سيدة كادحة تتفنّن في صنع قوارير حجرية بديلة للبلاستيكية
بوابة اقتصاد فلسطين
يبدو نهار حنين رياض مزدحمًا بالعديد المهام اليومية المتلاحقة، تقضيها متنقلةً بين البيت والمدرسة والمستشفى لعلاج صغيرتها المصابة بالسرطان؛ في حين تستجدي السيدة المجاهدة في حياتها، ساعة سكون ينام فيها أطفالها الثلاثة، ويخفّ أنين آلام ابنتها المريضة، لتخرج إلى فناء منزلها وتمارس موهبتها بشغف لعلها تتناسى ما مر في نهارها الشاق.
حنين أو أم أحمد كما تُكنّى، تبلغ من العمر 30 عاماً، من مدينة طوباس، وتعمل معلمة، قررت استغلال بعض المخلفات المزعجة في محيط منزلها بتحويلها لأصّص "قوارير" نابضة بالجمال.
حبها للأرض والطبيعة دفعها لاكتشاف موهبتها في صناعة القوارير الحجرية التي باتت مصدر رزق لها، وأضحت تمثل مصدر سعادة لمجرد أن تقع عيناها المنهكتان على جهدها وتتأمل الورود تزهر في قواريرها الموزعة في أرجاء مملكتها، فتنعش أيامها المليئة بالمشاغل والهموم.
مكونات بسيطة
عُرفت حنين بذوقها الرفيع، وحبها للجمال مهما قست عليها الظروف.
هي الأم التي تواصل الكفاح لإنقاذ ابنتها المريضة، والمعلمة المحبوبة والمبدعة، والزوجة الصابرة، وعاشقة الحياة والتي ترفض الاستسلام ولا تسمح لطموحها بالتوقف حتى لو ضاق بها الحال.
بجهد ذاتي جابت أرجاء محيط منزلها، وأحضرت بعض الرمال ومخلفات الحجارة والإسمنت، وأخذت تطبق فكرة تحويل هذه المخلفات لتحفة فنية.
وبعد سويعاتٍ، أصبح بين أيديها قوار ورد يتفوق جمالّا ومتانة على القوار البلاستيكي الجاهز الذي اشترته يومًا من أحد المحال التجارية.
وفي الصباح، تفاجأت عائلة حنين بتحفة فنية صنعتها من حجارة مرصوفة بكل دقة وذوق، زرعت فيها ورود زينة تسترق نظر كل من يمر بها.
وككل يوم مارست مهامها، إلا أن فكرة صناعة المزيد من القوارير ظلت تراودها لتحسّن من مظهر حديقتها الصغيرة.
وبعد وقت قريب، شدّت تلك القوارير صديقاتها في زيارة لها، وطلبنّ منها صنع مثلها، ورغم وقتها الضيق، وظروفها الصعبة، لم تردّ لهن طلباً.
انتظرت أن ينام الأطفال وفي هدأة الليل انكبّت عليها تشكلّها من الحجارة التي جمعتها من أرض قريبة، وبعض الرمال والإسمنت التي أحضرتها من محل قرب منزلها، ومن هنا كانت البداية.
لم تشعر بإرهاق العمل، بل سرت همّة عجيبة في روحها وهي تعيد اكتشاف ذاتها بينما كانت تحضّر عدداً منها لتهديها إلى صديقات تلك الزيارة، مضت بضعة أيام وأصبح بحوزتها عدد لا بأس به من الأصص، إنجاز ما لبث أن تحوّل لمصدر رزق لأسرتها بعد أن شاهد أهل البلدة عملها في منازل عدة، وأقبل المعجبون بقواريرها يشترون دون تردد.
مصدر رزق
لا تنفك حنين عن تطوير موهبتها هذه؛ وكان من أهم ما تحقق لها، أنها من جهةٍ كانت تصنع الجمال وتتغلب به على يومها المرهق، ومن جهة أخرى اتخذت منها مصدر دخل إضافي تساعد به عائلتها.
قوارير الورد التي تصطف بأشكال وأحجام مختلفة أصبحت يومًا بعد يوم تستغرق الكثير من وقتها وجهدها، وحينها تدّخل زوجها مساندًا ليعمل بصحبتها ليلاً حين ينام صغارهما، خوفاً عليهم من الاقتراب أو اللعب بالأدوات والمواد التي قد تكون خطرة.
وفي فناء المنزل خصصا مكانًا لصف القوارير الحجرية التي يطلبها الزبائن.
كان تشجيع الزوج يعني الكثير لحنين، وتبدو ممتنة له وتصفه بــ "خير معين" على تحمل الضغط الجسدي في هذا العمل.
