الرئيسية » أقلام اقتصادية »
 
04 شباط 2018

مقال.. هل يمكن الانعتاق من باريس الاقتصادي؟

قبل إنسحاب السلطة الوطنية الفلسطينية من الاتفاقية، يجب عليها وضع خطط عمل للتشابك مع المحيط العربي وتحديداً البوابة الجنوبية الغربية مصر العروبة وذلك لأعادة تفعيل وتشغيل منفذ رفح البري ليس فقط لتسهيل تحركات المواطنين بل من أجل تأسيس وبناء قواعد تجارية (منطقة التجارة الحرة)، هذا الأمر متاح وممكن حال وجود توافق مصري فلسطيني.

\

 كتب : أمين فايق أبوعيشة- محلل وخبير اقتصادي

خلال رحلتي الأكاديمية كأستاذ جامعي في كلية الاقتصاد والإدارة وبشكل خاص أثناء تدريسي لمساق الاقتصاد الفلسطيني دأب طلابي على تكرار عدد من التساؤلات، مثل لماذا يا دكتور لم ننشيء اقتصاداً مستقلاً من هو السبب ومن هو المسبب؟ ولماذا وقعنا إتفاقية باريس الاقتصادية رغم عيوبها ؟ بداية الحكاية لمن لا يعرف كانت قبل أكثر من 24 عاماً مضت حين اعتمدت هذه الاتفاقية (البروتوكول) على دراسة جامعية لجامعة هارفارد في العام 1992 والتي عُنًوِنت بعنوان "مشروع اقتصاد السلام".

لقد أيدت ودعمت هذه الدراسة جملة من المشروعات الإقليمية التي كانت مثار جدل على مدى العقديين الماضيين: مثل إنشاء صندوق الشرق الأوسط للتنمية، الاستغلال المشترك لثروات البحر الميت، قناة البحرين (المتوسط- والميت)، تحلية المياه ، لقد كانت هذه الإرهاصات والبدايات هي الاتفاقية المستقبلية لبروتوكول باريس الاقتصادي لاحقاً، الذي وُقع بين منظمة التحرير الفلسطينية والجانب الاسرائيلي في 29/4/1994 ( بين اقتصاد قوي يتبع كيان قوي - من يعيش به يمتلك دخلاً عالياً-  وبين اقتصاد ضعيف مرتبط ومعتمد اعتماداً وثيقاً وعضوياً على الأول ) وميزان سياسي يميل دوماً لصالح (اسرائيل).

لقد رسم بروتوكول باريس الاقتصادي التبعية المطلقة والربط الكامل للاقتصاد الفلسطيني مع الاقتصاد الإسرائيلي وذلك من خلال شمولها أربعة قطاعات اقتصادية هي: العمل، العلاقات التجارية، المسائل المالية، الترتيبات النقدية. بموجب هذا الاتفاق الاقتصادي تكون حركة العمل ما بين الضفة الغربية وقطاع غزة و (إسرائيل) هي الوضع السائد حين التوقيع، فمثلاَ إذا قام أي جانب من الجانبين بتعليق مؤقت للحركة الطبيعية، فسيبلغ الجانب الآخر بالأمر. هذا ما حدث لكن بالمقلوب حين أغلقت (إسرائيل) معبر بيت حانون(ايرز) والمنطقة الصناعية، حينها ضمت حوالي 120 ألف عامل لجيش البطالة المكدسة بقطاع غزة، كما أبقت على حوالي 105 آلاف عامل من الضفة الغربية يعملون في الداخل المحتل والمستوطنات.

