خمسة أسباب لأعمق أزمة مالية تواجهها السلطة الوطنية
بوابة اقتصاد فلسطين: مع صرف وزارة المالية لرواتب موظفي القطاع العام عن شهر تشرين الثاني الماضي بنسبة 75% ، تكون السلطة الوطنية قد دخلت مرحلة مالية هي الأخطر منذ تأسيسها، فالأمر لا يتعلق باقتطاع مؤقت لرواتب الموظفين، بقدر ما يتعلق بغياب مؤشرات قريبة لحل الأزمة المالية المتراكمة منذ عدة سنوات.
لماذا حصلت الأزمة المالية؟
الصحفي أيهم أبوغوش يشير في تقريره الذي نشر في صحيفة الحياة الجديدة، أنه ومنذ تأسيس السلطة الوطنية تعتمد إيرادات الخزينة العامة على ثلاثة موارد أساسية، وهي ضريبة المقاصة التي أطلقت اصطلاحا على مجموعة من الضرائب والجمارك التي تفرض على البضائع والسلع المستوردة، وتشكل أكثر من 60% من مجمل إيرادات السلطة الوطنية، وتقوم إسرائيل بجبايتها نيابة عن السلطة على الحدود والمعابر مقابل عمولة بنسبة 3%، والرسوم الضرائب المحلية (مثل رسوم خدمات السير والمواصلات، وضريبة الاملاك، الخ) وتشكل في العادة ما نسبته 15-20%، والمساعدات الخارجية وكانت تشكل أكثر من 20% من حجم الإيرادات.
عاما بعد آخر، عملت السلطة الوطنية على رفع مساهمة إيرادين أساسيين في ظل تراجع المساعدات والمنح الخارجية، وهما ضريبتا المقاصة، بتشجيع عمليات الاستيراد من ناحية، وضبط التهرب الضريبي من ناحية ثانية، فمثلا تظهر البيانات الصادرة عن وزارة المالية هذا العام تحسنا في الإيرادت المحلية، إذ ارتفعت إيرادات ضريبة المقاصة بنسبة 25% على أساس سنوي، لتصل إلى 2.389 مليار دولار حتى نهاية تشرين الأول الماضي، كما زادت الإيرادات المحلية خلال الفترة نفسها بنسبة 31% إلى 1.276 مليار دولار.(حسب تصريحات سابقة لوزير المالية د. شكري بشارة).
طالما أن إيرادين ماليين مهمين للسلطة الوطنية أخذا بالتحسن الواضح، فلماذا إذا تدخل السلطة الوطنية في أزمة مالية خانقة؟
الجواب باختصار يعود لخمسة أسباب رئيسية، الأول هو انخفاض قيمة المساعدات والمنح الأجنبية، فمنذ عام 1994 وحتى نهاية عام 2017 ، وصلت المساعدات الخارجية المقدمة لفلسطين إلى 36.5 مليار دولار أميركي، منها 35.4 مليار دولار أميركي على شكل منح، أي بمعدل سنوي وصل إلى نحو 1.3 مليار دولار، لكنها اخذت في التناقص في السنوات الأخيرة إلى حدود نصف مليار دولار سنويا (العام الماضي وصلت إلى 1.67 مليار شيقل اي نحو نصف مليار دولار أي اقل من المتوقع بنسبة 50%)، ثم وصلت قيمتها هذا العام حتى تشرين الاول الماضي 224 مليون شيقل (نحو 70 مليون دولار فقط أي 16% فقط من حجم المتوقع من الموازنة). بمعنى آخر لم ترد للموازنة العامة نحو نصف مليار دولار كانت مخططة أن تصل من المنح والمساعدات ما فاقم من قيمة العجز المتوقع.
السبب الثاني للأزمة هو الاقتطاعات الإسرائيلية للأموال الفلسطينية في ضريبة المقاصة، فقد تجاوزت قيمة الخصومات والاقتطاعات الإسرائيلية المجحفة من المقاصة، والتسربات المالية في ملفات تماطل الحكومة الإسرائيلية في تسويتها، حاجز 1.4 مليار دولار منذ بداية العام 2021، حسب تصريحات لبشارة اي نحو 42% من عجز الموازنة.
إن قيمة الخصومات والاقتطاعات الإسرائيلية المجحفة من المقاصة، والتسربات المالية في ملفات تماطل الحكومة الإسرائيلية في تسويتها، تتجاوز 1.4 مليار دولار منذ بداية العام 2021.
وكانت إسرائيل بدأت باقتطاع 15 مليون دولار شهريا من إيرادات المقاصة، تحت هذا البند، اعتبارا من كانون الثاني 2019، وارتفعت إلى 30 مليون دولار شهريا منذ تموز 2021.(بدل ما تدفعه السلطة الوطنية عن مخصصات أسر الأسرى والشهداء)
تُضاف إلى هذه الخصومات اقتطاعات شهرية، بلغت منذ مطلع العام الحالي 451 مليون دولار (257 مليون دولار كهرباء، و98 مليونا للمياه و34 مليوناً رسوم معالجة مياه عادمة، و62 مليونا عمولة جباية وبدل خدمة).
وتبلغ قيمة عجز الموازنة الفلسطينية المقدر حتى نهاية العام بـ 960 مليون دولار، لكنها قد تنخفض إلى 560 مليون دولار في حال أفرجت إسرائيل عن الأموال التي اقتطعتها بشكل أحادي الجانب، خلافاً لأحكام القانون والأعراف الدولية والاتفاقيات الثنائية.
