هل الصحفي الاقتصادي محلل؟
هذا سؤال نوجهه دوما في الدورات التي نقدمها للصحفيين وخريجي الجامعات والجواب باختصار، الصحفي لا يمكن له أن يكون محللا اقتصاديا مهما بلغ من العلم والمعرفة وإنما ما يكتبه او ينقله هو أحد أمرين، إما يعد نقلا لا تدخل له فيه بالمطلق وإنما دوره فقط أن ينقل المعلومة، أو هو رأي شخصي كونه نتيجة حصيلته المعرفية، وفي كلا الحالتين القاعدة الأساسية التي تحكم الصحفي الاقتصادي أسوة ببقية أنواع الصحافة الأخرى "الخبر مقدس والتعليق حر". أي باختصار هناك فنون صحفية يمنع على الصحفي أن يقول رأيه فيها، إنما هو ينقل المعلومة، اما رأيه وإن أخذ ذات أبعاد تحليلية أحيانا بناء على تجربة أو خبرة أو معطيات معينة فهو ليس رأي خبير حتما.
في قضية الأسعار والغلاء، يلجأ الصحفي عادة إلى الواقع للتحقق من مصادر مختلفة ومنها التجار والمستوردون وحماية المستهلك والمختصون الاقتصاديون والجهة الرسمية، بالإضافة إلى قراءة أرقام واقعية صادرة عن جهات رسمية تعكس مدى التضخم خلال الفترات السابقة، ومن ثم يعكس كل هذه الآراء والمعطيات في مادته الصحفية.
التوقعات حول غلاء بعض السلع الأساسية منذ بداية هذا الشهر كان بناء على عدة قراءات منطقية وليست عاطفية أولها أسعار السلع عالميا منذ عدة أشهر وفي الشهر الأخير تحديدا والطلب العالمي المتزايد وسط قلة العرض، ثانيا ما حصل من ارتفاعات على بعض السلع خلال الأشهر الأخيرة محليا، ثالثا واقع الاقتصاد الفلسطيني القائم على الاستهلاك والاستيراد وهويته القائمة على مبدأ السوق الحر" اي دون تدخل للجهات الحكومية في الأسعار"، ورابعا والأهم هو رأي جمعية حماية المستهلك والتجار وواقع السوق...الخ.
هل حصلت الارتفاعات في الأسعار؟
الغلاء جزء منه قد وقع فعلا على مدار أشهر سابقة او ربما منذ عام من الآن، عودة للأرقام الصادرة عن الجهاز المركزي للاحصاء سيتضح أن مؤشر غلاء المعيشة ارتفع في الفترة من كانون الاول-2019 إلى ايلول 2021 بنسبة 1.36%، اي أن غلاء المعيشة عمليا في فلسطين حتى الشهر الماضي اعلى من فترة ما قبل كورونا، بمعنى أن كل 100 شيقل خسرت 1.36 من قيمتها الآن بفعل ارتفاع الأسعار مقارنة مع ما قبل الجائحة. بينما وصلت نسبة التضخم في الأسعار في الضفة على مدار عشر سنوات نحو 20% أي أن كل 100 شيقل عمليا فقدت 20 شيقلا من قيمتها في السوق.
وعودة إلى مجموعة السلع الغذائية سيتضح أن الأرقام تقول أن قيم الارتفاعات فيها وصلت خلال هذه الفترة (كانون الاول2019 لغاية ايلول 2021) إلى 2.88%، أي أن نسبة الارتفاع في السلع الغذائية اعلى من الغلاء في المؤشر العام.
ولكن ماذا بشأن التوقعات بارتفاعات تصل قيمتها إلى 15 - 20% في بعض السلع؟
هذه التوقعات إلى حد بعيد واقعية، ولم تفصل قيمة الرفع المتوقع عن الفترة السابقة التي حصلت فيها ارتفاعات اخرى، وهي بالمناسبة صادرة عن جمعية حماية المستهلك وعن مستوردين يتعاملون مباشرة مع السوق ومع البضائع المستوردة، اي أنهم الأدرى فعلا بمدى التوقع بما سيحصل، وهذه التوقعات في جزء منها اصاب الواقع فعلا، فأسعار السكر ارتفعت إلى هذا الحد وكذلك زيت الذرة (تأكدوا من ذلك من أماكن سكناكم)، أما القمح والأرز تحديدا فلم يقع الارتفاع عليهما ولكن السؤال: لماذا؟
باختصار يحسب للحكومة قرارين في ظل الحديث عن موجة غلاء جديدة، الأول هو التحقق من مدى الكميات التي استوردها التجار وفق الأسعار القديمة، والاتفاق على عدم رفع الأسعار على هذه السلع، وثانيا قرار الحكومة بعدم اسقاط رفع إضافي على لتر المحروقات لهذا الشهر رغم ارتفاعه عالميا، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه ما هي قدرة الحكومة على أن تبقى هذه التدخلات فاعلة كي تكبح جماح الغلاء؟
للإجابة على هذا السؤال نقول: إن القرار الأول اتخذ بناء على اجتماع ودي بين وزير الاقتصاد الوطني والمستوردين الكبار الذين وافقوا على عدم رفع الأسعار على المنتجات التي استوردوها بالتسعيرة القديمة (وهي تكفي حسب تقديراتهم حتى نهاية العام)، مقابل تشكيل لجنة ثلاثية من الوزارة والمستوردين وممثلين عن القطاع الخاص، لدراسة الفواتير الضريبية الخاصة بالمنتجات التي ستستورد بالأسعار الجديدة، وسط مراهنة على حدوث أمر ما يؤدي إلى نزول الأسعار عالميا خلال الشهرين المقبلين، وهو احتمال ضئيل في ظل الطلب العالمي على هذه السلع، وبالتالي فلنتذكر جيدا أن الخطوة الحكومية رغم أهميتها حتى الآن غير انها لن تكون كافية لوقف موجة الغلاء الجديدة على القمح والأرز وبعض السلع والخدمات ربما مع مطلع العام الجديد.
