الحرب العالمية الثالثة: اقتصادية مدمرة بإمتياز
منذ أن بدأت روسيا يوم الرابع والعشرين من فبراير/شباط 2022 ما أسمته بعمليتها الخاصة في أوكرانيا، وأسماه معظم دول العالم غزوا روسيا لأوكرانيا، تهاطلت العقوبات الأمريكية والأوروبية الاقتصادية والرياضية والثقافية على روسيا. فلا يكاد يمر يوم دون أن تعلن واشنطن والعواصم الأوروبية عن حزمة جديدة من هذه العقوبات. وشملت هذه العقوبات قطاعات التجارة والاستثمار والقطاع المالي والقطاع المصرفي.
قد يكون مبكراً الحكم على مفاعيل وتبعات هذه العقوبات على الأطراف المباشرة ذات العلاقة بها: روسيا وأوروبا والولايات المتحدة. لكن حجم ونطاق هذه العقوبات غير المسبوق في التاريخ، قد أرسلا أول انذاراتهما ليس فقط لأطرافها المباشرة، وإنما لبقية أعضاء المنظومة العالمية. فقد سجلت أسعار الطاقة والغذاء، ارتفاعات قياسية (كمثال فقط، تجاوز سعر برميل النفط مائة دولار، ووصل سعر الطن المتري من الألمنيوم في سوق لندن للمعادن يوم الخميس 3 مارس/آذار 2022، الى 3700 دولار، وبلغ سعر الطن من النيكل 27.8 ألف دولار، وذلك للمرة الأولى منذ 7 مارس/آذار 2011.
لا ننسى أن الاقتصاد العالمي يواجه تحدي صعود التضخم الى مستويات لم تسجل منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي، ومن المؤكد أن هذه العاصفة من العقوبات، ستضيف جرعة تضخمية وتفاقم مأزق البنوك المركزية التي تضع التضخم على رأس أولوياتها.
كان التأثير الفوري على الاقتصاد الروسي في الأيام الأولى هو الانخفاض الحاد في أسواق الأسهم والأصول المالية. حيث بدأ المستثمرون بتسييل أصولهم الورقية، واتخاذ جانب الحيطة انتظارا للتطورات اللاحقة. علما بأن انكماش أسعار الأصول المالية هو مجرد قيمة ورقية ولا يؤثر كثيرا على المستهلك الروسي أو على الاقتصاد العام. إنما عادة ما يكون الانهيار الكبير للأسواق المالية مصحوبا بانخفاض في قيمة عملة الدولة، ولم يكن الروبل الروسي استثناءً، حيث تراجعت قيمته. وتراجع قيمة العملة يعني أن الدولة يجب أن تدفع أكثر مقابل وارداتها السلعية المستقبلية. ولتعويض تأثير التضخم، قد تفرض روسيا رقابة على الأسعار للحد من تأثير ذلك على المستهلكين في السلع الاستهلاكية الأساسية. ويمكن للبنك المركزي اتخاذ خطوات لوقف تراجع العملة. وقد رفع البنك المركزي الروسي بالفعل سعر الفائدة الى 20في المئة. ولسوف تستعين روسيا بقنوات تجارية بديلة، وفي مقدمتها القناة الصينية، من أجل ضمان تدفق السلع الرئيسية الى أسواقها.
إذا ما شملت العقوبات مبيعات النفط الروسي التي تشكل حوالي 15% من المعروض النفطي العالمي، سيؤدي ذلك إلى اضطراب كبير في أسواق النفط وزيادة تاريخية محتملة في أسعار النفط. لهذا السبب كانت الولايات المتحدة في البداية مترددة في استهداف شحنات النفط والغاز الروسية. لكنها، وبعد أن استنفدت على ما يبدو، أوراق عقوباتها، لم تجد مخرجا لها من هوس العقوبات سوى الانفراد بقرار وقف استيرادها للنفط وللمنتجات النفطية الروسية الى الولايات المتحدة والتي تبلغ حوالي نصف مليون برميل يوميا، من اجمالي صادرات روسيا البالغة 6.5 مليون برميل يوميا. وكانت المفاجأة أن بلدان الاتحاد الأوروبي لم تطاوع الولايات المتحدة هذه المرة ومسايرتها في طريق العقوبات ذات الأثر الارتدادي.
