الرأسمال الكولونيالي الإسرائيلي يقتل الآلاف سنويا بسبب تلويثه للهواء الفلسطيني
ينتشر التلوث الهوائي الخطير والمميت في العديد من المناطق الفلسطينية، ليس فقط تلك المحتلة منذ عام 1967، بل أيضا المحتلة منذ عام 1948؛ وذلك بسبب جشع رأس المال الكولونيالي الصهيوني اللا محدود، والهادف إلى مراكمة أكبر قدر من الأرباح المالية الضخمة في قطاعات الصناعة والزراعة والخدمات، ولو على جثث ليس فقط الفلسطينيين، بل الإسرائيليين كذلك.
الخبير البيئي الإسرائيلي، "مور جلبوع"، نشر مقالا في صحيفة "جلوبس" الاقتصادية (28 آذار، 2019)، كشف فيه بأن احتمال الوفاة من تلوث الهواء (في "إسرائيل") أكبر من احتمال الوفاة بسبب التعرض لإصابة بصاروخ أو لعملية "إرهابية" (حسب تعبيره) أو لحادث طرق مجتمعا. بحسب ذات المقال، فإن أكثر من 2500 إسرائيلي يموتون سنويا بسبب تلوث الهواء، نصفهم بسبب الصناعات الملوثة، والنصف المتبقي بسبب التلوث الناتج عن قطاع المواصلات.
رغم ذلك، فإن قوى رأس المال الصهيوني والحكومة الإسرائيلية التي تجسد مصالحهم، تواصل عملية توسيع الصناعات الملوثة وسط المراكز السكانية، مثل حيفا وأسدود. ومن بين الدول الأعضاء أل 35 في منظمة التعاون والتنمية / OECD (وفقا لمعطيات عام 2017) تعد "إسرائيل" من أكثر الدول تلوثاً هوائيا؛ إذ أن تركيز الجسيمات الخطرة في الهواء أعلى من "إسرائيل" في ثلاث دول فقط أعضاء في تلك المنظمة (بولندا، التشيلي والمكسيك).
البيانات الإسرائيلية، وبخاصة تقرير "مراقب الدولة" الإسرائيلي المنشور في أيار الماضي، تؤكد بأن الجهات المسببة للتلوث، سواء أفراد أو شركات أو مؤسسات، غالبا ما لا تلاحق أو تعاقب على تسببها بأذى لصحة المواطنين في "إسرائيل"؛ فما بالك بالأذى الصحي الخطير الذي تسببه المشاريع الصناعية الصهيونية الملوثة للفلسطينيين في مختلف أنحاء الضفة الغربية، حيث لم يسجل خلال العقود الماضية، قرار إداريٌ أو حكم قضائي واحدٌ ضد المنشآت الصهيونية المدمرة للبيئة الفلسطينية وللصحة العامة في الضفة.
كما وفي "إسرائيل" ذاتها، معظم حوادث التلوث لا تواجه بإجراءات إدارية أو جنائية، بل، في أحسن الأحوال، يتم التعامل معها من خلال تسويات شكلية. فعلى سبيل المثال لا الحصر، خلال الأعوام 2014-2018، معظم ملفات التحقيق الخاصة بمتسببي التلوث (أكثر من 77%) تم إغلاقها دون لوائح اتهام. لوائح الاتهام قدمت في أقل من ربع الملفات فقط، والتي لا تتجاوز 1.7% من إجمالي حالات التلوث الإسرائيلية الخطيرة خلال ذات الفترة.
محطات الطاقة الإسرائيلية الملوثة، لا تزال تولد معظم الكهرباء في إسرائيل من خلال مواد ملوثة، وتحديدا الفحم والغاز الطبيعي؛ علما أن نسبة إنتاج الطاقة الإسرائيلية من الغاز الطبيعي ارتفعت كثيرا خلال السنوات الأخيرة. الغاز الطبيعي يعد من المسببات الكبيرة للاحتباس الحراري، وإن بمدى أقل من الفحم. واقع الطاقة الإسرائيلي يسير باتجاه معاكس للتوجه العالمي الذي أشارت إليه الوكالة الدولية للطاقة (IEA) في تقريرها السنوي، حيث بينت بأنه خلال عام 2016 شكلت مصادر الطاقة المتجددة، وفي مقدمتها الطاقة الشمسية، أكثر من 65% من إجمالي الإنتاج الجديد للطاقة التي أضيفت عالميا.
