مهندسات يقرعن باب قرية الولجة سعياً لسياحة بيئية مقاومة
بوابة اقتصاد فلسطين
ثلاث مهندسات اجتمعن على مقاعد الدراسة في تخصص "هندسة تخطيط وتصميمٍ حضري" في جامعة بيرزيت.
صداقةٌ لطيفة انعقدت بين يانة عناية، وعلياء جمهور، ودانا مصفر، وزادتها عذوبةً هواية مشتركة لهن تتمثل في الانضمام إلى مسارات سياحية وبيئية في المدن والأرياف الفلسطينية.
تلك المسارات قدّمت للمهندسات الشابات مفتاح الإلهام لــ "مشروع تخرج" يبدو أنه سيقفز من أروقة الجامعة إلى محافل أكبر، حائزاً على إعجاب كل من رأى في الفكرة مفهومًا مختلفًا للمقاومة، والذي حمل عنوان "Ecotourism as a Resistance tool in Walage Village" "السياحة البيئية أداة للمقاومة في قرية الولجة".
المسارات المتنوعة، وخاصة مسار بيت لحم السياحي، كان بمثابة الشرارة التي قدحت، لتُولد فكرة تطمح إلى دمج السياحة بالمقاومة الفلسطينية، تسعى فيها الفتيات لاستنهاض الهمم في سبيل تعزيز ما يُعرف بــ "السياحة المُقاومة" التي ترّسخ جذور الانتماء للأرض، وتُحمّل الأجيال سراج التاريخ والثقافة، كي تستنير به في التصدي لمحاولات التهويد.
نجحت المهندسات في لفت الأنظار نحو المشروع الذي عُرض أمام لجانٍ عدة، وصفّق الجميع بحرارة، معربين عن تأييدهم وحماسهم لتنفيذ الفكرة، ومنهم من قال إن جوهرها أكبر بكثير من إطار "مشروع تخرج" لنيل شهادة البكالوريوس من كلية الهندسة المعمارية.
وليس عجباً أن يترقرق شعور الامتنان في عيون يانة وعلياء ودانا، لأهالي قرية الولجة الذين أظهروا استعدادهم للتعاون ولهفتهم العفوية لتحقيق النتائج، على أمل أن يُنفّذ المشروع بجهودهم ودعم ذوي التخصص.
لماذا الولجة؟
في البداية، درست المهندسات بعناية عدة قرى في الضفة الغربية، وخلُصَ بحثهن إلى أن للولجة تاريخ تليد عاصرت فيه فترات استعمار متعددة، ومرت بالنكبة والنكسة، وتأثرت بما تركه الاستعمار في المنطقة مكانيًا وفيزيائيًا.
تقول المهندسات لــ "آفاق البيئة والتنمية": "اخترنا هذه القرية لأنها حقاً صورة مصغرّة عن فلسطين، حيث كل الأحداث السياسية والجيوسياسية التي حدثت في البلاد تأثرت بها هذه القرية".
وتؤكد الصويحبات بقهر: "لا يتوقف السلب على سرقة الأماكن، إنما تُسرق ملامحها ومعالمها وما يمثل طابعها المعماري، في محاولة من المحتل للقضاء على الجذور وتضييعها".
وبتوضيح أكثر منهن: "الطابع المعماري للمستوطنات الإسرائيلية يشبه طابع القرى الفلسطينية، إلى درجةٍ يصعب فيها التمييز فيما بينها، فتبدو كأنها مستعمرة واحدة".
بين الماضي والحاضر
يجري في القرية 27 عيناً، واهتّم سكانها بزراعة الخضراوات وكروم العنب وبساتين الزيتون في أراضيها.
وكانت بيوتها المُجمّعة، تُشيّد من الحجر والطين والإسمنت، وتفصل بينها أزقة متعرّجة ضيقة.
وعندما شارف الانتداب على نهايته شهدت توسعة كبيرة، وبُنيت منازل جديدة شمال شرق، وجنوب شرق قلب القرية. وفي عام 1948 بلغ عدد سكانها 1910.
القرية كانت تقع على تل كبير، تحديداً على جانب جبلٍ في الجهة الشمالية لوادي الصرار، يمر به سكة حديد "القدس- يافا"، ويربطها بطريقٍ ثانوي من آخرٍ سريع يؤدي إلى القدس.
ويقال إن اسمها يشير إلى الفتحة الطبيعية في سلسلة الجبال التي تمر بها طرق النقل.
وكحال معظم القرى الفلسطينية، تطوّقها المستوطنات، كمستوطنة "جيلو"، و"هار جيلو"، و"جفعات هماتوس"، و"هار حوماه".