وتوضح حنين بقولها: "ليس من السهل صناعة قوارّ حجري بأحجامه المختلفة، خاصة أنني أشكو من آلام جسدية في ظهري ورقبتي نتيجة هذا الجهد الذي يستلزم أولاً جمع المواد اللازمة من الحجارة وتكسيرها لتصبح متناسقة، ثم خلط المكونات التي باتت تحتاج إلى خلاطة كبيرة لإنجاز عدد أكبر من القوارير".
بحب وبلا توقف
تحدّثنا عن الآلية التي تتبّعها، إذ تبدأ بتوفير قوار بلاستيكي حسب الحجم الذي ترغب صنع قوار حجري بمقاسه، ثم تلّف القوار الصناعي بقطعة بلاستيك، لتحافظ على رطوبة الإسمنت ومنعًا لالتصاقه بالقوار البلاستيكي حتى لا يصعب فصله، وبالتالي تحتاجه قالبًا لعمل العدد الذي تريد من القوارير.
ثم تخلط الإسمنت بالماء والرمل لتصنع قاعدة تثقبها ليسهل مرور الماء الزائد عن حاجة النبتة منه، ثم ترصف الحجارة لتلتصق بالقالب وتضعه بالشمس ليجف، وبعدها تُخرج الإناء البلاستيكي ليصبح القوار الحجري متناسقًا وجذاباً.
ومع كل قوار تنتجه يدب الفرح في أوصالها، وتشرح مشاعرها لنا: "مع كل قوارٍ أنجزه أتناسى الإرهاق والألم الجسدي، إذ يستهلك القوار الواحد ساعتين أو أكثر من العمل، وحين يَخرج متقنًا ويُعجب الزبون به تغمرني السعادة التي بها أكمل يومي بإيجابية وتمنحني طاقة لعمل المزيد".
وتؤكد حنين أن نجاح التجربة قد لا يحدث من المرة الأولى أو الثانية، وإنما المحاولات المتكررة توصل لنهايةٍ جميلة مشرقة، وتنسيها ما سبقها من محاولات فاشلة. الأمر باختصار يتطلب صبراً وإرادة لمواصلة العمل بدأب، وفق قولها.
طموح بالتحليق عالياً
تطمح حنين إلى أن ترى قواريرها الحجرية في كل منزل، وأن توسّع انتشارها على مستوى المناطق المحيطة، لكنها ما تزال رهن إشارة ظروفها التي تقيدّها وخاصة ما يتصل بمرض ابنتها.
إلا أنها تعمل بحب وبلا توقف رغم ضيق وقت فراغها، وتصر على الاستمرار، وحتى حين يقلّ الطلب من الزبائن تُنتج عددًا من القوارير لتكون على أهبة الاستعداد لتلبية طلبات قادمة.
ولدى السيدة المثابرة أفكار متنوعة، لتحويل المخلفات إلى تحف جمالية تسر الناظرين، كونها عاشقة للطبيعة وشغوفة بعبق التراث الذي تُرى لمسته في قواريرها الحجرية.
وتوصي بضرورة التخلص من فكرة القوارير البلاستيكية، معلّلة السبب: "حتى نقدم للأجيال القادمة بيئة نظيفة خالية من المخلفات للحد من الأمراض التي تتفاقم خطورتها مع تفاقم الملوثات بأشكالها المتعددة".
وترى أن من حق الأجيال القادمة أن تحظى ببيئة صحية، وذلك لا يتأّتى إلا بالتوقف عن تشجيع الاستهلاك المتزايد للبلاستيك، مضيفة: "لو أن كل واحد أجرى التغيير الذي يناسب ما يملكه من أدوات وإمكانيات لاستطعنا توفير بيئة صحية في محيطنا، ولتركنا أثراً ستشكرنا الأجيال القادمة لأجله".
في حين تحذر من استسهال شراء بعض المواد والأدوات التي من شأنها أن تزيد المخلفات والملوثات وأكوام البلاستيك التي يصعب التخلص منها مستقبلاً.
وبعد التجربة، تؤمن حنين أن كل امرأة قادرة على الإبداع وتزيين منزلها باستثمار مواد قد لا تخطر ببالها، لتغدو بين يديها تحفاً فنية.
وفي ختام حديثها، تؤكد أن استلهام الأفكار مما يُنشر في الشبكة العنكبوتية ساعدها كثيراً على التعلم، ونصيحتها للنساء الراغبات بالحصول على فرص عمل: "يمكنكن مواكبة الأفكار التي تتناقلها المنصات الإلكترونية حتى لو أتاحت دخلاً متقطعًا ومتواضعًا".
حسناء الرنتيسي/ لمجلة آفاق البيئة والتنمية