أما السبب الثالث، فهو ارتفاع حجم الإنفاق الحكومي، بسبب ارتفاع قيمة فاتورة الرواتب، إذ أشار وزير المالية شكري بشارة إلى أنها قفزت في العام 2021 لتصبح حوالي 300 مليون دولار بارتفاع نسبته 10% جراء إعادة ما لا يقل عن 6 آلاف موظف وإعادة صرف علاواتهم وبدلاتهم، إضافة إلى تكلفة التعيينات والترقيات والعلاوات الجديدة.
ويتعلق السبب الرابع بتكاليف الحكومة في محاربة وباء كورونا، والتي وصلت منذ بداية العام 2021 مليون دولار ، بواقع 40 مليوناً للمطاعيم و30 مليون دولار بدل لوازم مخبرية وطبية، و118 مليون دولار لتحديث البنية التحتية التشغيلية والصحية، و12 مليون دولار وظائف إضافية في قطاع الصحة.
في حين أن السبب الخامس هو إنفاق السلطة الوطنية على قطاع غزة دون تحقيق اية ايرادات منها. فقد بلغت نسبة الانفاق الحكومي على غزة نحو 35% من إجمالي الموازنة العامة .ويتوقع أن يرتفع الإنفاق إلى 1.734 مليار دولار بنهاية العام (بدل كهرباء وماء وصحة ونفقات تشغليلة، ونفقات تطويرية).
استنفاد خيار الاقتراض
رغم التحسن في الايرادات المتحصلة من المقاصة والرسوم المحلية، ونتيجة للأسباب الخمسة سابقة الذكر، اضطرت السلطة الوطنية للاقتراض على مدار العامين الماضيين تحديدا بوتيرة أعلى من المعتاد لسد النقص الناجم عن زيادة النفقات، لكنها اولت أهمية كبرى لدفع رواتب موظفي القطاع العام البالغ عددهم نحو 141 ألف موظف على حساب التزامات اخرى مثل مستحقات القطاع الخاص.
وشهرا بعد آخر، ارتفعت وتيرة دين الحكومة لصالح البنوك العاملة في فلسطين ليصل إلى نحو 2.4 مليار دولار مؤخرا بعدما كان فقط 1.47 مليار دولار مع نهاية العام 2017، أما الدين الخارجي فيبلغ قرابة 1.3 مليار دولار، ليصل مجموع الدين العام إلى قرابة 3.7 مليار دولار.
لكن حجم الديون الأخرى على السلطة الوطنية تزيد عن ذلك، فقد قدر بشارة حجم متأخرات القطاع الخاص بنحو 646 مليون دولار حتى نهاية تشرين الأول الماضي، منها 90% (584 مليون دولار) لمقدمي الخدمات الصحية، بواقع 369 مليون دولار للمستشفيات الخاصة، و210 ملايين دولار لموردي الأدوية.
وقدر الفريق الأهلي لدعم شفافية الموازنة العامة مؤخرا إجمالي الديون المترتبة على الحكومة لصالح صندوق التقاعد بنحو 9 مليارات شيقل اي نحو 2.8 مليار دولار. وبالمجمل تصل حجم الديون المتراكمة على الحكومة إلى نحو 7 مليارات دولار.
إلى ذلك، لم يعد القطاع المصرفي قادرا على منح الحكومة أية قروض جديدة، ما دفع السلطة الوطنية إلى الاعتماد على ما توفر في خزينتها من ايرادات مالية مكنها من دفع 75% فقط من فاتورة الرواتب.
وتشير البيانات الصادرة عن سلطة النقد إلى أن حجم التسهيلات الائتمانية الممنوحة لموظفي القطاع العام مع نهاية العام 2020 بلغت نحو 1.7 مليار دولار بزيادة بنسبة 6.7% مقارنة مع العام 2019، وهي تشكل 17% من حجم التسهيلات الممنوحة في فلسطين البالغة نحو 10.5 مليار دولار، ومع اضافة الدين الحكومي المحلي (2.4) مليار دولار فإن حجم قروض الحكومة وموظفيها يصل إلى نحو 4.1 مليار دولار أي ما بنسبة 40% من حجم التسهيلات الائتمانية في فلسطين.
وحسب تقرير لسلطة النقد فقد شكل الائتمان الممنوح للحكومة وموظفيها ضعف حقوق ملكية القطاع المصرفي تقريبا أي بنسبة 197% مقارنة مع 158 % مع العام 2019.
وقال الصحفي المختص في الشأن الاقتصادي جعفر صدقة لـ"الحياة الاقتصادية" إن الأمر لا يتعلق فقط بقيمة قروض الحكومة وموظفيها من حجم التسهيلات الائتمانية، لكن حجم الأزمة يشمل فئة من القطاع الخاص أخذت قروضا من البنوك ولديها اموال لدى وزارة المالية، لذا يصل حجم الاستفادة عمليا من التسهيلات الائتمانية باحتساب ديون الحكومة وموظفيها ومتلقي الخدمات منها إلى نحو 60-70% من حجم التسهيلات الائتمانية.
واكد أن تأخر الحكومة عن تسديد مستحقات القطاع الخاص يحد من إمكانية حصول كثير من الشركات والمقاولين على قروض والاستفادة من التسهيلات الائتمانية.
ووصف صدقة هذه الأزمة بأنها الأخطر منذ تأسيس السلطة الوطنية، ليس لاقتطاع 25% من نسبة الرواتب، بل لعدم وجود أفق قريب لحل للأزمة. وأضاف" الأزمات السابقة كانت تتعلق بحجز اسرائيل لأموال المقاصة، أما هذه المرة، فإن أموال المقاصة تتدفق، لكن خيار الاقتراض لم يعد موجودا، والحل بات يتعلق بالافراج عن الأموال التي تقتطعها اسرائيل وباستئناف المساعدات الخارجية كما كان عليه الوضع في السابق".