أما بالنسبة لأسعار الوقود، ما حصل أن السلطة الوطنية قررت عدم رفع فارق الاغورتين على سعر الليتر لهذا الشهر فقط، وهو الأمر الذي يعني خسارة الخزينة العامة المثقلة بالديون نحو 20 مليون شيقل في شهر واحد، فهل ستكون السلطة قادرة على تفعيل هذا الخيار لأشهر إضافية في حالة استمرار أسعار النفط بالتحليق عاليا؟!
حسب رأيي بالطبع لا، ليس لأن الحكومة لا ترغب في حصول المواطن على سعر محروقات معقول، بل لأن هذا البند (البترول) مورد أساسي للخزينة العامة، فقيمة ما تجنيه السلطة الوطنية من ضرائب الوقود تصل الى نحو مليار دولار سنويا، بينما تعاني من عجز في موازنتها يصل سنويا إلى قرابة مليار دولار كذلك، هذا بالطبع مع تدفق ما تجنيه من ضرائب الوقود، فهل يمكن اتخاذ خطوة بدعم طويل للوقود إذا ما استمرت أسعار النفط في العلالي؟ شخصيا استبعد ذلك، خاصة أن الحكومة تبحث كل شهر عن سد العجز بالاقتراض وسط وصول هذا الخيار إلى سقفه الاعلى، مع العلم أن الدين العام عمليا يصل إلى قرابة 4 مليارات دولار وبحساب ديون القطاع الخاص المتراكمة سيصل المبلغ الى قرابة 6 مليارات دولار وبحساب ديون صندوق التقاعد سيصل الدين عمليا إلى قرابة 8 مليارات دولار.
وبناء على ما تقدم ومرة اخرى ليس من منطلق دور المحلل بالمطلق، وإنما من دور الصحفي الملامس للواقع، الباحث عن الحقيقة، يمكن القول إن التدخلات الحكومية لوقف موجة الغلاء الممتدة (وربما الأقسى) إذا ما استمرت أسعار السلع الأساسية وأسعار البترول وفق معطياتها العالمية حاليا، وإذا ما استمرت المعطيات حول النمو في الاقتصاد الاسرائيلي، فإن السوق الفلسطيني كما في كل المراحل سيكون منكشفا تماما وسيستورد هذا التضخم حتما، لكن ثمة فارق حينها بين اسرائيل التي بامكانها تعويض المستوطنين فيها برفع الأجور. فرق كبير بين اقتصاد (اسرائيل) التي تصل موازنة الحكومة فيها الى قرابة 200 مليار دولار وبين موازنة السلطة الوطنية التي تصل الى5.5 مليار دولار بعجز سنوي مليار دولار!
فرق كبير بين ناتج محلي قوامه السنوي 400 مليار دولار وبين ناتج محلي قيمته 16 مليار دولار، رغم أن كلاهما ضمن غلاف جمركي واحد!
فرق كبير بين دخل فردي لا يتجاوز الـ3300 دولار سنويا وبين دخل يصل إلى 40 ألف دولار سنويا!
فرق كبير بين حد أدنى من الأجور وصل الى 6 آلاف شيقل شهريا وبين اقتصاد يبحث عن تطبيق الحد الأدنى ليصبح 1880 شيقلا!
باختصار، الصحفي الاقتصادي لا يبحث عن الإثارة وإنما عن الحقيقة، والحقيقة تقول صحيح أن هناك ارتفاعا على أسعار بعض السلع حصل منذ عدة أشهر، وهذا ما تعكسه الأرقام الرسمية نفسها، لكن موجة أخرى ستضرب السوق المحلي قريبا، ربما جرى تأخيرها شهرا أو شهرين بفعل تدخلات حكومية محدودة استنفدت (حسب اعتقادي) مداها أو في طريقها لذلك، والموجة الجديدة آتية لا محالة، وهذا "ليس هبلا على فكرة"، وليس تحليلا، وإنما ملامسة للواقع.