إفشال صفقة القرن يوجه اسرائيل نحو تطبيق خطة "آلون"
بوابة اقتصاد فلسطين
لم يعد خافيا على أحد سعي الإدارة الأمريكية مع شركائها العرب في المنطقة نحو تسوية القضية الفلسطينية وإنهاء الصراع العربي الإسرائيلي ضمن مشروع سياسي شامل ليس آخره التطبيع العربي مع الكيان الصهيوني والذي يراد له أن يمر من تحت الغطاء الفلسطيني، بل سيمتد إلى مزيد من السيطرة (الأمري – إسرائيلية) على مقدرات دول الخليج تحت غطاء تحجيم الدور الإيراني في المنطقة.
ويبدو أن بواكير صفقة القرن قد بدأت بالجفاف تحت وطأة التعنت الفلسطيني في شطري الوطن (الضفة الغربية وقطاع غزة) الرافض لأي صيغة تجتزئ الحق الفلسطيني في كامل حدود الـ (67)، وحق العودة، والقدس عاصمة لفلسطين، فلا صفقة ولا تسوية من غير شريك فلسطيني.
ونتيجة لهذا الموقف الفلسطيني، سيضطر الجانب الإسرائيلي إلى استكمال "خطة آلون" الاستعمارية القاضية ومنذ العام 1970 بفرض سياسات الأمر الواقع من خلال العودة إلى قواعد "النفس الطويل" الرامية إلى تشويه التركيبة الديموغرافية للضفة الغربية لصالح المستوطنين اليهود ضمن خارطة استيطانية مدروسة ستضمن القدرة على التواصل الجغرافي مع دولة الاحتلال، على حساب معازل سكانية فلسطينية سينتهي بها الأمر إلى أقاليم جغرافية منفصلة (إقليم الشمال وإقليم الوسط وإقليم الجنوب وإقليم غزة) يديرها مجالس محلية مستقلة عن أي إدارة مركزية.
استكمال المخطط
لطالما كثر الجدل في أروقة المطبخ السياسي الإسرائلي خلال العقود الماضية حول أولوية فصل أو ضم الضفة الغربية لدولة الاحتلال، ونادرا ما كانت أصوات الفصل تعلو، ويذكر التاريخ هنا أن آخر من نادى بسياسات الفصل الكامل كان رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق اسحاق رابين الذي دفع حياته ثمنا لذلك عام (1995)، لتتعالى بعده الأصوات المنادية لاستكمال مشروعي "آلون" و"شارون" الاستيطانيين والقائمين على فرض ديموغرافيا الأمر الواقع من خلال تهويد أكبر للضفة الغربية ضمن مستوطنات منفصلة في مراحلها الأولى، متصلة عند طرح الحل النهائي لتبتلع بذلك "ضمن الرؤيا الحالية للاستيطان" أكثر من (40%) من أراضي الضفة الغربية التي لا تشكل بالأساس سوى (21%) من إجمالي مساحة فلسطين التاريخية.
وعلى الرغم من أن قانون يهودية الدولة الذي أقره الكنيست الإسرائيلي في يوليو 2018 يبدد كل المخاوف الديموغرافية لدولة الاحتلال، إلا أنه ومن خلال تحليل الخارطة الاستيطانية، نجد أن معدل نمو اليهود في مستوطنات الضفة الغربية تجاوز (9.5%) سنويا خلال السنوات العشرين الماضية، مع تراجع لمعدلات نمو الفلسطينيين فيها لقرابة (2.5%) سنويا. أي أن ما قد لا تستطيع الدبلوماسية الأمريكية والإسرائيلية تمريره ضمن مشروع صفقة التسوية ستتمكن فوضى الديموغرافيا من تحقيقه خلال السنوات القادمة.
الشكل المتوقع للدويلات الفلسطينية
رغم تحفظ عرّابي صفقة التسوية عن الإفصاح عن تفاصيلها، إلا أن التسريبات الإسرائيلية من جهة، والهواجس الرسمية الأردنية والفلسطينية من جهة أخرى، تشيران إلى صفقة لا تعدو في جوهرها تسريعاً لخطة الضم، وسواء تمت صفقة القرن بصيغتها المتوقعة أو تُركت لتنضج وفق مخطط الضم الديموغرافي الاستيطاني، ففي الحالتين سنصل إلى ذات النتيجة، معازل جغرافية غير قابلة للحياة إلا بإرادة إسرائيلية.
فمن خلال تتبع خارطة الاستيطان الإسرائيلي في الضفة الغربية من مستوطنات صناعية وزراعية وعسكرية وسكنية، ومن خلال جدار الفصل العنصري، يمكن أن نفهم وبوضوح مخطط الضم على النحو التالي:
أي أن تلك المعازل ستخلق أقاليم فلسطينية منفصلة في شمال ووسط وجنوب الضفة الغربية، على غرار إقليم قطاع غزة، إضافة إلى خلق عازل أمني على امتداد الحدود مع الأردن.
