الرئيسية » أقلام اقتصادية »
 
02 شباط 2023

صَافِي اَلْإِقْرَاضِ وَاسْتِنْزَافِ اَلْمَالِ اَلْعَامِّ . . . إِلَى مَتَى؟

بقلم: مؤيد عفانة
باحث في قضايا الموازنة العامة

بوابة اقتصاد فلسطين

تعاني الموازنة العامة في فلسطين من أَزْمَةٍ مَالِيَّةٍ عَمِيقَةٍ، بُنْيَوِيَّةً، مُزْمِنَةً، ظهرت إحدى ملامحها في عدم قدرة الحكومة على الوفاء بالتزاماتها حتى تجاه موظفيها منذ أكثر من عام، ولأجل مفتوح "بتقديري"، والسبب الرئيس للأزمة المالية، الفجوة ما بين إيرادات الموازنة العامة ونفقاتها، حيث ما زال مبنى النفقات بأشكالها المختلفة (رواتب وأجور، تشغيلية، تحويلية، رأسمالية، تطويرية)، يطغى على مبنى الإيرادات بأشكالها المختلفة (إيرادات ضريبية، إيرادات غير ضريبية)، مضافا اليها المنح والمساعدات، والتي شهدت تراجعا حادا في السنوات الأـخيرة، مما جعل مجموع النفقات أعلى، وبفروقات دالّة، عن مجموع الإيرادات والمنح والمساعدات.

 ومن النفقات التي تستنزف الموازنة العامة " صَافِي اَلْإِقْرَاضِ"، وهو المصطلح المتداول للمبالغ المخصومة من إيرادات المقاصّة من قبل إسرائيل؛ لتسوية ديون مستحقة للشركات الإسرائيلية المزودة للكهرباء، والمياه، وخدمات الصرف الصحي للهيئات المحلية، ولشركات وجهات التوزيع الفلسطينية، وغيرها من البنود. فبند "صافي الإقراض" أضحى ثابتاً في الموازنة العامّة للسلطة الوطنية الفلسطينية منذ 20 عاما، وما زال، وهو يُثقل كاهل الموازنة ويحرمها من إيرادات مستحقة، ويعزّز من العجز المالي فيها، وهو بند يجب ألّا يكون في الموازنة العامّة ابتداءً.

ومن خلال سبر أغوار تاريخ " صَافِي اَلْإِقْرَاضِ" على مدار السنوات العشرين الماضية، نجد أنه بلغ تراكميا حوالي (6) مليار دولار، أي ما يزيد عن (20) مليار شيكل، بمتوسط سنوي حوالي المليار شيكل، علما أنه في السنوات الأخيرة فاق المليار شيكل سنوياً، وبلغ في العام 2022 (1.2) مليار شيكل، وهي مبلغ ضخم، يشكل نزيفا حادا ومستمراً في الإيرادات العامة، ووفقاً لبرتوكول باريس الاقتصادي الناظم للعلاقة الاقتصادية ما بين السلطة الوطنية الفلسطينية وإسرائيل، فإن إسرائيل تقوم بجباية إيرادات نيابة عن السلطة الوطنية الفلسطينية، ويتم تحويلها عبر "تقاصّ" شهري للسلطة الوطنية الفلسطينية، أُطلق عليها "إيرادات المقاصّة"،  وهي تشمل ضريبة الدخل، وضريبة القيمة المضافة، وضريبة الشراء، وضريبة المحروقات، والجمارك، وأيّة ضرائب ورسوم تترتب على التبادل التجاري بين إسرائيل والسلطة الوطنية الفلسطينية، وتعمل وزارة المالية الإسرائيلية على خصم 3% من قيمة "المقاصّة" بدل خدمة إدارة "المقاصّة"، عدا عن القرصنة الاسرائيلية المستمرة لتلك الإيرادات بحجج شتى، وتبعا لبيانات الموازنة العامّة 2022م، فانّ قيمة "إيرادات المقاصّة" بلغت (10.4) مليار شيكل.

وبالتالي فإن إسرائيل تقوم بخصم قيمة "صَافِي اَلْإِقْرَاضِ" من أموال "ايرادات المقاصة" الشهرية؛ إذ تُحرَم السلطة الوطنية الفلسطينية من إيرادات مهمّة وبنسب دالّة إحصائياً، مقابل خدمات مثل تزويد الكهرباء والمياه، الأصلُ أن تكون سُدّدِت من قِبَل القائمين عليها، ومُستهلكيها (الهيئات المحلية وشركات التوزيع) والتي تجبيها من المواطنين والمنشآت التجارية والصناعية والمؤسسات المختلفة.

إنّ تخلّف المواطنين والمؤسسات، عن دفع مستحقات الكهرباء والمياه ورسوم الهيئات المحلية خلال السنوات السابقة، من الأسباب الابتدائية الرئيسة لولادة "صافي الإقراض" واستمراره، ونتيجة لذلك تخّلفت الهيئات المحلية وشركات التوزيع عن دفع مستحقاتها، بل وتراخت بعض الهيئات المحلية عن دفع ما تجبيه مسبقا من المواطنين، بحكم أنّ عملية التقاصّ تقوم بها إسرائيل مع السلطة الوطنية الفلسطينية مباشرةً من خلال بند "صَافِي اَلْإِقْرَاضِ"، وتُسجل ديون على الهيئات المحلية المتخلّفة عن الدفع، إضافة الى إشكاليات الحوكمة في بعض الهيئات المحلية، والنفقات التشغيلية الكبيرة، والتي تستنزف إيراداتها، ومنها الحد من قدرتها على دفع مستحقات الكهرباء والماء والصرف الصحي، الأمر الذي راكم المشكلة وعقّدها وجعلها مزمنة، وشائكة بحكم الأحداث اللاحقة، ومما فاقم المعضلة، ونقلها الى مدارات اكثر تعقيدا، بروز قضية تخلّف بعض التجمعات الفلسطينية عن دفع أثمان الكهرباء، وبالتالي أضحت مشكلة "صافِي اَلْإِقْرَاضِ" معضلة عصيّة على الحلّ، الأمر الذي يجعل السلطة الوطنية الفلسطينية تتحمل تلك التكاليف، ويفاقم من أزمتها المالية.

وفي ضوءِ ما تقدّم فانّ بقاء مشكلة "صَافِي اَلْإِقْرَاضِ" دون حل، سيُبْقِي نزيف الموازنة العامة دفاقّا، بل، وأن التحليل المالي يشير إلى ارتفاع التكلفة مع الزمن، ويجب العمل على معالجة هذه المعضلة بحلول خلّاقة، وربما يتطلب الأمر التوجه نحو حلول ثورية، من أجل وقف هذه النزيف، أو الحد منه ما أمكن، فهو مُكوِّن رئيس من مكونات عجز الموازنة العامة، وأن الجهد الحكومي للحد من "صافي الإقراض" لن يُؤتِيّ أُكُله إلّا من خلال حلول جوهرية تعالج مشكلة "صَافِي اَلْإِقْرَاضِ" من جذورها ومسبباتها عبر رزمة إجراءات قانونية وإدارية وفنية وتوعوية.

هل تتفق مع ما جاء في هذا المقال؟