وأما بالنسبة للعلاقات التجارية، نص بروتوكول باريس على تبادل البضائع الفلسطينية والإسرائيلية بين الجانبين بلا رسوم أو جمارك وبالنسبة للسياسات التي تحكم الاستيراد من أطراف ثالثة، ينص بروتوكول باريس على أن يتم استخدام نظام التجارة الخارجية وسياسة الاستيراد في (إسرائيل) كبرنامج لنظام التجارة الخارجية وسياسة الاستيراد في فلسطين وهي نسبة 75% على قيمة المشتريات (أي لا تستطيع السلطة الفلسطينية فرض رسوم وجبايات أخرى أقل من تلك التي تفرضها إسرائيل). وفي الجانب المالي تحصل (إسرائيل) سنويا ما قيمته 1.7 مليار دولار مقابل استقطاع حوالي 3% كمصاريف إدارية ونفقات جباية للمالية الصهيونية وهي ما تسمى مجازاً أموال " المقاصة الضريبية أو عوائد المقاصة " وهو ما سيرفع الأسعار ويولد التضخم والحرمان للمواطن الفلسطيني علماَ بأن متوسط دخل الفرد في (اسرائيل) هو أربعة أضعاف دخل المواطن الفلسطيني.

فمثلاً البترول يباع للسلطة ولا يجوز خفض أسعاره _حتى ولو بنسبة 1%_ حسب الاتفاقية وذلك كي لا يتحول الإسرائيليون إلى شراء هذه المشتقات من السوق الفلسطينية ويباع للمواطن بسعر هو ضعف شرائه وبنفس سعر بيعه في السوق الاسرائيلي وهو ما يولد تضخماً متزايداً. ورغم نص الاتفاقية على معاملة (إسرائيل) بالمثل للمستوردين الفلسطينيين والإسرائيليين، فإنها لا تطبق التعامل بالمثل. وفي مجال الترتيبات النقدية، نجد أن (إسرائيل) منعت السلطة الفلسطينية من إصدار عملة نقدية فلسطينية (وهذا ما كان قد نص عليه البروتوكول) ، في الوقت الذي فرضت فيه إبقاء العملة الإسرائيلية (الشيكل) متداولة في الأسواق الفلسطينية ، مما يؤثر على مستويات الأسعار في المناطق الفلسطينية ويعمل على ربط هذا الاقتصاد الهش والمبتدئ بالاقتصاد الإسرائيلي. ذلك أن الشيكل معرض دوماً للارتفاع أو التراجع، الأمر الذي يؤثر في الاقتصاد الفلسطيني بطريقة سلبية من خلال حرمانه لريع الإصدار النقدي للعملة الوطنية "وهو ما يعرف اقتصادياَ بالسينوريج “. البروتوكول نص أيضاً على اعتماد قيمة ضريبة الشراء نفسها في الأسواق الإسرائيلية والفلسطينية، مع العلم أنها تبلغ الآن 18% في (إسرائيل) والهدف منها حماية صناعاتها المحلية إن اتباع مثل هذا الاجراء يؤدي الى زيادة معدلات التضخم في الاسواق الفلسطينية.

لقد أدت بنود هذه الاتفاقية والقيود الاسرائيلية المتخذة ضد الفلسطينيين إلى عرقلة نمو الاقتصاد الفلسطيني، وزيادة العجز في الميزان التجاري مع اسرائيل، وتعميق الاعتماد على السوق الاسرائيلية، كما أثر (البروتوكول) سلباً على القدرة التنافسية للشركات الفلسطينية، وأدى إلى زيادة تكلفة الحياة اليومية على المواطن الفلسطيني، كما أسفر هذا البروتوكول عن خسائر ضريبية كبيرة لخزينة السلطة الوطنية الفلسطينية، وعن عجز الاقتصاد الفلسطيني عن التعامل مع الأسواق الخارجية، وبخاصة الأسواق العربية.

فمثلا فيما يتعلق بالعجز في الميزان التجاري وتحويلات العمالة، فقد شكلت الصادرات الفلسطينية إلى (إسرائيل) ما نسبته 89 % من إجمالي الصادرات، بينما شكلت الواردات الفلسطينية من (إسرائيل) ما نسبتة 90%من اجمالي الواردات في عام 2017. وارتفع العجز التجاري بين السلطة الفلسطينية و(إسرائيل) من 1.49 مليار دولار عام 1999 الى 4.5 مليار دولار في عام 2017. كما انخفضت أعداد العمال الفلسطينيين العاملين في (إسرائيل) من 240 ألف عامل في عام 1999، الى 105 الفا (بما في ذلك العمال في المستوطنات) في عام 2017.

