كيف تُعزز مناعة الاقتصاد الفلسطيني حول سياسة احلال الواردات وتنويع مصادرها
بقلم: د. سمير حليلة الخبير الاقتصادي
بوابة اقتصاد فلسطين
تنوعت قدرة الدول على التعامل مع الهزات والضغوط الاقتصادية، وخاصة خلال الأزمات الكبرى، مثل أزمة عام 2008 في الولايات المتحدة الأمريكية ثم في الأزمة اللاحقة في عام 2012 والتي ضربت أوروبا بشكل رئيسي.
وقد اتضح خلال هذه الأزمات أن طبيعة الأثر الذي تركته على دولتي ايرلندا وسويسرا مثلاً اختلف عن آثارها المدمرة على دول أوروبية أخرى كاليونان وايطاليا واسبانيا.
وقد أصبح شعار بناء مناعة الاقتصاد وتسليحه بالمرونة والديناميكية في مواجهة الضغوط الخارجية هو الدرس الرئيس، و جوهر السياسات الإقتصادية التي تبنتها بعض الدول خلال هذه الأزمات.
وفي الحالة الفلسطينية، وهي حالة اقتصادية نادرة من حيث أنها تتعرض بشكل دائم ومتلاحق لضغوط سياسية متنوعة، وحصار اقتصادي جزئي في ظل وضع أمني بعيد عن الاستقرار والديمومة.
ولهذا، فهي تحتاج إلى بناء عناصر المناعة في اقتصادها بما يؤهلها ويسلحها لمقاومة الضغوط المختلفة في ظل احتلال طويل المدى، وصراع قد يمتد لأجيال قادمة.
ويرز من هذه العناصر بشكل خاص أهمية بناء قاعدة انتاجية عريضة تستند لمصادر محلية موثوقة، وبناء أسواق وبدائل متنوعة، ومتكاملة، تصمد في وجه الأزمات، إضافة إلى بناء كادر بشري مرن ومتعدد المهارات يستطيع الانتقال بسرعة من قطاع إلى آخر حسب الاحتياج.
وفي التجربة الفلسطينية، لم نستطع أن نستثمر مصادرنا المحلية بشكل فعال وهذا يشمل الأرض والمياه والمصادر الطبيعية الأخرى لأسباب خارجية تعود للاحتلال، أو داخلية تعود لغياب الرؤية والإرادة.
أيضاً لم نستطع الحفاظ على أسواقنا بسبب اجراءات فصل القدس وضمها لإسرائيل في العام 1981، أو فصل غزة وحصارها بعد العام 2007، أودعم المنتج الوطني والسوق المحلي في مواجهة تغول المنتجات الإسرائيلية أو دعم الصادرات الفلسطينية في أسواقها الخارجية بشكل كاف.
كما أن كادرنا البشري قد تم تأهيله وتدريبة ليس لسوق العمل، ولم ننتج سوى خريجي جامعات غير مطلوبين للسوق المحلي ، ولم نستثمر بشكل كافي في التدريب المهني والفني والتقني، وهو صاحب الطلب العالي في السوق الفلسطيني.
وبالطبع فإن ذلك كله تم في غفلة عمرها يزيد عن 25 سنة مرت على صانع القرار السياسي الفلسطيني، وكذلك على أغلب الحكومات المتعاقبة كان فيها للفعل السياسي والأمني مركز الصدارة، بينما ظل الفعل الاقتصادي في الخلفية، وأولوية ضعيفة في الموازنات الحكومية بالرغم من آلاف الصفحات من الخطط الثلاثية أو الخمسية الحكومية التي قدمت لاجتماعات الدول المانحة(AHLC).
وفي هذه القراءة السريعة لعنصر واحد من العناصر الثلاث المكونة لاقتصاد الانتاج، وبالتركيز على التجارة الخارجية وانعكاساتها في بناء قطاعات محلية منتجة في إطار مشروع احلال الواردات التي يمكن استبدالها بالمنتج الوطني، ونستند في هذا العمل إلى احصاءات التجارة الخارجية للسلع والخدمات للعام 2018 الصادرة عن مركز الإحصاء الفلسطيني.
ويشير التقرير إلى أن ورادات فلسطين في العام 2018 قد ارتفعت عن العام 2017 وبلغت6340 مليون دولار بارتفاع نسبته 11.7%، واللافت للانتباه في هذا التقرير أن قيمة واردات قطاع غزة قد بلغت 640 مليون دولار فقط، أي أن حصة الفرد في غزة من الواردات تساوي320 دولار سنوياً بينما وصلت قيمتها في الضفة الغربية إلى 2000 دولار للفرد سنوياً لما يعكس التحول لأنماط استهلاكية بشكل واسع.
وجاءت الواردات الفلسطينية من عشر دول رئيسية أهمها اسرائيل(3632) مليون دولار، وتركيا(658) مليون دولار، والصين(450 ) مليون دولار، بينما كانت الواردات من ثلاث دول عربية لا تتجاوز (371 )مليون دولار بما فيها الأردن ومصر.