وبالنسبة لخط أنابيب “نورد ستريم “2، فهو لم يغلق وإنما تم تعليقه. فضلا عن أنه لم يفتح أصلا لكي يُغلق. فألمانيا تعتمد بنسبة تفوق 50 في المئة على امداداتها من الغاز الروسي الذي يصلها عبر 7 خطوط أنابيب تتدفق عبر أوكرانيا إلى جنوب شرق أوروبا ومن هناك إلى ألمانيا. إضافة الى خطوط أنابيب الغاز الروسية المارة عبر تركيا الى أوروبا، وخط “نورد ستريم 1” الذي ينقل الغاز من مدينة فيبورغ الروسية الى مدينة غرايفسفالد الألمانية. كما أن أوروبا بمجملها تحصل على 40 في المئة من وارداتها الغازية من هذه الخطوط. وقطع هذه الامدادات يعني انهيار محتمل للصناعات في الاتحاد الأوروبي. وتعمل هذه الأنابيب بكامل طاقتها الآن، ما يعني أن روسيا ستستمر في كسب عملات أجنبية كبيرة من مبيعات الغاز إلى أوروبا. وقيل الكثير عن احتمال حلول صادرات غاز بعض الدول مثل الغاز الأمريكي والغاز القطري والغاز الأذري المسال محل الغاز الروسي الذي تتزود به أوروبا. لكن هذا هدف بعيد المدى، حيث تفتقر ألمانيا إلى مرافق استقبال الغاز الطبيعي المسال التي يستغرق بناءها حوالي خمس سنوات. فضلا عن أن قطر وغيرها ستحتاج الى عامين على الأقل لزيادة طاقتها الإنتاجية من الغاز. وتحاول الولايات المتحدة منذ سنوات الضغط على أوروبا لشراء الغاز الطبيعي الأمريكي بدلاً من الغاز الروسي. لكن تكلفته الباهظة التي تزيد بنسبة 30% عن سعر الغاز الروسي بسبب تكاليف النقل وتكاليف تسييله أولا في بلد المنشأ ومن ثم إعادته الى حالته الغازية في بلد الاستيراد، حال دون ذلك.
خيارات روسيا الاقتصادية قبالة العقوبات الغربية
بعض الخبراء الاقتصاديين الأمريكيين يقولون بأن العقوبات الغربية ضد روسيا، مليئة بالثقوب. وإذا استعصى النفاذ من واحد أو أكثر من هذه الثقوب، فإن لدى روسيا باب خلفي كبير يمكنها من خلاله تبادل الأموال والبضائع مع بقية العالم، إنها الصين بطبيعة الحال. وسيكون هناك دائما مصدر ثالث سوف تسلكه الشركات الغربية (وحتى الحكومات الغربية) المستعدة دائما لعمل كل ما من شأنه عدم انقطاع مشترياتها من السلع الأساسية الروسية. فالعلاقات الاقتصادية الدولية هي أقوى من نزعات الأفراد.
فيما يتعلق بإخراج روسيا من نظام المدفوعات الدولي (SWIFT)، فبعد أخذ ورد، قررت الولايات المتحدة وشركاؤها الأوروبيون عدم اللجوء الى هذا الخيار، واكتفوا باستبعاد 7 مصارف روسية من نظام سويفت من بينها بنك “في تي بي” ثاني أكبر المصارف الروسية، لكنهم اضطُروا للإبقاء على مؤسستين ماليتين كبيرتين، إحداهما مصرف “سبيربنك” أكبر مصرف في روسيا وأوروبا الشرقية والوسطى، نظرا لارتباط هاتين المؤسستين الماليتين الروسيتين بقطاع النفط والغاز الروسي الذي يتهيب الغرب، حتى الآن على الأقل، من ادراجه ضمن حزمة عقوباته. ونظام سويفت (مقره بلجيكا)، الذي يضم في عضويته 11507 مصرفا (حتى نهاية شهر مارس 2020)، موزعين على أكثر من 200 دولة حول العالم، هو الوسيلة التي تقوم من خلالها البنوك الأمريكية والحكومة الأمريكية بمراقبة المعاملات المالية العالمية بين البنوك لتحديد الدولة أو الأعمال التجارية التي لا تطبق العقوبات الأمريكية ضد الدول.
هذه خطوة نوعية جديدة في تاريخ العقوبات على روسيا، ومحفوفة بالمخاطر أيضا. ويمكن أن تأتي بنتائج عكسية، من حيث تركها تأثيرات اقتصادية خطيرة على أسواق التجارة في السلع والخدمات، في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والعالم، لعل أبرزها ارتفاع حاد في التضخم على مستوى العالم. ويمكن توقع ردود فعل روسيا على هذه الخطوة. إذ يمكنها ببساطة استخدام عملة اليوان الصيني في معاملاتها. أو يمكن أن تنضم إلى الصين وآخرين لإنشاء نظام مدفوعات دولي موازٍ يتجاوز نظام سويفت. وهذا اقتراح مطروح على أية حال منذ عام 2012 عندما تطرفت الولايات المتحدة في استخدام سلاح العقوبات لحصد المكاسب. ويمكن لروسيا أيضا الانضمام إلى الصين في استخدام العملة الرقمية، حيث إن الصين في طريقها بالفعل إلى اعتماد العملة الرقمية في معاملاتها الدولية.