حاليا يوجد شبه إجماع عالمي بأن مستقبل البشرية يكمن في الأنظمة الشمسية القائمة على تخزين الطاقة في البطاريات. والمفارقة، أن سعر الطاقة الشمسية في "إسرائيل" نحو 15 أغورة لكل كيلو واط ساعة، بينما سعرها العالمي لا يتجاوز 3 سنت أميركي (نحو 10 أغورات). سبب هذه الفجوة في الأسعار، رغم المستوى التكنولوجي الإسرائيلي المتقدم، هو القوة الكبيرة التي تتمتع بها الطغمة الرأسمالية الإسرائيلية المتحكمة بالثروة الغازية المنهوبة.
وفي ظل "التبجح" الرسمي بتفوق "إسرائيل" في مجالات تكنولوجيا الطاقات المتجددة، تبخرت في السنوات الأخيرة أكثر من خطة حكومية إسرائيلية للتحول نحو الطاقة الخضراء، وآخر هذه الخطط المتلاشية، تلك التي أقرتها الحكومة عام 2010، وشُطِبَت من الموازنات الحكومية الإسرائيلية للسنوات القادمة؛ علما أن الخطة كانت تهدف إلى تخفيض نحو 16 مليون طن من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون، والحصول على عائد أكبر بـِ 15 مرة من حجم الاستثمار، وذلك حتى عام 2020.
اللافت أن انبعاثات ثاني أكسيد الكربون للفرد الإسرائيلي تعد من الأعلى عالميا، إذ تبلغ نحو 11 طن سنويا للفرد (صحيفة هآرتس، 20/9/2018)، بينما انبعاثات الفرد الفلسطيني لا تتجاوز 0.5 طن سنويا؛ أي أن متوسط انبعاثات الفرد الإسرائيلي تعادل 22 ضعف انبعاثات الفرد الفلسطيني؛ بل هي أكبر من معظم الدول الأوروبية حيث المواصلات العامة والحفاظ على الطاقة أكثر تطورا من "إسرائيل".
وللمقارنة، عام 2020 سينتج المغرب 42% من طاقته من مصادر متجددة، وفي عام 2030 ستصل نسبة الطاقات المتجددة (من إجمالي الطاقة) في ألمانيا إلى 45%. "إسرائيل" هي الدولة الوحيدة من بين دول ألـ OECD التي ليس لديها أهداف مطلقة لخفض انبعاثات غازات الدفيئة، ورسم الموازنات المترتبة على ذلك، حسب اتفاقية باريس لعام 2015.
الأردن الذي يعد "متخلفا" تكنولوجيا، بالمقارنة مع "إسرائيل"، تَفَوَّقَ على الأخيرة في مجال استعمال الطاقة الشمسية؛ علما أن بإمكان هذه الطاقة تلبية معظم الطلب الإسرائيلي على الطاقة خلال ساعات النهار، وذلك بتكلفة بيئية واقتصادية متدنية إلى حد كبير، بالمقارنة مع تكلفة الغاز الطبيعي المنهوب. وفي هذا السياق، يمكننا القول بأن تأثير الأحزاب الإسرائيلية الخضراء، في المستويات البيئية-الاقتصادية-السياسية، هامشي ولا يقارن بالمشهد الحزبي الأوروبي حيث حققت الأحزاب الخضراء إنجازا انتخابيا باهرا في انتخابات البرلمان الأوروبي؛ بينما فشلت الأحزاب الخضراء الإسرائيلية في مجرد الاقتراب من نسبة الحسم في الجولات الانتخابية المتعاقبة للكنيست (البرلمان) خلال العقود الأخيرة.
