الرئيسية » الاخبار الرئيسية » أقلام اقتصادية »
 
28 أيار 2019

قراءة هادئة في الأزمة المالية التي تواجه السلطة

بقلم: مؤيد عفانة
باحث في قضايا الموازنة العامة

  تُواجه السلطة الوطنية الفلسطينية أزمة مالية خانقة، بدأت منذ ثلاثة أشهر خَلَت، ومستمرة إلى أجلٍ غير محدد، تبعا لقرار اللجنة الوزارية لشؤون الأمن القومي في إسرائيل، بتاريخ 17/2/2019؛

القاضي بتنفيذ قانون تجميد مخصصات الاسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية وعوائلهم وحجزها، بصيغته المعدلة، والذي أقرته (الكنيست) بتاريخ 8/7/2018، بالقراءات الثلاث، وبأغلبية 87 عضو (كنيست) من أصل 120.

    ويَرمي القانون إلى (تشريع) قرصنة أموال من العائدات الضريبية التي يحولها الاحتلال الاسرائيلي إلى السلطة الوطنية الفلسطينية بموجب برتوكول باريس الاقتصادي، عبر استقطاع ما يعادل (502) مليون شيكل سنوياً من أموال عائدات الضرائب للسلطة الفلسطينية وتجميدها؛ إذ تُمنح الصلاحية لتلك اللجنة الوزارية بمباشرة الاقتطاع بناءً على تقرير سنوي يُقدمه وزير الحرب الإسرائيلي، ويرصد من خلاله حجم الأموال التي تدفعها السلطة الوطنية الفلسطينية للأسرى الفلسطينيين وعوائلهم، ويتم بناءً عليه تجميد نسبة الأموال التي تم رصدها وفقاً لذلك التقرير السنوي، وبانتهاكٍ جديدٍ للقانون الدولي ولنصوص بروتوكول باريس الاقتصادي، فوفقا لهذا البرتوكول النّاظم للعلاقة الاقتصاديّة ما بين السلطة الوطنيّة الفلسطينيّة وإسرائيل، فإنَّ إسرائيل تقوم بجباية إيرادات نيابة عن السلطة الوطنية الفلسطينية، ويتمّ تحويلها عبر "تقاصّ" شهريّ للسّلطة الوطنيّة الفلسطينيّة، أُطلق عليها " إيرادات المقاصّة"، وهي تشمل الضرائب والرسوم المترتبة على التّبادل التّجاريّ بين إسرائيل والسّلطة الوطنيّة الفلسطينيّة، وتعمل وزارة المالية الإسرائيلية على حسم 3% من قيمة "المقاصّة" بدل خدمة إدارة "المقاصّة"، ولا يحقّ لها حجزها او استقطاعها، وعلى الرغم من وصف برتوكول باريس الاقتصاديّ جزءاً من اتّفاقية أوسلو، ووقّع عام 1994م؛ لتنظيم العلاقة الاقتصاديّة بين السّلطة الفلسطينيّة والاحتلال الإسرائيليّ لفترة مؤقتة تنتهي عام 1999م، إلا أنّه لا يزال معمولاً به منذ 25 عاماً، ولا يزال الاقتصاد الفلسطينيّ رهيناً لبنود الاتّفاق المنتهية صلاحيته، ومفروضاً بحكم الأمر الواقع، ويمنح إسرائيل سلطة التحكم بالنّسبة الكبرى من إيرادات السّلطة الوطنيّة الفلسطينيّة من خلال منطق القوة وليس منطق القانون.

    وعمليا نفّذت إسرائيل سَطْوِهَا على الأموال الفلسطينية من خلال خصم واحتجاز (42) مليون شيكل شهريا من قيمة أموال المقاصّة المستحقة للسلطة الوطنية الفلسطينية، منذ نهاية شهر شباط/ فبراير الحالي، الأمر الذي قابله الرئيس الفلسطيني محمود عباس والقيادة الفلسطينية بموقف صارم، وهو رفض تَسلُّم أموال المقاصّة منقوصة، وبالتالي فقدت السلطة الوطنية الفلسطينية حوالي 70% من إيراداتها (قيمة أموال المقاصّة)، والتي بلغت في العام 2018 مبلغ (9.16) مليار شيكل من أصل (13.7) مليار شيكل اجمالي صافي الإيرادات للسلطة الوطنية الفلسطينية، مما أدخل السلطة الوطنية في أزمة مالية عميقة، تم على أثرها تجميد العمل بموازنة العام 2019، وإقرار موازنة طوارئ قائمة على إدارة النفقات بالحد الأقصى وترشيدها وتقنينها، وتوزيع النقد المتوفر بما يضمن رواتب أسر الشهداء والأسرى كاملة، ونسبة من رواتب موظفي القطاع العام ضمن معادلة توفِّر حد أدنى للموظفين، وتبعا للنقد المتوفر.