والى جانب اعفاء النفط والغاز الروسي من العقوبات بناءً على ضغط شركات النفط الأمريكية على الرئيس بايدن (هذا كان قبل قرار التضحية بمصالح هذه الشركات ومصلحة المستهلك الأمريكي بوقف استيراد النفط والمنتجات النفطية من روسيا)، فإنه تم استبعاد الألمنيوم الروسي من العقوبات تحت ضغط الرؤساء التنفيذيين لصناعة السيارات وصناعة التعليب وشركة بوينغ الذين يعتمدون على واردات الألمنيوم الخام الروسية إلى الولايات المتحدة بما لا يقل عن 10في المئة، إضافة الى اعتماد أوروبا بشكل أكبر على واردات الألمنيوم الروسية. وتتوقع أوساط الصناعة الأمريكية القائمة على المعادن، أن يقوم مستوردو هذه السلع الأساسية من روسيا، بالضغط للحصول بهدوء على إعفاءات مماثلة.
أما فيما يتعلق بمنع البنوك الروسية والمستثمرين الروس من الوصول إلى الأسواق المالية الغربية، فسيكون له تأثير كبير على الاقتصاد الروسي، لأن الشركات والحكومة الروسية كانت في الغالب تلجأ الى أسواق المال الغربية، لاسيما سوق لندن المالي، لطرح سندات الشركات والحكومة الروسية للبيع فيها. وقد تم تصميم العقوبات المصرفية لقطع هذا المصدر. لكن يمكن للبنك المركزي الروسي أن يتدخل هنا ويمتص (يشتري) ديون الشركات والحكومة على حد سواء باعتباره “مشتر الملاذ الأخير” (Buyer of last resort) في الأزمة، تماما كما يفعل الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، والبنوك المركزية الأخرى في الغرب. يُذكر أن روسيا راكمت للطوارئ في خزينتها في السنوات الأخيرة ما يصل إلى يوازي 643 مليار دولار من الذهب والعملات الأجنبية الصعبة (تم التخلص بصورة كبيرة من الدولار الأمريكي بحيث انخفضت حصته في الاحتياطيات الروسية من 46% في عام 2017 الى حوالي 10% حاليا)، تحسباً للخروج من الاعتماد الأمريكي والغربي على الدولار الأمريكي والنظام المصرفي. هذا الخزان النقدي، بالعملات السائلة والذهب، متاح لتعويض العقوبات الغربية على نظامها المصرفي والمالي. ويمكن استخدام هذه الاحتياطيات أيضا لدعم الخسائر المؤقتة التي تكبدها المستثمرون الروس من العقوبات الأمريكية المفروضة على رجال الأعمال الروس.
إتجاه معاكس للعقوبات
لكن لهذه العقوبات الأمريكية اتجاه آخر معاكس، إذ تستطيع روسيا بدورها تجميد أصول المستثمرين الأجانب في البنوك الروسية. وهناك الكثير من ودائع المستثمرين الغربيين في البنوك الروسية الخمسة الكبرى التي تخدم الصناعات الروسية العملاقة المنتجة للنفط والغاز.
أما بالنسبة للعواقب غير المرئية للعقوبات الغربية، فقد تكون أكثر حدةً وراديكالية مما هو مرئي منها. فقد فتّح الغربيون، بعقوباتهم الشاملة وغير المسبوقة، أعين حتى أولئك الساهدين في ملكوتهم الاستثماري، على عواقب الاعتماد على نظام دفع يمكنهم أن يتحولوا فيه فجأة وعلى حين غرة من مرتهنين له حاليا الى ضحايا آخرين جددا. كذلك الحال بالنسبة للاعتماد على العملة الأمريكية التي صارت تتوفر على إشكالات عديدة. هنا لربما سمحنا لأنفسنا بالتنبؤ بصعود دور العملات المشفرة كأدوات دفع في العلاقات النقدية العالمية، لاسيما بين روسيا وشركائها التجاريين في العالم، على حساب الدولار الأمريكي.
جديرٌ ذكره أن روسيا تعد دائناً صافياً في الأسواق الدولية؛ فقيمة أصولها الأجنبية تتجاوز قيمة التزاماتها الأجنبية. إذ بلغ إجمالي أصولها الأجنبية في نهاية سبتمبر/ايلول 2021، 1.62 تريليون دولار مقابل 1.18 تريليون دولار في الخصوم الأجنبية، ما رفع فائض الحساب الجاري في عام 2021 إلى 120 مليار دولار، أي أكثر من 7% من الناتج المحلي الإجمالي.
*الدكتور محمد الصياد اقتصادي بحريني عمل سابقا مستشارا في وزارة النفط مسؤولاً عن ملف المفاوضات المتعددة الأطراف الجارية في إطار منظمة التجارة العالمية ومفاوضات تغير المناخ المتعددة الأطراف. صدرت له حديثا ترجمة لكتاب الاقتصادي الأمريكي جوزيف ئي ستيغليتز المعنون “السقوط المدوي – الأسواق الحرة وغرق الاقتصاد العالمي“.