رفع الأسعار.. ليست المشكلة عند التجار ولا الصناعيين
بوابة اقتصاد فلسطين
كنا نتحدث قبل ايام عن مسألة كيف نبني ونعزز مناعة الاقتصاد الفلسطيني في مواجهة تحديات المرحلة القادمة : ضغوطها وظروفها سواء كانت السياسية او الحياتية في ظل متغيرين هامين: الاول سياسي ، بانتهاء مرحلة اوسلو وما تضمنته من تفاهمات مع الجانب الاسرائيلي والراعي الاميركي حول عملية السلام ونتائجها ، وادارة العلاقة بشكل احادي من قبل اسرائيل ، وانفتاح عناصر الصراع بأوسع أشكاله . والثاني ، اقتصادي له علاقة مترابطة بالجانب الاول من حيث انتقائية اسرائيل في تطبيق اتفاقية باريس وانتهاء جدواها وفعاليتها أصلا منذ عام ١٩٩٩، دونما السماح باعادة التفاوض حولها ، تعديلها او الاضافة عليها . يضاف الى ذلك ظروف اقتصادية عالمية ومحلية أثرت على منطقتنا بشكل كبير منذ سنتين ونيف ، وما زالت ، تركت بصماتها واضحة على تركيبة الاقتصاد الفلسطيني وأداؤه ودخل الفرد السنوي بشكل واسع.
في ظل هذه الظروف برز موضوع ارتفاع الأسعار بشكل كبير منذ اكثر من ستة أشهر وخاصة في المواد الأساسية مثل السكر والطحين ومشتقات البترول والمواد البلاستيكية والزيوت وغيرها . وبسبب ان اغلب اسباب ارتفاع هذه المواد كان خارجيا ، كان رد فعل الحكومة ،وفي اطار قدراتها ، هو الزام المستوردين والمنتجين بالحفاظ على الاسعار القديمة حتى نهاية ٢٠٢١، وتأجيل تطبيق رفع الأسعار .
وفي الموجه الجديده لارتفاع الاسعار ( وهي في أغلبها استمرار للارتفاع العالمي السابق في اسعار المحروقات والقمح والسكر والزيوت)، لجأت ايضا الحكومة الفلسطينية لنفس السياسة وهي الزام التجار والمنتجين بعدم رفع الاسعار حتى نهاية شهر رمضان في ايار القادم !.
وكما هو واضح في الحالتين ان تكلفة امتصاص ارتفاع الاسعار الكبير والهائل على المستوى الدولي وقع على القطاع الخاص المحلي في ظل تطبيق الحكومة لقرار اسرائيل برفع ضريبة الشراء على بعض الزيوت المعدنية والسكر والمواد البلاستيكية ، وبالطبع اسعار المشتقات البتروليه والكهرباء . وليس هذا فحسب ، بل توجيه البعض للنار على المنتجين والتجار وايقاع الضرر بمصالحهم وشاحناتهم باعتبارهم المسؤولين عن هذه الارتفاعات وتوجيه الجمهور لمقاطعة المنتجات الفلسطينية!!.
وآخذا بعين الاعتبار ان بعض المنتجين والتجار كان يمكن لهم ان يتصرفوا بحكمة ومسؤولية أكبر في كيفية التعاطي مع مثل هذه الارتفاعات ، الا ان الموضوع بصراحة ، برمته وكاملا يقع على عاتق الحكومة وليس على عاتق القطاع الخاص. و هذا الكلام ليس من باب المزاوده على الحكومة ولا لتوجيه الضغط عليها الآن ، بل هو لتوجيه الدفة بشكل استراتيجي ، نحو بناء نظام يمكننا من تعزيز الأمن الغذائي والاقتصادي لفلسطين والفلسطينيين، في ظل الشروط والاتفاقيات السائدة، و في ظل سلطة حكم ذاتي محدود!.
