الكاتب: عمر رمضان صبرة-باحث قانوني:
يعتبر التحكيم وسيلة من وسائل حل النزاعات بالطرق السلمية، وقد أصبح التوجه للتحكيم في عصرنا هذا، أحد أهم أدوات التجارة الدولية؛ كونه يجلب الاستثمار ويشجعه، فقد لا تجد عقداً من عقود التجارة الدولية إلا وقد يشترط وجود بند التحكيم عند وقوع المنازعات، أو الخلافات بتفسير نصوص العقود التجارية، فقد يتذرع أحد الأطراف للآخر بأنه لا يعرف النظام القانوني والقضائي لدولته فيشترط التحكيم حتى لا يلجأ للقضاء في تلك الدولة.
ويعد قانون التحكيم رقم (3) للعام 2000 ولائحته التنفيذية للعام 2004 هو التشريع القانوني الساري بفلسطين لكافة أعمال التحكيم.
إن مفهوم التحكيم يتغير من مجتمع إلى آخر بسبب اختلاف المفاهيم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والقانونية، فقد عرفت مجلة الأحكام العدلية (القانون المدني المطبق في فلسطين) التحكيم: "عبارة عن اتخاذ الخصمين شخصا آخر حكماً برضاهما، لفصل خصومتهما ودعواهما، ويقال لذلك حَكَم بفتحتين ومُحكم بضم الميم وفتح الحاء وتشديد الكاف المفتوحة".
وقد عرف القانون الفلسطيني التحكيم: " اتفاق التحكيم هو اتفاق بين طرفين أو أكثر يقضي بإحالة كل أو بعض المنازعات التي نشأت أو قد تنشأ بشأن علاقة قانونية معينة تعاقدية كانت أو غير تعاقدية، ويجوز أن يكون اتفاق التحكيم في صورة شرط تحكيم وارد في عقد أو اتفاق منفصل". وقد عرفت محكمة النقض المصرية التحكيم: "اتفاق على عرض نزاع معين على محكمين أو هو اتفاق على طرح النزاع على شخص أو أشخاص معينين للفصل فيه دون المحكمة المختصة به".
فيما عرفه الفقيه المصري د. أحمد أبو الوفا بأنه "اتفاق على طرح النزاع على شخص أو أشخاص معينين ليفصلوا فيه دون المحكمة المختصة".
إن التحكيم يعد قضاء من نوع خاص ولنوع خاص من المنازعات، فقد قسم الفقهاء التحكيم إلى عدة أنواع:
- التحكيم الداخلي والتحكيم الدولي: إنّ قانون التحكيم الفلسطيني في المادة (3) قد حدد الحدود المحددة بين التحكيم الداخلي والتحكيم الدولي، فالتحكيم الداخلي هو الذي يجري في فلسطين، ولا يتعلق بالتجارة الخارجية، علما بأن القانون شمل المنازعات التجارية والمدنية، فإنه أيضا مكان صدور الحكم (هي الدولة التي اتفق الأطراف على أن تكون مقر التحكيم) هو الذي يحدد بينهما، فإن كان في فلسطين عُدّ داخليا.
أما التحكيم الدولي فإنه هو ذلك التحكيم الذي يخضع للنزاعات التي تكون فيها أكثر من دولة، فالتحكيم الدولي التجاري هو ما ينصب على المعاملات التجارية. وقد حدد القانون الفلسطيني متى يكون التحكيم دولياً، كأن يكون النزاع التجاري مرتبطاً بالتجارة الدولية...إلخ حسب نص المادة.
- التحكيم الحر والتحكيم المؤسسي: يعد التحكيم الحر "الخاص" هو ذلك التحكيم الذي يقوم على حرية الاختيار فأطراف النزاع يلجأوا للمحكمين بإرادتهم وباختيارهم للمحكم، وهم الذين يختارون الإجراءات، وهم يختارون طريق التحكيم باختيارهم الحر دون الالتزام بإجراءات خاصة بالمؤسسات. أما التحكيم المؤسسي فهو ذلك التحكيم الذي يحال التحكيم فيه إلى مؤسسة حيث تقوم هذه المؤسسة بإجراء التحكيم وفق النظام الداخلي لها، ويكون متخصصاً، ويلجأ المتخاصمون للمؤسسات؛ لاعتقادهم بأنه أكثر احترافية وقدرة على سلامة الإجراءات. علما بأن مراكز التحكيم بالعشرات حول العالم، كغرفة التجارة الدولية بباريس، والمركز الإقليمي للتحكيم التجاري الدولي بالقاهرة، ومركز القدس للتحكيم بفلسطين ...الخ.
