مائي لري المزروعات، وتفويت الفرص لاستصلاح مناطق جديدة، ودفع تكاليف نضح الحفر الامتصاصية، وخلق أضرار بيئية، وخلافات بين الجيران".
وشدد ضبابات على أن إنشاء محطة معالجة مركزية يخفف كثيرًا من تكلفة تأسيس شبكات عامة، ويساهم في حل مشاكل عديدة، وتوفير مصدر هام للحصاد المائي.
حفر صماء على الورق
يقول م. جمال ربايعة سكرتير مجلس التنظيم والبناء في الحكم المحلي بمحافظة جنين أن الترخيص يشترط وجود حفر صماء، "وهي قضية صحية وليست تنظيمية، ومتابعتها تقع على عاتق "صحة البيئة".
وذكر أن مشاريع الصرف الصحي محدودة جدًا، ومحصورة في جنين، ومسلية، وعانين، فيما قُدّمت مخططات لبلدتيّ الزبابدة، وميثلون، لكنها جُمدّت بسبب غياب التمويل.
وأشار إلى عدم وجود أماكن مخصصة للتخلص من صهاريج النضح في جنين، التي تحتاج إلى إعادة استخدام المياه العادمة المعالجة في الزراعة.
الحفر الامتصاصية مكرهة بيئية
بدوره، حذّر الخبير البيئي د. عقل أبو قرع، من انتشار الحفر الامتصاصية والتخلص العشوائي من مخلفاتها لما يسبّبه من مكرهة بيئية، وتلويث للمياه الجوفية، كما هو الحال في غزة.
وأشار إلى وجود ملوثات بيولوجية وكيميائية كالمواد العضوية، والمعادن، ومركبات غير عضوية تتسرب ببطء إلى مصادر المياه الجوفية، فيتعذّر تنقيتها.
أبو قرع، الذي عمل سابقًا مديرًا لمختبرات جامعة بيرزيت، أكد وصول عينات ملوثة عدة لمياه الشرب في مناطق مختلفة، ظهر فيها زيادة المعادن.
وامتد تحذيره إلى المستتبعات غير المباشرة لتلويث المياه كالإصابة بأمراض الكلى، وزيادة تركيز بعض العناصر كالنيتريت التي تنتقل إلى الحوامل، وتأثيرات بيولوجية تصل إلى حد الإصابة بالكوليرا.
وطالب الخبير البيئي بإيجاد سياسات وسنّ قوانين صارمة تمنع تلوث البحر بالمياه العادمة كما في غزة، بحيث توّعي بخطورة التخلص العشوائي من هذه المياه، فضلًا عن إنشاء وتحسين البنية التحتية لشبكات الصرف الصحي.
عبد الباسط خلف/ مجلة افاق البيئة والتنمية