مقال: الموازنة العامة.. العبرة في التنفيذ الواعي
أن العجوزات المالية الجارية والمساعدات والمنح الدولية هما الهاجس الأكبر في الموازنة العامة ولعل من نافلة القول تكرار هذا العجز المالي الجاري أو الكلي سنوياً ، كما أن الإنخفاض في نسبة هذا العجز المالي الجاري بحوالي 6.9% وخفض العجز المالي الكلي بحوالي 6.4% هذا التراجع في النسبة لا يعني إنخفاض القيمة المطلقة للنفقات
أمين فايق أبو عيشة
محلل مالي وخبير اقتصادي
تُعبر الموازنة التقديرية أو الموازنة العامة عن السياسة المالية للحكومة و تشكل خطة عمل لسنة مالية قادمة ، و هي وكما يعرفها الماليون عبارة عن أداة رقابية تخطيطية ، وبالتالي فهي ليست مجرد جداول تسند وأرقام تتداول ، فالموازنة العامة لمن لا يعرف تشمل جميع الضرائب والرسوم من جهة وكل الخدمات التي يجب أن تقدمها الحكومة من جهة ثانية وهي بذلك تعد أهم وثيقة مالية وإقتصادية تصدرها الحكومة، وبالفكر والتأصيل المالي فإن الموازنة العامة لها بعدين إحدهما فني والآخر سياسي ، فالأمر الفني لها متعلق بطلبات وعمل وزارة المالية وأجهزتها ودوائرها وذلك لمراعاة الأمور التقنية ونواحيها، ووفقاً لذلك فإن الموازنة العامة تقيس الأداء المالي الحكومي لسنة قادمة، وبالتالي تبرز الميزانية مدى إنحراف القيم المتوقعة "التقديرية" عن قيمها الفعلية "الحقيقية" و تأخذ هذه الإنحرافات وجهين إما إيجابياً وإما سلبياً، ففي الحالة التي تزيد بها الإيرادات العامة للموازنة عن النفقات العامة لها، يقال أن الموازنة تحقق فائضاً وتقوم الحكومة بترحيل هذا الفائض إلى موازنة السنة القادمة على شكل إنفاق إضافي أو تحوله على شكل ادخار وتوظفه في السوق المالي أو في إنشاء ودعم صناديقها السيادية وهو ما يتعارف عليه مالياً (بإدارة فائض الموازنة ).
وعلى النقيض تماماً، قد يشوب الموازنة أو "الميزانية" ما يعرف بالعجز المالي وهو الرصيد السالب لفروقات الإيرادات والنفقات للميزانية العامة للحكومة والناتج عن كون حجم النفقات العامة تتفوق على حجم الإيرادات العامة (حينها تضطر الحكومة في هذه الحالة إلى تمويل هذا العجز وتغطيتة من خلال عدد من التوجهات كالإقتراض الداخلي أو الخارجي أو استجلاب المساعدات والمنح أو اللجوء لتعديلات في النظم الضريبية، وهو ما يعرف (بتعزيز العدالة الضريبية)، وهذا الوصف ينطبق على الحالة الفلسطينية.
ومن أجل الوقوف على طبيعة الأرقام الواردة في الموازنة الموحدة للحكومة 2018 وبقراءة استنباطية، نجد أن القيمة المتوقعة لها ستبلغ حوالي 5.8 مليار دولار أمريكي تتوزع بين الموازنة الطبيعية للحكومة الفلسطينة (موازنة الأساس)، وموازنة الإستيعاب والإندماج وتدخلات كسر وإنهاء الانقسام للمحافظات الجنوبية.واعتمادا على ما سلف تعد موازنة العام 2018 هي الأكبر تاريخياً، توزع كالتالي: 4.98 مليار دولار للنفقات الجارية وتشمل (الرواتب والأجور والعلاوات والنفقات التشغيلية والتحويلية للوزارات والمؤسسات العامة والأجهزة التنفيذية الأخرى) وصافي الإقراض ويشمل ( خصومات واستقطاعات قيم خدمات فواتير المياه والكهرباء وما في حكمها من الجانب الإسرائيلي) أو هو الدين الناشء عن عدم إلتزام المستهلكين لسداد فاتورة الكهرباء والمياه ونتيجة لذلك يتم خصمها كما أوضحنا سالفاً، و821 مليون دولار للنفقات التطويرية، فيما تبلغ الإيرادات 4 مليار دولار، ويبلغ التمويل الخارجي لدعم الموازنة وتمويل النفقات التطويرية 775 مليون دولار، بفجوة تمويلية تقدر بمليار دولار، أي أن النمو في النفقات سيفوق نسبة النمو في الإيرادات بحوالي 11%، مما يحتم علينا السير بخطوات مدروسة لزيادة كفاءة وفاعلية الأداء الضريبي، وترسيخ المزيد من ضبط الإنفاق الحكومي وإدارة المال العام بكفاءة واقتدار، في ذات الوقت الذي تعمل فيه الحكومة على تعزيز الدخل وتحقيق العدالة الاجتماعية والاقتصادية في تطبيق السياسات الضريبية، مع الأخذ بالاعتبار التباين في الدخل الفردي والوضع الاقتصادي المتباين بين المحافظات الشمالية والجنوبية، وذلك بتعديل السياسة الضريبية الخاصة بالأفراد وتخفيض العبء الضريبي على الأفراد الأقل دخلاً وزيادته على المكلفين الأكثر دخلاً، والاستمرار في البسط الأفقي للأفراد والشركات التي تعمل بشكل فردي أو عائلي، والتحول إلى ضريبة تصاعدية، مع اعتماد شريحة ضريبية رابعة بدلاً من الشرائح الضريبية الثلاث المعتمدة منذ 2015، بحيث تتراوح ضريبة الدخل من صفر إلى 20%، مما يزيد عدد الملتزمين ضريبيا بحوالي 10%، ويزيد الإيرادات الضريبية بنسبة 35% خلال عام 2018.