المركز والمحيط
الصناعات الإسرائيلية العسكرية والمدنية الكبيرة والملوثة للبيئة، مثل مجموعة "بازان" التي تمتلك مصانع تكرير النفط في مدينة حيفا ومصانع بتروكيميائية أخرى تابعة لها، تشكل قوة اقتصادية-سياسية جبارة تمتلك تأثيرا حاسما على القرارات الحكومية لصالحها، من خلال قوى الضغط التي تتمتع بها في الوزارات والدوائر الحكومية المختلفة. هذا ما يفسر، على سبيل المثال، استمرار عيش مدينة حيفا، منذ عقود طويلة، في ظل المصانع ومداخنها الغازية الخطرة التي تهدد الصحة العامة في تلك المنطقة. ويبقى الحديث حول نقل المصانع الإسرائيلية الملوثة في حيفا إلى مناطق أخرى، مجرد أمنية بعيدة المنال لثلة هامشية صغيرة من نشطاء البيئة الإسرائيليين.
الأهم من ذلك، أن "إسرائيل"، على غرار البنية الداخلية للدول الغربية الأخرى، تتعامل مع فلسطين التاريخية وفقا للمنطق الامبريالي المعروف بالمركز والمحيط؛ فالضفة الغربية تعتبر منطقة المحيط، كما أيضا مناطق جنوب فلسطين (مثلا المناطق المحيطة بقطاع غزة) وصحراء النقب؛ وذلك باعتبار أن تل أبيب ومحيطها تعتبران المركز. لذا، منذ عقود، دأبت "إسرائيل" على نقل العديد من الصناعات الإسرائيلية الملوثة إلى الضفة الغربية وبعض مناطق جنوب إسرائيل والنقب، ناهيك عن تحويل الضفة إلى مكب ضخم للنفايات الإسرائيلية الخطرة. من هنا فإن نحو ثلثي النفايات الإسرائيلية الخطرة، بما فيها مخلفات الصناعات العسكرية، أي نحو 200 ألف طن، يتم التخلص منها ودفنها سنويا في أراضي الضفة الغربية (آفاق البيئة والتنمية، شباط 2019). العديد من مناطق الضفة الغربية (الخليل، سلفيت، طولكرم، محيط القدس الشرقية ...) تحولت إلى مدافن للنفايات الإسرائيلية أو مواقع لمعالجتها وتدويرها. ومن المعروف أن صناعات تدوير النفايات ومعالجتها لا تزال ملوِّثة؛ ما يفسر معارضة الإسرائيليين بشدة إقامة منشآت معالجة النفايات بمحاذاة مناطق سكنهم في "إسرائيل".
كما أن "إسرائيل" تشغل في الضفة الغربية (المحيط) الكسارات والمقالع التي تمعن في تدمير المشهد الإيكولوجي ونهب الموارد الطبيعية الفلسطينية، وتعمل على إنشاء كسارات جديدة في الأراضي التي سلختها من أصحابها الفلسطينيين. ومنذ بضع سنوات، منعت وزارة البيئة الإسرائيلية توسعة الكسارات القائمة في إسرائيل" ذاتها، أو إنشاء كسارات جديدة، لكنها تشجع وتمنح التراخيص لعمل عشرات الكسارات الإسرائيلية في الضفة والتي تزود نحو ثلث طلب السوق الإسرائيلي لمواد البناء.
المنشآت والمناطق الصناعية الإسرائيلية الملوثة، ومنشآت ومدافن النفايات، والكسارات ومقالع الحجارة الإسرائيلية في الضفة، فضلا عن المشاريع الزراعية الضخمة (وبخاصة في الأغوار الفلسطينية)، تتمتع بمحفزات مالية وخصومات ضريبية ودعم حكومي كبير؛ ما جعل وجودها وعملها في الضفة أكثر ربحية بكثير من إنشاء تلك المرافق داخل "إسرائيل". جميع هذه الصناعات والمنشآت الاقتصادية الإسرائيلية تتعامل مع أراضي الضفة باعتبارها "الجنة الاقتصادية الموعودة" التي تسمن صناديقها المالية بمليارات الدولارات سنويا.