إلا أن نظرة تفصيلية على الواردات الفلسطينية تفتح الباب لعشرات الفرص والمشاريع التي يمكن لمستثمرين محليين أو عرب( وكذلك صندوق الاستثمار بالطبع) أن يستثمروا بها بعد إجراء فحص معمق لفرصها.
وبالطبع فإني أعتقد أن سياسة حكومية في مجال الطاقة البديلة تستهدف تخفيض استيرادنا من الكهرباء من اسرائيل على سبيل المثال، من حوالي558 مليون دولار سنوياً إلى أرقام تتراجع سنوياً حسب قدرتنا الاستيعابية لتوسيع قطاع الطاقة البديلة هو المطلوب، مع العلم بأن سرعة الإنجاز في هذا القطاع مازالت بطيئة لأسباب متنوعة وتحتاج لقوة اندفاع حكومي مبني على أهداف محددة مسبقاً وبشكل سنوي.
وفي نفس المجال، فأن استيرادنا للمشتقات البترولية والغاز والزيوت المعدنية، وغيرها بما يزيد عن 1260 مليون دولار هو سبب كاف لفحص البدائل والخيارات المتاحة بما فيها فتح الباب للاستيراد من خارج اسرائيل سواء من الدول العربية أو غيرها، بعد أن فتحت اسرائيل الباب لاستيراد مشتقات النفط من مصادر متنوعة .
أما الإسمنت فهو السلعة المرشحة بشكل قوي لمتغيرات سريعة نسبياً، حيث بلغ استيرادنا منه (193) مليون دولار، وفي هذا المجال فأن المقصود ليس فقط استبدال مصادر الإسمنت الإسرائيلية بمصادر عربية أو أجنبية أخرى، ولكن الإتجاه بشكل سريع لإقامة مطحنة كلينكر في الأغوار الفلسطينية خلال السنوات الثلاث القادمة، وبطاقة انتاجية حول المليون طن سنوياً.
وفي حال أن تم استثناء الواردات الحكومية وهي تشكل حوالي ثلث الواردات الفلسطينية فإن هناك مكاناً واسعاً لتغيرات في بنية الاستيراد، واحلال مئات الملايين من المستوردات واستبدالها بمصادر عربية واسلامية أو بمنتجات محلية.
ويمكن في هذه القراءة السريعة الاستشهاد بعشر مواد أساسية ثبت أن لفلسطين قدرة انتاجية قائمة أو ممكنة فيها.
أولاً: الخضار والفواكة
تستورد فلسطين ما يقارب (206) مليون دولار سنوياً من الخضار والفواكه منها التمور والأفوكادو بقيمة (39) مليون دولار، تفاح ونجاص(26) مليون دولار، موز(18) مليون دولار، الحمضيات(12) مليون دولار، بقوليات (15) مليون دولار،بطاطا(5) مليون دولار، وثوم (5) مليون دولار.
والسؤال هو هل يستطيع القطاع الخاص الفلسطيني في المجال الزراعي أن يعمل بالتعاون مع وزارة الزراعة ولجان حماية المستهلك من أجل خلق بدائل وتغير أنماط الاستهلاك، أو استبدالها بإنتاج فلسطيني أو عربي منافس جودة وسعرا.
يبلغ اجمالي استيرادنا من المياه الغازية(84) مليون دولار، والمياه المعدنية (68) مليون دولار، والعصير(14) مليون دولار، وهي كلها أرقام كبيرة ، تتناقص ووجود عدد كبير من المصانع المحلية القادرة على توسيع استثماراتها لتغطية السوق المحلي.
ثالثاً:الألبان والأجبان
وصل استيرادنا من الألبان والأجبان ومعظمه من اسرائيل إلى (80) مليون دولار، شاملاً الزبدة والألبان المحلاة في ظل وجود صناعة فلسطينية رائدة في هذه القطاعات.
وينطبق على هذه المنتجات ما ينطبق على استيراد العصير والمشروبات الغازية من حيث ضرورة البحث عن آليات تطوير المنتج المحلي ودعمه لتخفيض اعتماد السوق المحلي على هذه المنتجات المستوردة.
رابعاً:الأدوية وملحقاتها
بلغ استيراد فلسطين من الأدوية(138) مليون دولار، وملحقاتها (39) مليون دولار، الفيتامينات(10) مليون دولار، في ظل وجود صناعة ومصانع عريقة وتصديرية، بالطبع ودون أن نكون تحت الانطباع أن فلسطين تستطيع احلال الواردات من هذه المواد إلا أن فحص ونقاش هذا الموضوع بين وزارة الصحة الفلسطينية ومصانع ومنتجي الأدوية، وقطاعات الصيدلة والمستشفيات في فلسطين هو المدخل الأهم لتخفيض الاستيراد ودعم المنتج المحلي للصناعات الدوائية.