مما سبق نقول أن العجوزات المالية الجارية والمساعدات والمنح الدولية هما الهاجس الأكبر في الموازنة العامة ولعل من نافلة القول تكرار هذا العجز المالي الجاري أو الكلي سنوياً ، كما أن الإنخفاض في نسبة هذا العجز المالي الجاري بحوالي 6.9% وخفض العجز المالي الكلي بحوالي 6.4% هذا التراجع في النسبة لا يعني إنخفاض القيمة المطلقة للنفقات ،حيث إرتفعت قيمة العجز الكلي للموازنة لحوالي 1 مليار دولار أمريكي بعد المنح والمساعدات المتوقعة، هذا الارتفاع له ما يبرره في نظري ويمكن قبوله وذلك بالنظر إلى التزايد المستمر في عدد السكان ومتطلبات الدمج والاستيعاب لأكثر من 17711 ممن تم تعيينهم بعد تاريخ 14/6/2007، وكسر أوضاع الإنقسام وجلب الأمل والاستقرار المعيشي لأكثر من 2 مليون نسمة في المحافظات الجنوبية، كما سيتم من خلال هذه الموازنة ضبط عمليات صافي الإقراض وتخفيضه بمقدار 2.5% مقارنة مع موازنة العام 2016،من خلال إجراءات توعوية متعلقة بالمواطن الفلسطيني بالإستناد إلى مجموعة من الإجراءات المتمثلة بتركيب عدادات الدفع المسبق للمياه والكهرباء وتحسين نظام الجباية من قبل الهيئات والبلديات المحلية وبالتالي تقليل الديون المترتبة على البلديات وما في حكمها، والإصلاح العام للشبكات الناقلة للخدمة ، وتعظيم الجهود الذاتية من خلال مراجعة وتعديل النظام الضريبي القائم فلقد تم توسيع العبء الضريبي للشركات والبنوك الإحتكارية وعددها 52 وحدة ، وتعزيز سياسة العدالة الضريبية من خلال التخفيض العام لضريبة الدخل من 15% إلى 10% للشركات والمشروعات صغيرة ومتوسطة الحجم والإعفاء الضريبي للأفراد وبخاصةذو الدخل المتدني والمعوزين ، ووقف اللجوء إلى الإقتراض الداخلي والخارجي وبالتالي تجميد تدفق الدين العام.
في الحقيقة فإن إختيار أحد البدائل مما يلي :(هل الأنسب الإقتراض،وهل الأنسب الدين الداخلي أم الدين العام الخاجي ، وهل الأنسب توجيه الشق الأيمن من السياسة المالية من خلال خفض وزيادة المعدلات الضريبية على الدخل ، ولماذا تأخرت الموازنة ولم تقر لحتى الآن ، ولماذا لم يتم عرض الموازنة العامة على المجلس التشريعي أو على منظمات المجتمع المحلي...وهل...)، إن كل البدائل المتاحة أمام الحكومة الفلسطينية لتغطية الفجوة المشار إليها سابقاً خيارات قاسية فإما أن تلجأ الحكومة لتقليص النفقات العامة بصورةعشوائية وغير مدروسة، أو أن تلجأ لزيادة الإيرادات العامة من خلال القروض والرسوم أو من خلال ضرائب جديدة أو الاضطرار مجدداً للإقتراض في ظل وجود ديون عامة ومتأخرات متراكمة يتحملها و ينوء بها المجتمع ليس للجيل الحاضر فقط وإنما للأجيال القادمة
ختاماً إن الإلتزام بالموعد المبكر لإعداد الموازنة العامة للحكومة الفلسطينية يعطي فرصة للنقاش والحوار الهادف من قبل مؤسسات المجتمع المدني والجهات الرقابية الآخرى، إلا أن القانون الأساسي الفلسطيني يعطى الرئيس حق إصدار قرارات بقوانين وتكاليف الوزارات وتشكيلاتها في حال تعطل المجلس التشريعي كما أنه يملك هذا الحق في إقرار الموازنة، إن العبرة ليست في محاولة الأجابة على تلك الأسئلة وإختيار البديل بل في التنفيذ الواعي والسليم .