الاستهلاك في رمضان بين الاقتصاد والتبذير
بقلم: أمين فايق أبو عيشة، خبير مالي واقتصادي واستاذ علم الاقتصاد-غزة
يشكل الاستهلاك عماد النشاط الاقتصادي ومحفزه، ففي كثير من الحالات تلجأ الدول إلى تشجيع الاستهلاك على أساس انه جزء من قوتها الاقتصادية والمالية والتقدمية بل هو محرك نشاطها الاقتصادي بمجملة.
ويعتبر الاستهلاك المكون الأكبر والابرز من إجمالي ناتجها القومي والمحلي على اعتبار انه مدعاة الدولة والقطاع الخاص لعمليات الاستثمار هذا في العرف التأصيلي له، أما في التعريف لنا كقراء فإن الأمر يختلف فيُعرف على أنه استعمال الإنسان للأشياء بهدف الاستفادة منها في إشباع حاجات ضرورية ورغبة معينة.
ووفقا لبعض الإحصاءات الصادرة عن المنظمة العربية للعلوم والتنمية تفيد أن الأسرة العربية خلال ثلاثين يوما من شهر رمضان المبارك تنفق ميزانية تسعين يوماً كما
ويتجلى ذلك الأمر بوضوح في إعلانات العروض الرمضانية التي تشمل جميع أنواع السلع والخدمات الاستهلاكية، ويتم الترويج لها بشتى الطرق والوسائل والقنوات، حتى ترسّخ في أذهان المستهلكين صورة عن شهر رمضان على أنه موسم للتسوق والإقبال المحموم على الشراء وبذلك يتحوّل الإنفاق الاستهلاكي خلال هذا الشهر الفضيل إلى نقيضه تماماً فيستبدل الإسراف محل الترشيد، وإهدار الموارد محل تقنين استخدامها.
وفقا لما سبق أقول أن للاستهلاك أربعة مؤشرات هي المؤشر النفسي والاجتماعي والاقتصادي والتسويقي، تكمن الإشكالية في حالتنا العربية والفلسطينية بشكل عام في المؤشرين النفسي والتسويقي وبشكل خاص التسويقي الذي سرعان ما يتجه نحو التغيير وبشكل سلبي في شهر رمضان، فتظهر العديد من العادات السيئة في الشراء.
فالشراء في العادة متعة لكن تزداد هذه المتعة جمالاً في شهر رمضان وهذا ليس سراً.. لكن الإشكالية في شهر رمضان المبارك تتمثل في اختلاف الهياكل الشرائية أو ما يُعرف بشكل الشراء والمتمثل في الحجم والكمية والنوعية وعدد مرات الشراء والتسوق وهذا ما سيؤدي لزيادة مستويات الطلب على العرض ما سيدفع الأسعار للارتفاع وبشكل جنوني ناهيك وبكل أسف عن جشع كثير من التجار واستغلالهم فيزداد الطلب على بعض المنتجات الرمضانية كالبندورة والليمون واللحوم الحمراء والاجبان وغيرها من المنتجات فتنخفض عندها مستويات المنافسة وتظهر القوة السعرية للمنتجين نتيجة لاختلاف الأذواق والتفضيلات والميول لدي المستهلكين واحتياجاتهم .
حينها يتطلب هذا الوضع النصح والإرشاد والتوجيه الاقتصادي والذي يتمثل في عدة أمور ونقاط لمواجهة هذا الانحراف الفلكي في عاداتنا وأنماطنا الاستهلاكية من أهمها ضرورة عدم ابتعاد رب الأسرة العربية عن المبلغ الذي خصخص للشراء بل من الأفضل عمل موازنة لهذا الشراء وبالتالي يجب ألا تؤثر مبالغ مشترياته على وضعة المالي المستقبلي حتي لو منحته عملية الشراء السعادة المؤقتة؟! كما يجب عليه أن يضع قائمة باحتياجاته قبل عملية الشراء حتى يتجنب شراء ما لا يريد من المنتجات وألا يعتمد على الشراء من أول نظرة فالشراء من الوهلة الأولي مجرد خدعة كبيرة وهذا لا يكون إلا من خلال البحث والتقصي والتفتيش عن العروض.
كما يجب البحث عن البعد المكاني للمنتج والمتمثل في الأرخص ثمنا ولتحقيق ذلك يفضل الشراء من محلات الجملة وليس محلات التجزئة والمفرق.
كما أن الشراء الأكبر ليس هو الشراء الأوفر إنما الأوفر هو أن نشتري فعلياً ما نحتاج إلية وما نريده. هنا تستحضرني قصة لأحد أصدقائي حين كان يدرس الطب بألمانيا فقال لي ذهبت أنا ومجموعة من أصدقائي لمطعم ألماني كنا جائعين وطلبنا كمية كبيرة من الأكل وكان في المطعم عدد من السيدات الكبيرات في السن ولم يستطعن رفع أعينهن عنا نظرا لحجم الطعام الذي طلبناه، وكما هي العادة لم نأكل من الطعام إلا الشيئ اليسير وطلبنا الفاتورة وهممنا بالخروج ، وإذا بواحدة من تلك السيدات تصرخ علينا، و ترفع صوتها ، ثم أوضحت لنا أن ما قمنا به خطأ كبير يصل إلى مرحلة الجريمة في حق أنفسنا أولا ثم المجتمع، قالت لماذا تطلبون كل هذا الطعام ثم لا تأكلونه؟
ألا تعتقدون أن هذا إسراف وإضرار في حق الآخرين ، فبادر أحدنا بالرد عليها، وأوضح لها أننا طلبنا الطعام ودفعنا قيمته، وأننا تحملنا قيمة ما طلبنا وأننا أحرار في أكله أو تركه، والمال مالنا، وهنا قالت لنا بصوت واضح وصريح وصارم: ''المال مالك لكن الموارد ملك الجميع''، ثم أردفت قائلة: هناك ملايين الجياع في العالم أحق بما سيرمى في الزبالة.
وفي الختام، ما تقدم الغرب إلا حينما تعلم الادخار فما لا يستهلك يدخر عنده وما يدخر يستثمر وينمو والاستثمار يعني الرقي والازدهار والريادة، يجب علينا أن نعي ذلك ونفهم جليا ذكر كلمة اقتصد في قراننا لثلاث مرات قبل أن يعلمنا الغرب وألمانيا ذلك ... ورحم الله الفاروق عمر حين رأي رجلاً يسرف بالشراء فقال له:"أو كلما اشتهيت شيئاً اشتريته" ورحم الله أجدادي حين قالوا وما زالوا يقولون:"شدوا أحزمتكم قبل أن تشد عليكم أيامكم".