- التحكيم الأجنبي: استنادا لقانون التحكيم الفلسطيني الفقرة الثالثة من مادة (3) حيث إن التحكيم عندما يجري خارج فلسطين يكون أجنبيا؛ اعتمد المشرع في تحديد التحكيم الأجنبي على المعيار الجغرافي؛ لكي يتم تحديده كأجنبي، وهذا ما أخذ به المشرع الفلسطيني؛ ولكن بالمقارنة مع المشرع المصري فقد أخذ معيارين، هما: أن يكون التحكيم خارج مصر، وأن يكون القانون المطبق على النزاع هو قانون أجنبي.
ما هي أهمية التحكيم المصرفي
يعد القضاء هو الأصل في الدولة لفض المنازعات المصرفية، حيث إن القانون هو الذي يسمح بالعمل للتسوية القضائية والتحكيم؛ للنظر في فض المنازعات بالإضافة للقضاء، ومن أهمية ومزايا التحكيم لأطراف النزاعات ما يلي:
- تحقيق السرعة والسهولة في فض المنازعات إن القضاء العادي يتّبع مجموعة من الإجراءات القانونية والشكلية؛ للحفاظ على المراكز القانونية وتحقيق المبادئ العامة للتقاضي ووجود التقاضي على درجتين، كل ذلك يؤدي لإطالة أمد التقاضي حتى يمكن أن يصل إلى سنوات، وهذا الأمر لا يكون مناسبا لفض المنازعات التجارية التي تحتاج للسرعة، وكذلك لتحقيق الفرص البديلة فيلجأ إلى التحكيم وفق الإجراءات التي تحدّدها الأطراف؛ ولكن في حال عدم الاتفاق يقوم المحكم باتّخاذ الإجراءات المناسبة للنزاع، علما بأن التحكيم يتم وفق مدة زمنية محدده وقصيرة، ويتم في أي وقت، وفي أي مكان، وكذلك سهولة في الإجراءات، ولا يتم الطعن في القرارات التحكيمية إلّا بقرارات البطلان. كل هذه الإجراءات الثانوية لا يهتم بها المحكم؛ ولكن عليه أن يهتم بالإجراءات الرئيسة، والتحكيم المؤسسي يكون لدى نظام تحكيمي خاص بالمؤسسة.
- السرية إن التحكيم هو تحكيم سري، ولا يطّلع عليه إلا المحكم والمتخاصمون؛ عكس القضاء العادي الذي يكون علنياً، والحكم القضائي دائما يصدر بشكل علني، أما حكم التحكيم فيكون سريا. قانون التحكيم الفلسطيني بالمادة (41) منه قد فرضت السرية وعدم النشر إلّا بموافقة الأطراف أو المحكمة المختصة، وكذلك اللائحة التنفيذية لقانون التحكيم قد فرضت السرية بعقد الجلسات إلّا بموافقة أطراف النزاع. والتحكيم بالمصارف الإسلامية يحافظ على السرية بين الأطراف المتنازعة، ولا يطّلع عليها أحد غير الأطراف والمحكمين، عكس القضاء.
- المحافظة على العلاقات المستقبلية لأطراف النزاع إن التحكيم هو ميزة لأطراف النزاع عند اللجوء إلى التحكيم بعيدا عن القضاء؛ فالتحكيم هنا يبقى محافظا على العلاقات المستقبلية، ولا يؤجج البغضاء بين الأطراف، والتحكيم بين الشركاء بشركات الأشخاص، وكذلك بالشركات العائلية يبقي محافظا على العلاقات المستقبلية بينهما، ويحل الخلاف بطريق ودية، وإن التحكيم ينظر إلى أهمية العلاقة الحالية والمستقبلية للشركاء المتخاصمين، عكس القضاء الذي لا ينظر إلّا للواقعة المتنازع عليها وفق القانون.
- تشجيع الاستثمار إنّ المستثمر عندما يقيم البيئة الاستثمارية؛ فإنه ينظر إلى البيئة القانونية، ووجود التحكيم، كما ينظر للمزايا والحوافز الاستثمارية، فقانون تشجيع الاستثمار الفلسطيني من ضمن حوافزه وجود قانون التحكيم بفلسطين. وعلى الرغم من مزايا التحكيم إلّا إنه يشوبه بعض العيوب التي تعيق التحكيم، منها:
- غياب الوعي بمعرفة التحكيم: إن ثقافة التحكيم في فلسطين ما زالت ضعيفة؛ حيث إن القضاة لا يشجعون على التحكيم، ولا يدعمونه؛ بل حتى التسوية القضائية غير فعالة في فلسطين، مع العلم بأنها من اختصاصات القاضي ضمن قانون أصول المحاكمات المدنية والتجارية، وكذلك وزارة العدل الفلسطينية لا تقوم بدور توعي تثقيفي بشكل فعال، وكذلك جمعية المحكمين الفلسطينية مازالت لا تقوم بالدور والواجب المطلوب منها نحو التثقيف لأهمية التحكيم ودوره وثقافته حتى يحقق الهدف.
