نتنياهو يكافح الفساد بالفساد ...دولة الرشوة والهدايا
قد يكون التعبير الأعمق عن التغيرات البنيوية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي يشهدها المجتمع الإسرائيلي، هو ما وصلت إليه ملفات الفساد التي يُتهم بها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو. طبيعة هذه الملفات التي تتراوح بين الرشوة وتلقي الهدايا، ومحاولة استمالة الإعلام وشرائه بالامتيازات وكيفية مواجهة نتنياهو لها من خلال هجومه غير المسبوق في حدته وفظاظته، الذي وصل حد التحريض على مؤسسات مثل القضاء والشرطة والإعلام، وهي التي يعتبر المس بها خطيئة لا تغتفر، يناقض في الشكل والجوهر مقولة مؤسس الليكود وقائد تيار اليمين الأسطوري مناحيم بيغن: يوجد قضاة في القدس! وهي المقولة التي أصبحت من أهم أعمدة الحكم في إسرائيل وجعلته فوق التجاذبات والخلافات.
ما بين بيغن الذي يمثل جيل مؤسسي الدولة، أو آباء إسرائيل، امثال بن غوريون وغولدا مائير ورابين وبيرس وشامير، وبين نتنياهو باعتباره ممثلا عن الجيل الثالث من القادة (باراك والمرت) انتقلت إسرائيل من كونها دولة، "استعارت" بعض خصائص الاشتراكية، وتبنى مؤسسوها قيما وسجايا تعلي من شأن التقشف والبساطة، والحياة الجماعية، والتفاني إلى حد ان زعيما مثل بيغن لم يكن يملك أكثر من ثلاث بدلات، وان يموت مؤسس الدولة دون أن يمتلك رصيدا خاصا، وان يستقيل رئيس وزراء مثل رابين بسبب قيام زوجته ليئا بإيداع مبلغ بسيط من المال في حسابها دون الإفصاح عنه لمصلحة الضرائب، الى دولة رأسمالية متوحشة تعلي من شأن المنفعة الفردية واللذة والفهلوة وقيم السوق الأميركية النيوليبرالية واستغلال النفوذ والسلطة من اجل الثروة.
سوابق في الفساد
لم يعد غريبا وجود عدد من كبار المسؤولين الإسرائيليين في دوائر الاتهام والتحقيقات الجنائية، وحتى وراء القضبان، ففي هذه الدولة جرت إدانة رئيس سابق هو موشي كاتساب، ورئيس وزراء سابق هو ايهود أولمرت، وأكثر من وزير، أبرزهم: وزير الدفاع السابق اسحق مردخاي، وأرييه درعي، وشلومو بينيزري وصولا لغونين سيغيف*. وتراوحت الاتهامات التي أدين بها هؤلاء المسؤولون بين الاعتداءات الجنسية، إلى الرشوة وخيانة الأمانة والتربح من الوظيفة العامة بصورة غير مشروعة، وصولا إلى الاتجار بالمواد المخدرة والتجسس والتعامل مع العدو كما نسب للوزير السابق سيغيف.
البعض يعزو كثرة هذه القضايا وتكرارها إلى نجاح الفصل بين السلطات كما ينبغي لأي مجتمع ديمقراطي، وقوة أدوات وأجهزة الرقابة الرسمية والشعبية بما في ذلك وسائل الإعلام التي تتمتع بهامش واسع من الحرية، وكذلك تطور منظومة التشريعات التي تحمي المال العام، وتقيّد السلطة، وتحمي حقوق النساء كما هو الحال في جرائم التحرش الجنسي.
في الظروف الطبيعية، فإن دولة تحاكم كبار مسؤوليها وتسجن رؤساء ووزراء هي دولة جيدة بكل تأكيد، فالأحكام تصدر باسم الشعب على من أساء لهذا الشعب واعتدى على حقوقه، لكن الحديث هنا يدور عن دولة ومجتمع غير طبيعيين بكل المقاييس، دولة قامت على سلب حقوق الآخرين واقتلاعهم من وطنهم وأرضهم ونهب مواردهم، ولا زالت تشرّع لجيشها ومستوطنيها جرائم الحرب وعمليات القتل اليومي، بل إنها راحت تؤسس علنا لنظام "ابارتهايد" صريح.