تمويل مبرمج
ترمي خطة الضم الإسرائيلية بصيغتها الحديثة إلى تفكيك مقومات الإدارة المركزية الفلسطينية في رام الله، والاستعاضة عنها بنماذج تنموية بديلة قائمة على أسس الحكم الإقليمي الرشيد، وهو ما دأبت برامج التمويل الخارجي "الاتحاد الأوروبي في المقام الأول" على تكريسه من خلال الدراسات الممولة وورش العمل وصناديق التمويل والإقراض للبلديات ومجالس الخدمات المشتركة من أجل ضمان قدرة أكبر للمعازل الإقليمية الفسطينية على ترتيب مستقبل متطلبات التمويل والتخطيط والإدارة والحكم الرشيد.
ويبقى السؤال الأكبر هنا عن مقدمات وطبيعة نظام الحكم الذاتي المتوقع، الأمر الذي يقودنا أولا للتفكير مليا بظاهرة انتشار السلاح بين الأفراد في الضفة الغربية، سواء بشكل شخصي أو لصالح أفراد وجهات معينة، مع تغاضي الاحتلال الإسرائيلي عن تلك الظاهرة التي لا تشكل أي خطورة على أمن دولة الاحتلال كونها لا تصب في خانة المقاومة، بل في خانة التمكين والحسم العائلي والعشائري الذي تسعى إسرائيل لأن يشكل الصيغة المرشحة وبقوة ليحل محل قيادة السلطة الفلسطينية.
وأعتقد أن تجربة الانسحاب الإسرائيلي أحادي الجانب من قطاع غزة عام 2005 ما كانت سوى تطبيق عملي وبالون اختبار على مدى قدرة أي إقليم فلسطيني مقترح على التأقلم والصمود أمام عشرات السيناريوهات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والتي نجح الاحتلال في تمريرها بالكامل على سكان القطاع.
التنسيق الأمني... الكرت الرابح
مما لا شك فيه أن اتفاقيتي أوسلو وباريس بشقيهما السياسي والاقتصادي قامتا على قاعدة التنسيق الأمني بين الفلسطينيين والإسرائيليين، حيث رُبطت مقومات الحياة الاقتصادية للفلسطينيين من مساعدات ومقاصة ومعابر بالالتزام بذلك التنسيق.
والسؤال الذي بدأ يُثار في أواسط النخب الفلسطينية يتمحور حول جدوى الالتزام الفلسطيني بقواعد التنسيق الأمني في ظل احتجاز أموال المقاصة من قبل الاحتلال الإسرائيلي وانقطاع المساعدات الأمريكية.
لطالما لجأت القيادة الفلسطينية إلى التلويح بحل السلطة الفلسطينية أو الانسحاب من اتفاقيتي أوسلو وباريس، أو إلغاء التنسيق الأمني بعد كل تجاوز إسرائيلي للحقوق السياسية والاقتصادية الفلسطينية، وفي كل مرة كان الجانب الإسرائيلي يدرك أن تلك التلويحات مجرد ردود فعل إعلامية لا يجرؤ الفلسطينيون على تنفيذها نظرا لكلفتها الباهظة.
لكننا اليوم أمام حقيقة أن الجانب الفلسطيني قد بدأ فعلا بدفع كامل التكلفة، وبدأت مفردات انهيار السلطة الفلسطينية وتقدم الإدارة المدنية الإسرائيلية في الحياة العامة الفلسطينية تطغى على المشهد الفلسطيني، ومع ذلك لم تلجأ القيادة الفلسطينية بعد إلى أبسط أدوات الرد، وهي أداة وقف كامل التنسيق الأمني لا مجرد التلويح بها، والمطلوب هنا أن تلجأ القيادة إلى هذا الكرت الرابح من أجل المقايضة على الحقوق الاقتصادية والسياسية، وذلك بالتزامن مع عودة قواعد منظمة التحرير الفلسطينية إلى المشهد السياسي الفلسطيني على أساس التمثيل الكامل للقوى والفصائل والفعاليات الفلسطينية في الداخل والشتات ضمن عودة استراتيجية لمركزية وإجماع القرار الفلسطيني.
خلاصة القول أنه علينا كفلسطينيين مواجهة مخططات تقسيم وتهويد وضم الضفة الغربية لا من خلال الاكتفاء بالدبلوماسية الفلسطينية الناعمة، بل من خلال إتقان فن الدبلوماسية الممزوجة بأدوات الضغط الأمني والفعل المقاوم، مع تقديم التنسيق الفلسطيني على التنسيق مع الاحتلال، الأمر الذي يتطلب تضافر الجهود وتجيير الخلاف بين فصيلي فتح وحماس لصالح إنجاز صيغة وطنية تكاملية لا إقصائية تحت مظلة منظمة تحرير فلسطينية جامعة للكل الفلسطيني.