جدير بالذكر، وبحسب بيانات الإحصاء الفلسطيني، فقد بلغ عدد سكان الولجة عام 2021 نحو 3 آلاف نسمة، ووفقًا لبيانات مجلس قروي الولجة هناك 17 ألف فرد يعيشون خارج القرية في الأردن.
وذكر تقرير نشر في صحيفة نيويورك تايم عام 1992 أن "الإسرائيليين قد طُردوا من القرية بواسطة هجمات عربية مضادة ناجحة، إلا أن القرية سُلّمت لاحقًا إلى "إسرائيل" وفقًا لـ بنود اتفاقية الهدنة الموّقعة مع الأردن في 3 أبريل عام 1949، ودخل "الجيش الإسرائيلي" الولجة مع ثلاث قرى أخرى في القدس، في الأسابيع التي تلت توقيع اتفاقية الهدنة.
وما يزال عددٌ قليل من المنازل الحجرية قائماً في موقع القرية المغطاة بالركام وأشجار اللوز التي تنمو على المدرجات الغربية للقرية، وفي الشمال.
سابقاً، كان يأمل سكانها في عودةٍ قريبة إلى ديارهم، لذا عاشوا في الكهوف، وبمرور السنين، أخذت تظهر منازل جديدة بُنيت في البداية من الطين، ثم من الطوب، وهكذا أُنشئت "ولجة جديدة" على بعد كيلومترين فقط من مكان القرية القديمة.
خرائط وخطط.. ودراسة متطلبات
"التخطيط المكاني هو جزء من استمرار الصراع بين الفلسطينيين والاحتلال الإسرائيلي على ملكية وحيازة الأراضي".. هذا ما تؤكده معماريات المستقبل، ومن هنا أَرَدنَ بواسطة المشروع دراسة إستراتيجيات محددة للحفاظ على الهوية الفلسطينية.
وفي سياق الحديث تضيف إحداهن: "نأمل أن تُتاح لنا أدوات التخطيط والفرص والإمكانيات اللازمة لتحقيق هدفنا وهو المحافظة على المناطق الطبيعية والثقافية في منطقة الولجة بتنوعها الحيوي، سعياً إلى تعزيز السياحة البيئية المُقاومة للاحتلال".
انكبّت مهندسات التخطيط العمراني على دراسة مستفيضة للمنطقة، وبناءً على المعلومات صِغن التوجهات والإستراتيجيات للفت الأنظار للسياحة البيئية في المنطقة، لكون السياحة أداة لمقاومة سلب الأرض لمدننا وقرانا الفلسطينية.
تفاصيلٌ شائقة خرجت بها تلك الدراسة حول التنوع الحيوي والبيولوجي في القرية، وما فيها من مناطق طبيعية وعيون مياه، وقد تضمنّت خرائط من شأنها أن تخدم خطة المشروع الرئيسة.
كما وضعت المهندسات خطة لمسارات سياحية لمَعالم في الولجة، حيث لكل منطقة خصائص وميزات تختلف عن الأخرى، هناك منطقة العيون، ومنطقة محطة مناطير، ومحطة لأكبر شجرة زيتون في العالم، عمرها حوالي 5500 سنة.
وفي هذه التجربة أَكبرنَ "الإنسان المتشبث بأرضه"، وهنا تتحدث علياء بفخر عن رجل وقف بصلابة في وجه عاصفة السلب لهوية الأرض، وهو عمر حجاجلة، الذي حاول الاحتلال هدم بيته وإخراجه منه لكنه أبى، ولا يمكن لأحد زيارته الا بتصريح.. هذا الشجاع مكتوبٌ على باب بيته "يسكن وراء هذا الجدار اللعين، أخوكم عمر حجاجلة، مع أرقامه".
تفاؤل بسياحة نشطة
في بداية المشوار، ظهرت التقسيمات السياسية وكان هذا أول تحدٍ قابلنه بروح لا ترضخ لواقع ظالم، إذ أصرَّت الخريجات على "الحدود الكاملة للقرية" في إطار تخطيط معين ضمن المشروع الكلي، ليكون هذا البند أول بنود السياحة المقاومة.
وتشير دانا مصفر إلى أن الولجة تحظى بموقع مميز بين القدس وبيت لحم، غير أنها لا تسلم من مضايقات الاحتلال بأدواته المختلفة من جدار الفصل العنصري الذي يلّتف حولها ويحيط بها من ثلاث جهات، إلى جانب الهدم والتضييق على البناء والحركة في بعض المناطق.