ومما يقال في تفسير هذه الظاهرة، أن صهاينة اليوم هم غير صهاينة الأمس، بالإشارة إلى الفروق الشخصية، الأيديولوجية والأخلاقية والسلوكية بين جيل الآباء المؤسسين لدولة إسرائيل، أي بين الطلائعيين ممن خاضوا الصعاب، ونظموا عمليات الهجرة، وحاربوا وبنوا الكيبوتسات والمدن الأولى، وبين من وصلتهم اللقمة سائغة إلى فمهم ولعل هذه النقطة بالتحديد تستحق مزيدا من البحث والدراسة ليس بالتركيز على السجايا الشخصية لقادة إسرائيل، وإنما برصد ودراسة التحولات العميقة التي طرأت على المجتمع الإسرائيلي فبات مجتمعا مهيئا لإنجاب قيادات على شاكلة بنيامين نتنياهو، وممثلين له في البرلمان من نمط أورن حازان**.
إذن لن يكون غريبا توجيه الاتهامات لنتنياهو ولا حتى إدانته، فقد سبقه إلى ذلك كل من إيهود اولمرت وأرييل شارون، والأخير وعلى الرغم من الهالة البطولية التي تحيط به، تمكن من إلباس قضايا الفساد التي لاحقته لسنوات لنجله عومري شارون، وهو خيار مفتوح بشكل نسبي أمام بنيامين نتنياهو إذ ترددت أقاويل أن هذا الأخير يمكن أن يلبّس القضية لزوجته سارة.
تكتيكات متعددة
قضايا الفساد لاحقت نتنياهو (بيبي)، طوال فترات وجوده في سدة الحكم، بعضها تميز بطابع فضائحي، قليل الشأن، ولكنه واضح الدلالة على طبيعة هذه الشخصية التي تحكم إسرائيل، مثل قضايا القناني الفارغة التي كانت سارة نتنياهو تبيعها. أو أنواع المرطبات الباهظة الثمن التي تتكبدها خزينة الدولة لإرضاء نهم هذه العائلة المدللة وشراهة أفرادها.
استطاع نتنياهو أن يتملص من معظم الاتهامات التي وجهت له ولعائلته، ولكن يبدو أن القضايا المثارة خلال ولايته الحالية (الرابعة) هي أكثر خطورة ومختلفة نوعيا عن سابقاتها، مع أن القضايا المثارة تندرج في حقلين رئيسيين:
الأول هو الذي يخرق فيه المسؤول، ثقة الجمهور، ويتصرف على نحو لا ينسجم مع التقاليد والمعايير الأخلاقية لهذا المنصب، وقد أثبت نتنياهو دائما أنه لا يكترث بمثل هذه الاتهامات على الإطلاق.
أما الثاني فهو الذي ينطوي على فعل جرمي يحاسب عليه القانون كما هي الملفات المنسوبة لنتنياهو الآن وترتيبها 1000، 2000، 3000، 4000
من المهم الإشارة إلى أن نتنياهو عمل على مجابهة محاولات إدانته واحتاط جيدا لهذا الأمر منذ وقت مبكر، فهو ولطول وجوده في الحكم، بات من أكثر السياسيين الإسرائيليين معرفة بدهاليز السلطة وخباياها، بل هو الذي يتحكم في تعيين قادة الشرطة، والمستشار القضائي للحكومة، وفي ولايته الأخيرة نجح في ما لم ينجح أحد ممن سبقوه، حيث فرض سيطرته الكاملة على تركيبة المحكمة العليا وعلى الجهاز القضائي برمته.
نتنياهو إذن ليس أولمرت ولا اسحق مردخاي اللذين انهارا عند أو اتهام، بل هو الزعيم الذي بات قادرا على رد الاتهامات قبل تكييفها، أي عندما تكون في عهدة الشرطة، ثم عند تشكلها حين تصبح لدى المستشار القضائي، وبعد ذلك في أروقة المحاكم.
ويملك نتنياهو سلاحا آخر جديدا، هو قدرته على المجابهة الجماهيرية والأيديولوجية للاتهامات التي تلاحقه، فقد افاق سكان تل ابيب يوم الجمعة 18 كانون الثاني 2019 على مشهد لم يعتادوا عليه طوال الحملات الانتخابية السابقة، وشكل بالنسبة للكثيرين منهم صدمة وتعبيرا صارخا عن المستوى الذي وصلت إليه درجة التحريض ضد وسائل الاعلام على خلفية قضايا الفساد التي يتهم بها رئيس الوزراء.
مشهد اليافطات العملاقة التي علقت على الشوارع الرئيسية، وعليها بألوان غامقة صور أهم المعلقين الإعلاميين في القنوات الاسرائيلية، والمعروفين بتحقيقاتهم الجادة في قضايا فساد نتنياهو وقد كتب عليها (لن تقرروا) اعتبرت رأس الجبل الجليدي الذي يظهر من الحملة الشرسة التي يقودها نتنياهو شخصيا ضد وسائل الإعلام والقضاء والشرطة والنيابة العامة والمستشار القضائي للحكومة.