     ومن هنا كان الرفض الفلسطيني لتلك الاستقطاعات والقرصنة منطقياً، وواجباً وطنياً وأخلاقياً تجاه أسر الشهداء والأسرى، وخطوة مهمة في إعادة صياغة العلاقة الاقتصادية ما بين السلطة الوطنية الفلسطينية وإسرائيل تجاه الانفكاك الاقتصاديّ من قيود بروتوكول باريس.

    وفي ضوء ما تقدم، فإنّ حلّ الأزمة المالية التي تواجه السلطة الوطنية الفلسطينية لا يبدو سهلاً في المدى القريب، كونه مرتبطاً ارتباطاً عضوياً بالمسار السياسيّ، فمن غير المتوقع أن تتراجع إسرائيل عن قرارها بحجز أموال من المقاصة، كونه تم بتشريع إسرائيلي، وكذلك في ظل صعود الأحزاب اليمينة المتطرفة إلى سدّة الحكم في إسرائيل، وتَطَرفِها تجاه كل ما هو فلسطينيّ، والضغط الأمريكي على السلطة الوطنية الفلسطينية لقبول صفقة القرن، وكذا هو الأمر لدى القيادة الفلسطينية، فمن غير المتوقع تراجعها عن قرارها برفض تسلّم أموال المقاصّة منقوصة، وبالتالي توجد ضرورة لإدارة الأزمة المالية بشكل منهجي ومدروس من خلال خطوات وإجراءات قصيرة الأمد، لتعزيز صمود الشعب الفلسطيني وبخاصّة موظفو القطاع العام، عبر العمل على شراكة القطاعات كافّة (الرسمية والخاصة والأهلية) في تحمّل الأزمة المالية، فلا يُعْقل أن تكون نسبة الراتب 50% ونسبة الالتزامات على الموظفين 100%، ويجب اتخاذ قرارات آنيّة تخفف من عِبء الأزمة المالية مثل مساهمة القطاع الخاص في تحمل جزء من مسؤولياته وخاصة القطاع المصرفي ضمن رقابة ومتابعة حكومية، وتحمّل القطاعات كافّة (حكومية، قطاع خاص، هيئات محلية، قطاع أهلي، جامعات ...)  جزءاً من الأزمة من خلال معادلة تتضمن جباية 50% من المستحقات على الموظفين لغاية نهاية الأزمة، والتخفيف من الأعباء المالية على الموظفين مثل بدل التنقل، أو نظام دوام طوارئ، وغيرها من الإجراءات.

     كل ذلك بالموازاة مع عملٍ مُنَظّم تجاه تجنيد الدعم للشعب الفلسطيني من خلال تفعيل شبكة الأمان العربية، وغيرها من مصادر الدعم، والعمل على الساحة الدولية سياسيا ودبلوماسيا للضغط على إسرائيل لوقف سطوها على أموال الشعب الفلسطيني، ومقاضاتها دولياً على قرصنتها غير الشرعية للأموال الفلسطينية.

    أمّا على المستوى الاستراتيجي فقد آن الأوان لأحداث تغيير ثوري في المنظومة الاقتصاديّة القائمة ما بين السلطة الوطنية وإسرائيل، تمهد لانفكاك اقتصادي حقيقي واستقلاله، والتّغيير يجب أن يكون مُمَنْهَجَاً، وليس موسمياً أو ردود فعل، فلا تكفي حملات مقاطعة هنا او هناك ومدخلات الانتاج المحلي ما زال مصدرها إسرائيل أو عبر اسرائيل، ويجب العمل على الانفكاك الاقتصادي بنهج تشاركي بين مكونات المؤسسات الفلسطينية كافّة (الرسميّة والخاصّة والأهليّة والأكاديميين والمختصين) من أجل تحقيق الأولويّة السّادسة في أجندة السّياسات الوطنيّة 2017-2022م، بالاستقلال الاقتصاديّ، ومواجهة التّحديات الّتي تواجه المشروع الوطني الفلسطيني، كون الاستقلال الاقتصاديّ والسّيطرة على الموارد هو أساس الاستقلال الوطنيّ، فالتكلفة الأكبر هي بقاء الوضع القائم على ما هو عليه، فالأزمة المالية الحالية بسبب قرصنة أموال المقاصّة – وانّ حُلّت مُستقبلاً- لن تكون الأزمة المالية الأخيرة، وسَتبقى أموال المقاصّة سيفاً مُسلطاً على رِقاب الشعب الفلسطيني.

كلمات مفتاحية::
هل تتفق مع ما جاء في هذا المقال؟