هذه القرية لها علامة فارقة أخرى، وهي أن سكانها هُجّروا منها وإليها، حيث فُجّرت بيوتهم القديمة كي لا يعودوا إليها، وقد هُجّروا على فترتين، إبّان النكبة عام 1948 وفي النكسة عام 1967.
وقُسّمت القرية التي في الأساس كانت تتبع لمدينة القدس، جزء استولت عليه "إسرائيل" كلياً، والجزء المتمثل بالبلدة القديمة دُمرّ تمامًا، ليصبح غابة فارغة من السكان، إلا أن ذكريات تركها الكبار يُلمح طيفها في المكان، ممّن هُجّروا إلى الأردن، أو ممن انتقلوا إلى الولجة الجديدة في محافظة بيت لحم.
"ماذا تطلّب المشروع من جهد لإتمامه على خير وجه؟".. تجيب يانة عناية: "كان لا بد من دراسة دقيقة للمناطق المحيطة بالقرية مثل بتّير وبيت جالا، وحرصنا على إرساء ثلاثة ركائز وهي التخطيط الاجتماعي، والسياحي، والاقتصادي".
وتتنبأ ثلاثتهن بسياحة نشطة في الولجة، لمرورها في وادي المخرور وقربها من قرية بتير، كما أن فيها أقدم شجرة زيتون، وتزيدها عيون المياه سحرًا، فضلاً عن "وادي كريمزان" الذي يقع شرقها، وتلك عناصر جاذبة بما يكفي لتكون الخيار الأنسب لتنفيذ المشروع، حسب رأيهن.
دليلٌ مفصل للمجلس القروي
وعن أبرز المخرجات التي يسعيّن لها، تقول علياء جمهور: "نتطلع إلى قرية منتعشة اقتصادية، ومزدهرة زراعيًا، ومتميزة بطابعها السياحي البيئي الفريد والمقاوم، مع الأخذ في الاعتبار التنمية المستدامة وحماية التراث والتاريخ فيها".
ولتحقيق هذه الرؤية، أولت المهندسات اهتماماً لجوانب متنوعة تشمل قطاع الإسكان، والقطاع التجاري، والسياحي، والزراعي، والفراغات المفتوحة في المنطقة ودراسة احتياجاتها، ليستفيد من الخدمات أهل الولجة والسياح على حدٍ سواء.
تساءلت مراسلة "آفاق البيئة والتنمية" عن الخطوط العريضة التي تُفضي إلى "جذب سياحي بيئي"، وأخبّرنها بالتالي: "أن تكون القرية مكتفية ذاتيًا، وهذا يتأتّى بربط التصنيفات المختلفة ببعضها البعض، ومِلْءُ الفراغات التفاعلية في القرية بإنشاء مراكز نسوية، ومراكز للأطفال والشباب، ومراكز تجارية، وكذلك تنظيم مسارات سياحية لدعم هذا القطاع، عدا عن تخصيص منطقة سياحية فيها".
ومن متطلبات النهوض بالمنطقة سياحيًا، تبعاً لكلامهن، توفير بعض الخدمات الأساسية مثل المدارس والصيدليات والحدائق، على أن تُوزع بتوازن في كل حي لتخدم القرية كلها، وتتنوع بين خدمات زراعية وصناعية وسياحية، بحيث يكون لكل حي مواصفات تميزه عن الآخر.
مسارات ثلاثة يطمحن لإطلاقها، وهي مسار في "وادي المخرور"، ومسار في الولجة داخل "الخط الأخضر"، ومسار داخلي للولجة الجديدة وهو أقصرها.
وجدير بالذكر أن القرية تتمتع بنسبة كبيرة من الأراضي الزراعية، إذ تشتهر باللوزيات والمشمش واللوز، حتى أنها كانت "سلة غذائية" للقدس، ما دعا المشروع إلى الحفاظ على هوية الأرض الريفية، وبالتالي قسّمها لقطعٍ طولية بهدف حمايتها من البناء عليها.
مبدئيًا، تلّقى المشروع دعمًا وتأييدًا من البلديات المتحدة لغرب مدينة بيت لحم، ومن مهندسين حضروا من عدة بلديات وجهات.
وبعد أن تستكمل الفتيات العمل على المشروع، يتطلعن إلى وضعه على طاولة مجلس قروي الولجة، ليكون دليلها المدّعم بالخرائط والشروحات والأفكار المنظمة والإبداعية للنهوض بالقرية، لتغدو وجهة سياحة بيئية مقاومة، وتسير على خطاها سائر القرى والبلدات الفلسطينية التي تعنى بالحفاظ على هويتها وتاريخها وحماية ثقافتها من الاندثار.
(المصدر: حسناء الرنتيسي/ مجلة افاق البيئة والتنمية)