خامساً: منتجات السكاكر والبسكويت والخبز
بلغت مستورداتنا من هذه السلع حوالي (170) مليون دولار، منها حوالي (85) مليون دولار خبز ويفر وبسكويت، وسباجيتي(7) مليون دولار، ومحضرات دقيق(43) مليون دولار، وكورنفلكس(9) مليون دولار، وسكر(40) مليون دولار، أما الشكولاتة والكاكو فاستيرادنا منها زادت عن( 96 )مليون دولار ، وفي هذا القطاع من الواضح أن هناك توسع كبير في سوق الاستهلاك وهو بحاجة لتوجيه أوسع في جمعيات حماية المستهلك اضافة لفحص خيارات الاستثمارات المتاحة مع الشركات العاملة في هذا القطاع.
سادساً: السجائر والتبغ
بلغ استيراد فلسطين(172) مليون دولار سنوياً ويعد هذه القطاع من أهم وأخطر القطاعات بسبب كثافة الضريبة المفروضة عليه لما يحقق دخلاً كبيراً للحكومة الفلسطينية، ويحتاج لبناء علاقة حقيقية مع المنتج المحلي ومزارعي التبغ الفلسطينيين.
سابعاً: العلف وأغذية الحيوانات والحبوب
تبلغ واردات الحبوب والأعلاف ما يزيد عن ضعف(261) مليون دولار سنوياً، ويعاني هذا من ضعف القدرة التخزينية والتصنيعية وكذلك القدرة على شراء كميات تجارية كبيرة بأسعارتنافسية، وفي هذا القطاع تحديداً يُعد الحفاظ على الأمن الغذائي الفلسطيني مسؤولية مشتركة للحكومة والقطاع الخاص، ويحتاج لمبادرة استراتيجية تخفض أسعار المستورد، وتضمن تخزين كميات كبيرة منها لأشهر طويلة ، اضافة لتوسيع خطوط الإنتاج المحلية.
ثامناً: البيض
بلغ استيراد البيض (25) مليون دولار سنوياً أما الدجاج فقد بلغ(9) مليون دولار، وذلك أيضاً في ظل وجود استثمار ومزارع فلسطينية متطورة .وقد شهد هذا القطاع عبر السنوات عمليات اغراق للسوق المحلي بأسعار مدعومة لبضائع المستوطنات أو عبرها .
إن الشراكة المطلوبة بين المنتجين ووزارة الزارعة والتعاون مع الضابطة الجمركية كفيل بتنظيم أوسع لهذا القطاع وتخفيض الاعتماد على المنتج المستورد والإسرائيلي.
تاسعاً: الحديد ومنتجاته
بلغ استيرادنا من الحديد ومنتجاته(390) مليون دولار منه قضبان لأعمال البناء بقيمة(100) مليون دولار، ومواسير متنوعة(60) مليون دولار، وتكاد فلسطين لا تملك مصنعاً واحداً للحديد باعتباره استثماراً كبيراً، يحتاج لطاقة كهربائية كبيرة لتشغيله.
وفي هذا المجال اعتقد أن المطلوب هو اقامة شراكة مع احدى المصانع الأردنية أو السعودية للبدء بمصنع لصهر الحديد وتشكيله، بعد توفير الطاقة الكهربائية اللازمة له.
عاشراً: الحجر والرخام
تستورد فلسطين ما قيمته (115) مليون دولار من البلاط والحجر والبورسلان، مقارنة بـ(184) مليون دولار من الصادرات الفلسطينية، في الوقت الذي ينتشر فيه 1200 مصنع ومشغل للحجر والرخام في فلسطين. إن تنظيم هذا القطاع لحماية ما تبقى من شركاته الواعدة والمنتجة أغلبها لأغراض تصديرية هو مسؤولية مشتركة بين وزارة الاقتصاد الوطني والمنتجين من أجل حماية المنتج المحلي ودعم صادراته للأسواق العالمية.
في النهاية قد يكون اختيار القطاعات العشرة المذكورة غير عادل لقطاعات أخرى، وقد تكون الأرقام المذكورة غير دقيقة تماماً لأنها مبنية على الأرقام الجمركية التي تحتوي على أكثر من سلعة، إلا أن الأهم في هذه القراءة هو توجيه المستثمر وصاحب القرار لإمكانية توسيع المنتج المحلي على حساب المستورد وتوسيع الصادرات محلية المنشأ على حساب الصادرات المعاد تصديرها.
بالطبع قد يقول البعض إن المحددات الإسرائيلية دائما ستقفعقبة أمام هذه الاحتمالات إلا أن تجربة العديد من الاستثمارات والفرص، منها زراعة النخيل، والأعشاب وصناعة الإسمنت، كلها تشهد على أن هذه الاحتمالات واعدة بقدر ما توفرت الإرادة للحكومة الفلسطينية أو للقطاع الخاص وشبكاته الإقليمية ومستثمري الشتات الفلسطيني.
إن مهمة بناء اقتصاد انتاجي فلسطيني، وتوفير متطلباته الفنية والمالية هو عنصر جوهري في بناء مناعة الاقتصاد الفلسطيني، وقدرتنا على توسيع تشغيل الأيدي العاملة وحماية مشروعنا الوطني من الضغوط والهزات الخارجية في مرحلة سياسية متقلبة وصعبة قد تستمر لعشرات السنوات المقبلة.