الرئيسية » الاخبار الرئيسية » أقلام اقتصادية »
 
21 تشرين الثاني 2018

هزيمة الزراعة وتهافُت الأوهام...ما العمل؟

بقلم: د. جورج كرزم
الباحث والخبير في البيئة

ازداد المشهد الزراعي الفلسطيني البائس سوداوية في السنوات الأخيرة.  في عام 1996، على سبيل المثال، أي في أوائل عهد أوسلو، كانت المساحة الزراعية الفلسطينية 1,830,000 دونم (الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، 2010)، فهبطت عام 2011 إلى 932,000 دونم (كتاب فلسطين الإحصائي السنوي، 2015)، أي أن نسبة الهبوط في المساحات المزروعة خلال خمسة عشر عاما بلغت أكثر من 49%. 

الانحدار الصادم حدث في المساحات المزروعة بالمحاصيل الاستراتيجية، مثل المحاصيل الحقلية والخضروات.  فعشية أوسلو، وتحديدا عام 1990، قدرت المساحات المزروعة بالمحاصيل الحقلية في الضفة الغربية وقطاع غزة بـ 625 ألف دونم، والمساحات المزروعة بالخضروات 198 ألف دونم (الأونكتاد، قطاع الزراعة الفلسطينية المحاصر، 2015).  بينما في عام 2011، بلغت المساحات المزروعة بالمحاصيل الحقلية 246 ألف دونم، والمساحات المزروعة بالخضروات 130 ألف دونم.  أي أن نسبة الهبوط في مساحات المحاصيل الحقلية خلال الفترة 1990-2011 تجاوزت 60%، أما نسبة الهبوط في مساحات الخضروات خلال ذات الفترة فتجاوزت 34%.  ولو أخذنا في الاعتبار الزيادة السكانية الكبيرة خلال ذات الفترة، يمكننا أن ندرك بأن الهبوط الكبير في المساحات المزروعة إجمالا، وفي مساحات المحاصيل الاستراتيجية الأساسية، يعني بأن تبعيتنا الغذائية للاحتلال وشركاته، خلال عهد السلطة الفلسطينية، قد تعاظمت كثيرا. 

كل هذا يحدث بالرغم من أن جوهر صراعنا مع المحتل هو حول الأرض، وبالتالي يفترض توجيه بوصلة السياسات والاستراتيجيات الرسمية وغير الرسمية، وتركيز حصة الأسد من الموازنات العامة باتجاه الاستثمار في الأرض والإنتاج الزراعي.  لكن خطط السلطة الفلسطينية الاستثمارية لهذا القطاع لا تزال هامشية من إجمالي الاستثمارات.

ومن المعروف أن للقطاع الزراعي قدرة امتصاصية كامنة للعمالة هي الأكبر من بين جميع القطاعات الاقتصادية، ومع ذلك، فإن استيعاب القطاع الزراعي للعمالة هبط هبوطا حادا من حوالي 32% في بداية الثمانينيات، إلى 10.4% عام 2014 (كتاب فلسطين الإحصائي السنوي 2015).  

بل إن حصة الزراعة في إجمالي الناتج المحلي انخفضت انخفاضا دراماتيكيا،  إذ كانت عشية احتلال عام 1967 أكثر من 50%، لكنها تقلصت إلى نحو 30% في أوائل الثمانينيات (الأونكتاد، مصدر سابق)، فبلغت 3.8% عام 2014 (كتاب فلسطين الإحصائي السنوي 2015).

المعطيات والأرقام السابقة تؤكد بأن تبعيتنا الاقتصادية والغذائية لإسرائيل ليس فقط أنها تفاقمت، بل إن انحرافا كبيرا وخطيرا طرأ على انتاج الغذاء المتنوع والمكتفي ذاتيا في الريف الفلسطيني، كما ومنذ التسعينيات، لوحظ حدوث تناقص خطير ومتواصل في نسبة الاكتفاء الذاتي الغذائي (الإنتاج/الاستهلاك)، بل إن مؤشرات "الأمن الغذائي" ازدادت سوءا في السنوات الأخيرة. فعلى سبيل المثال، نسبة الأسر الفلسطينية المفتقرة "للأمن الغذائي" (في الضفة والقطاع معا) ارتفعت خلال سنة واحدة من 27% عام 2011 إلى 34% عام 2012؛ كما أن نحو نصف الأسر الفلسطينية اعتبرت في عام 2012 مفتقرة للأمن الغذائي بدرجة طفيفة أو أنها على حافة الانزلاق إلى حالة "انعدام الأمن الغذائي" (الأونكتاد، مصدر سابق).  وفي قطاع غزة تحديدا تدهورت الأوضاع الاقتصادية-الاجتماعية والإنسانية، ووصلت نسبة الأسر المفتقرة "للأمن الغذائي" إلى 57% (عام 2012)، وحاليا تصل النسبة إلى نحو 70%، بل إن 80% من الأفراد يعتمدون على المعونات الإنسانية، كما أن ثلث الأسر اضطرت إلى خفض عدد وجباتها اليومية (International Labour Office 2014. Report of the Director General ).  