ان استيراد او انتاج الحبوب والقمح والاعلاف والارز والزيوت والسكر والملح ومشتقات البترول وما ينتج عنها كاللحوم الحمراء والبيضاء هي مسألة في صلب دور الحكومات في المنطقة العربية وفي العالم الثالث . وتعتبر دول كبرى مستقلة مثل مصر والاردن وغيرها ان دعم هذه المنتجات هو من مسؤولياتها الدائمة ( بالرغم من اعتراض البنك الدولي وصندوق النقد على ذلك). وما يدفع هذه الدول لذلك بالطبع ، هو ارتفاع معدلات الفقر والبطاله بشكل واسع فيها مما يجبرها على ضبط اسعار هذه المواد عند حدود تسمح للفقراء بالعيش فيها!!.
وبسبب وضعنا وامكانات حكومتنا العتيده ، فاني لا أدعو في هذه المرحلة الى توفير مثل هذا الدعم ، بل ما أراه ممكنا ومنذ زمن ، هو تولي الحكومة لمسؤولية استيراد وتخزين المواد الأساسية وبناء الصوامع والصهاريج اللازمة لتخزينها لفترة ثلاث اشهر على الأقل ، لممارسة دورها الأصيل في توفير الأمن الغذائي للجمهور. ان ما يعرض فلسطين لارتفاع الاسعار وبشكل أعلى من اي بلد مجاور هو ان المواد المستوردة كالحبوب والاعلاف والزيوت والسكر يتم استيرادها بكميات صغيرة تتلاءم وقدرات التجار ومخازنهم ، وهي أعلى بكثير من الأسعار المتوفرة في اي من بلدان الجوار بما فيها اسرائيل !. وهل سعر طن القمح والسكر حمولة باخرة كاملة هو نفس سعر شراء مئة طن من هذه المواد ( يد ثانية)..! وهل تكلفة التخزين في صوامع فلسطينية هو مثل تكلفة التخزين في صوامع حيفا..!؟
اما ضريبة الشراء ، وأسعار المشتقات البترولية وهي ملزمة لنا بحكم اتفاقية باريس ، فان مجال التفاوض في كيفية تطبيقها مفتوح ، ولا يحتاج فقط لوزارات تنفذها فورا ، بل نحن بحاجة لحكومة تدرك الآثار المتوقعه لهذه الارتفاعات على مستوى معيشة الفلسطيني وتبحث في السبل الكفيلة لمنع الضرر ، او تأجيله ، او دعمه ، ودائما ضمن امكانياتها.
كلمة اخيرة ايضا ذات علاقة .. ان الريع الذي تجنيه الحكومة من الاستيراد سواء كان على شكل جمارك او ضريبة مضافة او ضريبة شراء هو مصدر الدخل الاساسي لها ، وهذا يجعلها تلقائيا غير معنية بدعم الانتاج المحلي الا لفظيا. وبالرغم من ادراكنا للثمن المباشر الذي ستدفعه الحكومة في حال تحولها لدعم اقتصاد الانتاج ، الا ان هذا المسار لا مفر منه اذا أردنا مواجهة الضغوط والصعوبات السياسية والاقتصادية وتعزيز مناعة الاقتصاد وبناء صمود المواطن الفلسطيني.
ان دعم زراعة القمح والذرة والحبوب الاساسية في فلسطين هو مسؤولية متواصلة على الحكومة من اجل شراء هذه المنتجات وتخزينها باسعار مقبولة باعتبارها تعزز صنود البدوي والفلاح الفلسطيني وتزرع اراض بعلية معظمها اراض مصنفة ج وتضمن محصولا محليا أساسيا بالحد الادنى عند الأزمات.
هل كل ذلك له علاقة بالاتفاقيات الاقتصادية ..؟!وهل هناك ما يمنع تنفيذه من قبل الحكومة ..؟! وهل له علاقة بامكانيات الحكومة ..؟! او باسرائيل ..؟! اعتقد جازما ان كل ذلك وكثير غيره يمكن عمله لتحقيق الأهداف التي بدأنا فيها، والمطلوب هو فقط قرار على أعلى المستويات ( او حتى أقل من ذلك)، لتغيير اتجاه التفكير الاقتصادي ليتلاءم مع التحديات الجديده.