وبالطبع، الرأسمال الضخم المنهوب من البنية الاقتصادية-الصناعية-الزراعية الإسرائيلية في الضفة يشمل الموارد الطبيعية الفلسطينية المتجسدة أساسا في المياه المنهوبة والأراضي والمساحات الواسعة المستولى عليها لصالح المنشآت الاقتصادية الإسرائيلية والمستعمرات والقواعد العسكرية الصهيونية.
وبخلاف قطاع غزة حيث الوجود الفلسطيني المقاوم، الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية يعتبر أساسا مشروعا اقتصاديا مربحا جدا، يضمن لأصحابه الصهاينة مبالغ ومداخيل مالية هائلة. وكما الحال في أي نظام استعماري-رأسمالي، ينشط المشروع الاقتصادي لهذا النظام على حساب الموارد الطبيعية لأصحاب الأرض الأصليين واستغلال قوة عملهم الرخيصة.
الهيمنة اللصوصية وتدمير التوازن الإيكولوجي
نظرية المركز الإمبريالي الإسرائيلي والمحيط الفلسطيني الملحق بذلك المركز، تنسحب أيضا على الفضاء العربي الأوسع. إذ أن "إسرائيل"، منذ قيامها، مرورا باتفاقيات كامب ديفيد مع نظام السادات واتفاقيات أوسلو، وانتهاء بغزوها السياسي-الأمني-الاقتصادي الأخير لدول الخليج العربي، ارتبط ادعاؤها بأنها حريصة على "السلام" مع الدول العربية، بالمخطط الاقتصادي الامبريالي-الصهيوني الهادف إلى بناء العلاقة الاقتصادية مع الوطن العربي على أساس كون "إسرائيل" المركز الإمبريالي، أما المحيط العربي فليس أكثر من محيط تابع ومتخلف. تحقيق هذا الهدف شكل أهم دوافع الاحتلال الصهيوني لمزيد من الأراضي العربية عام 1967، وفيما بعد اتفاقيات كامب ديفيد وأوسلو.
ومن خلال ترويجها لـِ "السلام الاقتصادي" واتفاقيات التعاون الاقتصادي"، تهدف "إسرائيل" إلى تصدير التكنولوجيا والخبرة الصهيونية مقابل استيراد الأموال العربية، ليتحول المحيط العربي إلى سوق للبضائع ومزرعة للتجارب الصهيونية، بينما تتحول "إسرائيل" إلى مركز مالي وصناعي وسياحي يستقطب إليه العرب من دول الخليج وغيرها مع أموالهم؛ ما سيعمق أكثر تجزئة وتفتت الوطن العربي وتبعيته وتخلفه. وضمن هذا المنظور الصهيو-أميركي الاستراتيجي الشامل لـِ "السلام"، تربط "إسرائيل بين "السلام" الضروري "لأمنها" الاستراتيجي من جهة، وبين "نزع السلاح" المقاوم، وتدمير الأسلحة الإستراتيجية التي بحوزة بعض الأقطار العربية والإسلامية من جهة أخرى؛ وبالطبع، دون أن يمس ذلك "إسرائيل" وترسانتها النووية ورخائها وازدهارها الاقتصادي وتقاسمها مع العرب مياههم وثرواتهم الباطنية. هذا ما سعت وتسعى إليه "إسرائيل" من خلال الاتفاقات الاستعمارية التي أبرمتها أو قد تبرمها مستقبلا مع بعض الأنظمة العربية والرموز الفلسطينية.
خلاصة القول، المشروع الاستعماري-الاستيطاني الصهيوني لن يتخلى عن هيمنته اللصوصية على الأرض والموارد العربية بعامة، والفلسطينية بخاصة، وبالتالي تدميره للتوازن الإيكولوجي والمناخي في المنطقة العربية، وسيواصل تثبيت وجوده الاقتصادي والصناعي والتكنولوجي والعسكري والاستيطاني، ما دام مشروعا مريحا، بل ومربحا اقتصاديا، وما دام يفرض وجوده بالقوة العسكرية المباشرة وغير المباشرة (بالوكالة).