تسريب التراكم المحلي

لقد تحول المجتمع الفلسطيني إلى مجتمع استهلاكي، يستهلك معظم غذائه من إسرائيل والخارج،؛ ما يعني تراجعا كبيرا وخطيرا في التراكم الرأسمالي المحلي الذي لا يُدَوَّر استثماره محليا في الانتاج الزراعي أو الصناعي.  والغريب أن بعض الاقتصاديين المحليين، لا زالوا يزعمون بأن التسويق الزراعي الفلسطيني هو المشكلة الأكبر، ويعظون بضرورة تحويل الزراعة الفلسطينية إلى زراعة تصديرية، وكأننا نعيش في بلد سيادي مستقل نتحكم في أرضنا وحدودنا وحركة صادراتنا ووارداتنا ورؤوس أموالنا وقوانا البشرية، وليس الاحتلال هو من يعتبر في الواقع "السيد الفعلي" المتحكم في جميع العوامل السابقة. 

التركيز على الزراعة التصديرية الأحادية بذريعة وجود فائض متراكم في المحاصيل الفلسطينية، في وقت نعاني من نقص فادح في معظم احتياجاتنا الزراعية الاستراتيجية التي تشكل العمود الفقري للسيادة الغذائية؛ فيتم استيراد تلك الاحتياجات من الاحتلال الإسرائيلي أو من الخارج- التركيز على الزراعة التصديرية في ظل هذه المعطيات، وهي (أي الزراعة التصديرية) موجهة عمليا لسد فجوات تصديرية لدى الاحتلال ودول أجنبية أخرى، يعني مزيدا من التحكم الإسرائيلي في عملية إطعامنا وتجويعنا. وفي الحقيقة، الفائض الفلسطيني الناتج (الإنتاج/الاستهلاك) في الضفة والقطاع، هو في بضعة محاصيل قليلة (مثل البندورة والخيار...) تزرع بشكل عشوائي غير مدروس، بكميات ضخمة لا لزوم لها، وتصديرها غير مضمون أساسا.  بينما نعاني من نقص فادح في المحاصيل الحقلية والعديد من أصناف الخضار والفاكهة، ومعظم المحاصيل الأساسية والاستراتيجية مثل القمح والحبوب والأعلاف وغيرها التي تزرع بكميات محدودة جدا.

وفي الوقت الذي نستهلك معظم احتياجاتنا الغذائية من إسرائيل وشركاتها، فإن بعض الذين يراهنون على الزراعات التصديرية، وكأننا نعيش في بلد حر وذي سيادة، يغيبون حقيقة أن الأخيرة (أي إسرائيل) هي التي تشتري غالبية الصادرات الزراعية الفلسطينية، بل إن جميع الصادرات إلى الأسواق الخارجية لا يمكنها التحرك دون موافقة الاحتلال، لأنها تشحن عبر إسرائيل والموانئ والأراضي التي تسيطر عليها الأخيرة؛ ما يضع مجرد وجود الزراعة الفلسطينية التصديرية و"تنافسيتها" وربحيتها تحت رحمة الاحتلال وسياساته واعتباراته الاقتصادية-الأمنية. 

بمعنى أننا كشعب تحت الاحتلال، حينما نبتعد عن السياق الطبيعي لصراعنا مع المحتل، أي سياق مواجهة الأخير بكافة الوسائل المشروعة دفاعا عن وجودنا وأرضنا، ونتصرف انطلاقا من "الدولة" الوهمية التي لا وجود مؤسسي واقتصادي وأمني وعسكري فعلي ومستقل وسيادي لها على الأرض، وحينما يبتعد إنتاجنا الزراعي عن تغطية الاحتياجات الغذائية-الزراعية المحلية أولا، في سياق اقتصاد المقاومة، ونركز على الأسواق الأجنبية والصادرات الهشة لمراكمة بعض العملات الأجنبية لحفنة من المنتفعين-  حينما نفعل كل هذا فإننا نثبت ونعمق إلحاق القطاع الزراعي الفلسطيني بالاقتصاد الإسرائيلي بعامة، وبالقطاع الزراعي الإسرائيلي بخاصة.

نتمنى ألا يغيب عن بال السياسيين والاقتصاديين و"التنمويين" الفلسطينيين الرسميين وغير الرسميين، بأن الاحتلال ومستوطنيه يصولون ويجولون ويعربدون ويذلون الناس وينتهكون حرمات المنازل ويتوسعون استيطانيا كيفما شاءوا في جميع قرى وبلدات ومدن ومخيمات الضفة الغربية، ويخربون ويحرقون ويدمرون المزروعات والمحاصيل والأشجار بكل أريحية، دون أي اعتبار لوجود سلطة أو أجهزة أمنية فلسطينية، ويحاصرون ويجوعون أهلنا في غزة؛ ذلك أن الاحتلال ووجوده الاستعماري الاستيطاني، وبسبب سياساتنا ومواقفنا غير الجذرية وغير المبدئية والحاسمة، يعد حاليا "السيد" الفعلي و"المرجع الأعلى" لبنى "الدولة" الوهمية التي يستطيع الاحتلال تهشيمها كليا متى شاء.

د. جورج كرزم- خاص بآفاق البيئة والتنمية

يتبع...

كلمات مفتاحية::
هل تتفق مع ما جاء في هذا المقال؟