التحقيقات ضد نتنياهو بدأت قبل عامين ونصف، وهي شقّت المجتمع الاسرائيلي وخلقت فجوة بين السلطات المختلفة، واسقطت هيبة أقدس المقدسات (الشرطة والقضاء) وذلك بسبب انتهاج نتنياهو سياسة هجومية ضد كل من يتجرأ على انتقاده أو تصديق التهم التي تنسب إليه.
السياسة التي اتبعها نتنياهو لمواجهة التهم المنسوبة له، قادت إلى نتائج قاسية وحادّة على المجتمع والإعلام وسلطات إنفاذ القانون في إسرائيل، لأنها تقوم على ذات القاعدة التي طرحها مرة الرئيس جورج بوش الإبن (نحن أو هم) و"أنهم" يريدون من خلال التآمر وتلفيق التهم ليس اسقاط نتنياهو شخصيا، بل استهداف حكم اليمين، أو ما يسميه بيبي "المعسكر الوطني" بعد أن عجزوا عن استبداله عبر صندوق الاقتراع.
بماذا يتهم نتنياهو؟
الاتهامات الموجهة لنتنياهو، التي تم الانتهاء من التحقيق فيها وتقديم توصيات الشرطة بتقديم لائحة اتهام ومحاكمته بسببها تنحصر في ثلاث ملفات رئيسية هي:
ملف1000: وهو ملف اوصت الشرطة بتقديم لائحة اتهام فيه ضد نتنياهو بتلقي الرشوة من رجلي الإعمال ارنون ميلتشن وجيمس فاكر على شكل هدايا ومجوهرات بلغت قيمتها ما يقارب المليون شيقل.
في توصيتها قالت الشرطة ان التحقيقات وشهادة الشهود اثبتت "ان نتنناهو تلقى ما بين الاعوام 2007 حتى 2016 هو وأفراد عائلته هدايا من رجلي الأعمال ميلتشن وفاكر بمئات الاف الشواقل، وهذه الهدايا زادت بوتيرة ملموسة بعد انتخابات العام 2009 وان هناك إثباتات ان هذه الهدية قدمت على سبيل الرشوة، ما يدعوها الى التوصية بتقديمه للمحاكمة بتهمة تلقي الرشوة والخداع وخيانة الأمانة والتي قد تصل عقوبتها إلى
عشر سنوات سجن ضد نتنياهو وسبع سنوات ضد ميلتشين.
في ملف 1000 لم تكتف الشرطة بجمع الأدلة والقرائن، بل عززت روايتها بشاهدي دولة هما آري هيرو رئيس مكتب نتنياهو السابق، ونير حيفتس المستشار الإعلامي السابق لنتنياهو، واللذان وقعا على صفقة مع الشرطة يشهدان بموجبها ضد نتنياهو مقابل اعفائهما من العقوبة.
ملف 2000: الشرطة الإسرائيلية أوصت بتقديم لائحة اتهام اخرى ضد نتنياهو في ملف 2000 الذي يتمحور حول العلاقة مع مالك صحيفة يديعوت احرونوت نوني موزيس، وعقد صفقة معه تقضي بتقديم الصحيفة الأكثر شعبية في اسرائيل تغطية ايجابية لصالح نتنياهو مقابل عمل نتنياهو على إضعاف صحيفة "يسرائيل هيوم" المنافسة.
الشرطة قالت في توصياتها ان نتنياهو عقد سلسلة اجتماعات شخصية وغير معلنة مع موزيس وتوصل معه الى اتفاق بما نسب إليه أعلاه وهو ما يقع تحت بند الخداع والرشوة معلنة ان لديها شاهدي إثبات هما: اري هيرو، ونير حيفتس.
أما ملف 3000 او ما يعرف بقضية الغواصات فهي قضية تحقق بها الشرطة منذ العام 2017 بشبهة التلاعب في مناقصات لشراء غواصات من نوع دولفين AIP وسفن "ساعر" 6 لصالح شركة تيسنكروب الألمانية وقد تم تقديم توصيات بمحاكمة ضباط كبار من بينهم قائد البحرية السابق وموظفين في وزارة الدفاع دون أن يثبت تورط نتنياهو رغم إدانة محاميه والمقرب منه ومبعوثه الخاص ديفيد مولخو ومحام اخر قريب منه هو ديفد شاران.