- القضاء العادي هو المختص بفض المنازعات: يري بعض من رافضي التحكيم بأن القضاء العادي هو الوحيد المخوّل بفض المنازعات؛ لأنه يمس سيادة الدولة، وأن القضاء هو الوحيد المخوّل بفض المنازعات، وهو الأقرب لتحقيق العدالة، وأن التحكيم لا يحقق العدالة. وإنني أرى أنّ هذه الحجة لرفض التحكيم واعتباره يمس سيادة الدولة مبرراً غير مقبول؛ لأن الدولة قد وضعت تشريعاً متكاملاً حول التحكيم، وهي من سمحت بالتحكيم وفق الإجراءات المنصوص عليها بالقانون، وأنشأت دائرة بوزارة العدل تختص في التحكيم، وكذلك إن القضاء العادي تنقضه الخبرة في الأمور الفنية؛ بل يوقف الإجراءات القضائية للاستعانة بالخبير في الأمور الفنية المتوفرة لدى المحكم والخبير.
- ضعف المحكمين في الإجراءات التحكيمية: أعتقد أن عدم قدرة المحكمين على معرفة سلامة الإجراءات التحكيمية، والعمل وفق ما ينص عليه قانون التحكيم من إجراءات، وضعف التحكيم المؤسسي في فلسطين دفع الكثير من المتخاصمين إلى عدم اللجوء إلى التحكيم؛ لأن أحدهما سيقوم بنقض قرار التحكيم أمام القضاء العادي، ويتم اللجوء إلى القضاء العادي مرة أخرى، وهذا أحد أسباب عدم لجوء المصارف الإسلامية إلى التحكيم؛ لخوف المصارف الإسلامية من عدم إصدار أحكام التحكيم بعدالة وعدم الخبرة بخصوصية المصارف الإسلامية.
- كثرة المصاريف التحكمية: إنّ مصاريف التحكيم المالية هي تكاليف مالية عالية مقارنه بتكاليف القضاء شبه المجانية في الدولة، حيث إن تكاليف التحكيم هي بحاجة لمبالغ مالية كبيره؛ ولكن الحرية في اختيار المحكمين ذوي الخبرة والكفاءة هي الميزة الوحيدة، وإنّ ارتفاع التكاليف المالية للتحكيم هي من مساوئ التحكيم؛ مما دفع الكثير من مؤسسات التحكيم إلى تخفيض أسعار خدمات التحكيم، كما فعلت غرفة التجارة الدولية بباريس.
ما هي المنازعات التي يجوز التحكيم المصرفي فيها؟
تعد كافة المنازعات خاضعه للتحكيم إلّا ما تم استثناؤه بنص القانون، حيث نص قانون التحكيم بالمادة (4) منه وحدد الأمور التي لا يجوز التحكيم فيها وهي ثلاثة أمور، وهي المسائل المتعلقة بالنظام العام، والمسائل التي لا يجوز فيها الصلح قانونياً، والمسائل المتعلقة بالأحوال الشخصية.
ختاماً: إنني أدعو إلى إنشاء مركز تحكيم متخصص بفض المنازعات المصرفية؛ على أن تكون أعمال هذا المركز متخصصة في فض منازعات الأعمال المصرفية، وأن يكون القائمون عليه ذوي خبرات مصرفية وقانونية ذات العلاقة، وبإشراف مباشر ومشترك ما بين "سلطة النقد الفلسطينية" وجمعية البنوك الفلسطينية؛ ليكون أول مركز متخصص في التحكيم المصرفي في كافة أعمالها المصرفية، وأن يكون هذا المركز بتكلفة مالية بسيطة وقريبه للتقاضي أمام المحاكم، وعلى أن يكون المحكمون مؤهلين وذوي خبرة وتخصص مصرفي وقانوني، ونجاح هذه التجربة يؤسس لتشجيع الاستثمار وزيادة الفرصة البديلة لسرعة البت في المنازعات المصرفية.