ولضبط الأمور من قبل السلطة الوطنية الفلسطينية ننصح بما يلي:

  1. صياغة العلاقة الاقتصادية مع إسرائيل باتفاقية مختلفة تقوم على حرية التجارة، وتضمن التوازن معها والانفتاح على العالم، وذلك من خلال مراجعة كاملة وشاملة لبروتوكول باريس الاقتصادي وبكل مكوناته، هذه المراجعة يجب أن تقوم بناء على أسس الحقوق الاقتصادية والمعيشية والحياتية للمواطن الفلسطيني وليس على أساس المفاوضات السياسية فالحقوق الاقتصادية فروض.
  2.  ضرورة بناء قاعدة إنتاجية تشغيلية معتمدة على الاستثمار الحقيقي وذلك بتنفيذ كتلة من برنامج إصلاح اقتصادي يدعم القطاعات الإنتاجية مثل الصناعة والزراعة وتسهيل التجارة ويعمل على تنظيم السوق الداخلي ويقدم لمرحلة الأعتماد على الذات.
  3. إعلان السلطة الوطنية الفلسطينية إنسحابها من برتوكول باريس الاقتصادي على إعتبار أنها تعطى الجانب الإسرائيلي أحقية القرصنة بالتفتيش الأمني على البضائع ومنع العمال من العمل وإحالة النقد الفلسطيني لمتاحف التقاعد وعدم الإصدارالنقدي واستمرار الإبتزاز المالي على أموال المقاصة بالحجب لمرات ومرات وبالتالي وجب إنهاءة بالوسائل الرسمية وغير الرسمية.
  4. إن الإنسحاب من البروتوكل لأ يعني التغول الإسرائيلي وعدم وجود بديل كالتعديل أو الإنهاء، فالاستمرار به يعني مزيداً من العبودية الاقتصادية، التجارية، النقدية، المالية، التشغيلية.
  5. قبل إنسحاب السلطة الوطنية الفلسطينية من الاتفاقية، يجب عليها وضع خطط عمل للتشابك مع المحيط العربي وتحديداً البوابة الجنوبية الغربية مصر العروبة وذلك لأعادة تفعيل وتشغيل منفذ رفح البري ليس فقط لتسهيل تحركات المواطنين بل من أجل تأسيس وبناء قواعد تجارية (منطقة التجارة الحرة)، هذا الأمر متاح وممكن حال وجود توافق مصري فلسطيني.
  6. إعادة إعمال وتفعيل ميناء غزة كممر مائي هام وضروري للنهوض بالتجارة الخارجية وعمليات الاستيراد والقتال من مسافة صفر لأحقاق هذا الحق سواء بالطرق والوسائل الرسمية أو الغير رسمية (الشعبية والدولية).

وفي الختام أقول، صحيح أن الاستقرار السياسي متطلب أساسي للولوج لاقتصاد قوي وعفي، وأن القوة العسكرية والسياسية شرط ضروري لأي كيان أو دولة لكي تحافظ على أركان منظومتها السيادية والوطنية، لكن دون شك يبقي الاقتصاد ضرورة قصوى لها لكي تحمي قرارها الوطني، قد تقود في لحظة ما عربة السياسة عربة الاقتصاد، لكن غالباً ما يقود حصان الاقتصاد كل عربات السياسة، وهنا تكمن القصة بين أولوية اقتصاد أو حرية وطن، فالوجه القبيح في اتفاق أوسلوا او برتوكول باريس سببه الاحتلال فبقاءه أو زواله هو الداء والدواء 

 

مواضيع ذات صلة