ملف 4000: الملف 4000 هو الاخر تضمن توصية من الشرطة بتقديم لائحة اتهام ضد نتنياهو بتهمة تضارب المصالح والرشوة بسبب تقديم نتنياهو امتيازات لموقع واللا الاخباري ومالكه شاؤول الوفيتش مقابل تغطية لصالح نتنياهو.
ملف 4000 الاف عدا عن التوصية الواضحة التي قدمتها الشرطة فانه يكشف أكثر من اي ملف اخر طبيعة شخصية وشكل ادارة نتنياهو واستغلال موقعه لاغراض انتخابية وشخصية، فقد كشفت شركة الاخبار (القناة الثانية سابقا) في نشرتها المسائية بتاريخ 21-1 جزءا من المراسلات والرسائل الالكترونية، بين نتنياهو والوفيتش وكيف كان نتنياهو يطلب نشر أخبار لتشويه سمعة منافسه نفتالي بينت، وإعداد تقارير عن زوجته وانها تعمل في مطعم غير مرخص دينيا وتقدم لحم الخنزير وأيضا حول والد بينت وانه متهم بالاعتداء على رابين وغيرها من الأخبار التي كان يضغط من اجل نشرها ما قبل الانتخابات.
سيناريوهات متوقعة
يسعى نتنياهو بكل ما أوتي من قوة إلى تجييش الشارع اليميني الإسرائيلي وتحويل المعركة القضائية ضده إلى معركة وطنية بين المعسكر الوطني الذي يقوده وقلبه حزب الليكود، وبين معسكر اليسار الإسرائيلي الذي برأي اليمين يبدي تنازلات معيبة للفلسطينيين والعرب، ويتهاون في الدفاع عن أمن إسرائيل، ويتساهل مع الفلسطينيين العرب في الداخل من زاوية غض النظر عن ضعف ولائهم للدولة، وبالتالي يسعى نتنياهو وفريقه إلى تحويل اليسار الى تهمة تدمغ أحزابه ومؤيديه بضعف الانتماء لدولة الشعب اليهودي.
وفي معرض حربه الضروس ضد اليسار ولإثبات أن التهم الموجهة ضده هي اتهامات للمعسكر الوطني وللقيم اليهودية وليس له شخصيا، يسعى نتنياهو إلى تملق الجمهور الأكثر تطرفا بين ناخبي اليمين، وهم: المستوطنون عبر جملة من القرارات والتوجهات مثل تشريع بؤر استيطانية تعتبرها الحكومة غير شرعية، طرح عطاءات جديدة لتوسيع المستوطنات القائمة، جذب مستثمرين، تعزيز الأمن، زيادة الإنفاق والميزانيات والمعاملة التفضيلية التي تحظى بها المستوطنات، وسنّ مزيد من التشريعات التي من شأنها الانحياز أكثر فأكثر ل"يهودية" الدولة على حساب ما تبقى من ديمقراطيتها، والانقضاض على الحقوق المدنية للجماعات والأفراد بما في ذلك حقوق النساء، لصالح رؤية يهودية-قومية متشددة لكل جوانب الحياة .
وليس سرا أن قرار تقديم الانتخابات وإجراءها في شهر نيسان/ ابريل القادم، ليس بعيدا عن تطور التحقيقات مع نتنياهو بشأن قضايا الفساد، في محاولة مكشوفة لتأجيل التحقيقات، وإحراج الجهاز القضائي الذي سيجد صعوبة كبيرة في توجيه الاتهام ل"زعيم" ذاهب لانتصار كاسح. لكن الأمر الآن يبدو كمقامرة غير مضمونة النتائج، فحبل الإدانة الذي يحيط برقبة نتنياهو يشتد حينا، ويرتخي حينا آخر، لكن شعبية نتنياهو لا يبدو أنها تتأثر كثيرا باتهامات الفساد وهذه الإشارة لا ترتبط بالتهم وجديتها، بل بطبيعة المجتمع الذي يدرك أن رئيسه فاسد ومرتش، ولكنه مصمم على إعادة انتخابه.
......................................................................................................
*من المفارقات اللافتة أن الوزير السابق غونين سيغف ساهم في إنجاح التصويت على تمرير اتفاق اوسلو، حين انشق عن كتلة تسومت، وانضم لحكومة العمل – ميريتس التي تراسها اسحق رابين.
**نشرت القناة الإسرائيلية الثانية تحقيقا يشير إلى أن أورن حازان كان يدير كازينو يقدم خدمات جنسية لزبائنه في مدينة بورغس في بلغاريا.